قال ابن فارس: «العين والدال والحرف المعتل أصل واحد صحيح يرجع إليه الفروع كلها، وهو يدل على تجاوز في الشيء وتقدم لما ينبغي أن يقتصر عليه»[1].
العدوى: اسم من أعدى يعدي فهو معدٍ. ومعنى أعدى؛ أي: أجاز الجرب الذي به إلى غيره. أو أجاز جربًا بغيره إليه. وأصل هذا من: عدا يعدو؛ إذا جاوز الحد، يقال: أعداه الداء يعديه إعداءً، وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء، وذلك أن يكون ببعير جرب مثلاً فتتقي مخالطته بإبل أخرى حِذارًا أن يتعدى به من الجرب إليها فيصيبها ما أصابه[2].
[1] مقاييس اللغة (4/249) [دار الجيل، ط1420هـ].
[2] انظر: الصحاح (6/2421) [دار العلم للملايين، ط3، 1404هـ]، وترتيب القاموس المحيط (3/174 ـ 175) [دار عالم الكتب، ط1، 1417هـ].
العدوى: هي أن يصاب الرجل بمثل ما بصاحب الداء[1]، أو هي: تجاوز أو تعدي العلة أو المرض من صاحبها إلى غيره، أو ما يقاربه من الأصحاء[2]، أو هي بعبارة أخرى: انتقال المرض من المريض إلى الصحيح، سواء كان من إنسان إلى إنسان، أو من بهيمة إلى بهيمة، أو من مكان إلى مكان[3].
[1] انظر: النهاية في غريب الحديث (3/192) [دار إحياء التراث العربي].
[2] انظر: التوقيف على مهمات التعاريف (238) [عالم الكتب، ط1، 1410]، ولطائف المعارف (137) [دار ابن كثير، ط5، 1420هـ].
[3] انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد (1/563) [دار ابن الجوزي، ط2، 1423هـ]، وإعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد للفوزان (2/8) [مؤسسة الرسالة].
من اعتقد أن المرض بطبعه وقوته هو الذي يعدي ويؤثر في نفسه، ونفى أن يكون ذلك بقضاء الله وقدرته؛ فهذا من الشرك الأكبر المخرج من الملة، ومن اعتقد أن المرض سبب، والتفت إلى هذه الأسباب وغلا فيها فهو من الشرك الأصغر[1].
قال ابن رجب رحمه الله في كلامه على حديث: «لا عدوى» [2]: «وهذا مما يدل على أن المراد نفي تأثير هذه الأسباب بنفسها، من غير اعتقاد أنها بتقدير الله وقضائه، فمن أضاف شيئًا من النعم إلى غير الله، مع اعتقاد أنه ليس من الله، فهو مشرك حقيقة، ومع اعتقاد أنه من الله، فهو نوع شرك خفي»[3].
[1] انظر: مفتاح دار السعادة (3/342، 376 ـ 377) [دار ابن عفان، ط1، 1416هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5717)، ومسلم (كتاب السلام، رقم 2220).
[3] لطائف المعارف (142).
حقيقة العدوى: الفساد، وما يعدي من جرب أو غيره، وهي: انتقال المرض من المعلول السقيم إلى الصحيح، وذلك بالمخالطة، ونحوها؛ كالإبل الصحيحة يكون فيها بعير أجرب، فيجربها ويعديها، وهذا من جملة الأسباب التي خلقها الله تعالى، فالله خلق الأسباب ومسبباتها، فالعدوى التي أبطلها الإسلام هي التي كان يعتقدها أهل الجاهلية، ولم يبطل وجودها، أو ينفي تأثيرها، لكن صحح المفهوم الباطل فيها؛ وهو أنها تؤثر بنفسها، دون اعتبار أن ذلك بقضاء الله وقدره[1].
[1] حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد (214) [ط5، 1424هـ].
عن أنس رضي الله عنه؛ أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل: الكلمة الحسنة، الكلمة الطيبة»[1].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا عدوى ولا صفر ولا هامة» ، فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي، تكون في الرمل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال: «فمن أعدى الأول؟»[2].
وعنه رضي الله عنه قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر، وفر من المجذوم كما تفر من الأسد»[3].
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لا يعدي شيء شيئًا» ، فقال أعرابي: يا رسول الله، البعير أجرب الحشفة ندبنه فيجرب الإبل كلها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فمن أجرب الأول؟ لا عدوى ولا صفر، خلق الله كل نفس فكتب حياتها ورزقها ومصائبها»[4].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5756)، ومسلم (كتاب الطب، رقم 2224) واللفظ له.
[2] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5717)، ومسلم (كتاب الطب، رقم 2220).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5707)، ومسلم (كتاب السلام، رقم 2220).
[4] أخرجه الترمذي (أبواب القدر، رقم 2143)، وأحمد (7/252) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحَّحه ابن حجر في نزهة النظر (77) [مطبعة الصباح، ط3]، والألباني في السلسلة الصحيحة (3/143) [مكتبة المعارف، ط1415هـ].
قال البغوي رحمه الله: «العدوى: أن يكون ببعير جرب، أو بإنسان برص، أو جذام فتتقي مخالطته؛ حذرًا أن يعدو ما به إليك، ويصيبك ما أصابه. فقوله: «لا عدوى» : يريد أن شيئًا لا يعدي شيئًا بطبعه، إنما هو بتقدير الله عزّ وجل وسابق قضائه»[1].
وقال ابن القيِّم رحمه الله تحت قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا عدوى» : «هذا يحتمل أن يكون نفيًا أو يكون نهيًا؛ أي: لا تطيروا، ولكن قوله في الحديث: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة» يدل على أن المراد النفي وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها، والنفي أبلغ من النهي؛ لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدل على المنع منه»[2].
وقال ابن رجب رحمه الله: «اختلفوا في معنى قوله «ولا عدوى» وأظهر ما قيل في ذلك: إنه نفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن هذه الأمراض تعدي بطبعها من غير اعتقاد تقدير الله لذلك، ويدل على هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فمن أعدى الأول» يشير أن الأول إنما جرب بقضاء الله وقدره، فكذلك الثاني وما بعده»[3].
[1] شرح السُّنَّة (12/169) [المكتب الإسلامي، ط2].
[2] مفتاح دار السعادة (3/280) [دار ابن عفان، ط1، 1416هـ].
[3] لطائف المعارف (138).
ـ العدوى بين الإثبات والنفي:
وردت أحاديث عدة يوهم ظاهرها التعارض في شأن العدوى، فهناك أحاديث تفيد نفي وجود العدوى ـ كما فهمه طائفة من أهل العلم ـ كقوله صلّى الله عليه وسلّم المتقدم آنفًا: «لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة» ، ونحوها من الأحاديث التي بمعناها.
وهناك أحاديث يفهم منها إثبات وجود العدوى، فمنها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يوردن ممرض على مصح» [1].
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وفرَّ من المجذوم فرارك من الأسد»[2].
فنهيه صلّى الله عليه وسلّم عن إيراد الممرض على المصح، وأمره بالفرار من المجذوم دال على وجود العدوى وآمر بالتحرز من وقوعها ومباعدة أسباب حصولها.
وقد سلك أهل العلم مسالك عدة في دفع هذا التعارض[3]:
فمنهم من ذهب إلى القول بالنسخ؛ أي: نسخ الأحاديث المثبتة للعدوى بحديث: «لا عدوى» ، ومنهم من عكس.
ومنهم من ذهب إلى الترجيح، فرجح طائفة الأحاديث النافية للعدوى، ورد الأحاديث المثبتة لها، ورجح طائفة أخرى الأحاديث المثبتة للعدوى ورد حديث: «لا عدوى».
ومنهم من ذهب إلى الجمع بين هذه الأحاديث والتوفيق بينها، وهو ما ذهب إليه جمع كبير من أهل العلم كالطبري، والطحاوي، وابن قتيبة، وابن خزيمة، والخطابي، والبيهقي، وابن الصلاح، والنووي، وابن رجب، وابن القيِّم، وابن مفلح، وغيرهم، ولكن لم يتفق هؤلاء على مسلك واحد في الجمع بين تلك الأحاديث بل تنوعت مسالكهم، وأصح هذه المسالك هو حمل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا عدوى» على نفي ما كان يعتقده أهل الجاهلية من الركون إلى السبب، والتعلق به دون الله عزّ وجل، والواجب أن لا يتجاوز به منزلته السببية، وأما النصوص المثبتة للعدوى فتحمل على أن العدوى من الأشياء التي جعلها الله سببًا لانتقال المرض من السقيم إلى الصحيح، وقد تتخلف لموانع، أو أمور تقتضي ذلك[4].
ومن الأدلة على إثبات وجود العدوى وانتقالها من المريض إلى السليم بإذن الله وتقديره، ما أثبته علم الطب الحديث أن من الأمراض المعينة ما ينتقل بواسطة الميكروبات ويحملها الهواء أو البصاق أو غير ذلك على اختلاف أنواعها، وأن تأثيرها على الصحيح إنما يكون تبعًا لقوته وضعفه بالنسبة لكل نوع من الأنواع، وأن كثيرًا من الناس لديهم وقاية خلقية تمنع قبولهم لبعض الأمراض المعدية، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال، فاختلاط الصحيح بالمريض سبب لنقل المرض، وقد يتخلف هذا السبب تبعًا لتقدير الله تعالى[5].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5771)، ومسلم (كتاب الطب، رقم 2221).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5707).
[3] انظر: أعلام الحديث (4/2139) [جامعة أم القرى، مكة، ط1، 1409هـ]، ومعالم السنن (4/234) [المطبعة العلمية، حلب، ط1]، وشرح السُّنَّة (12/169)، ومفتاح دار السعادة (3/362)، وتيسير العزيز الحميد (2/752) [دار الصميعي، ط1]، والقول المفيد (1/565) [دار ابن الجوزي، ط2، 1423هـ]، وأحاديث العقيدة التي يوهم ظاهرها التعارض في الصحيحين (1/76).
[4] انظر: مفتاح دار السعادة (3/376)، ولطائف المعارف (138)، وتيسير العزيز الحميد (2/754)، والقول المفيد (1/565 ـ 566).
[5] الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث (171).
1 ـ الأشاعرة الذين ينفون الأسباب، فيقولون: إن العدوى لا تكون بسبب المرض؛ بل عنده، وهذا مبني على أصل مذهبهم في نفي تأثير قدرة العباد، ونفي القوى والطبائع التي خلقها الله تعالى في المخلوقات، ومذهبهم باطل بالكتاب والسُّنَّة، ومما يبطل مذهبهم في مسألتنا هذه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يوردن ممرض على مصح» [1]، وأمثال ذلك؛ لأن فيه إثبات تأثير الأسباب في مسبباتها، ولا يكون ذلك إلا بقضاء الله وقدرته.
فالمذهب الحق في هذه المسألة هو مذهب التوسط الذي ذهب إليه أهل السُّنَّة والجماعة، من إثبات العدوى، وأنها من جملة الأسباب التي خلقها الله تعالى، والله تعالى قدر الأسباب ومسبباتها، وقد يوجد السبب ويتخلف المسبب، وذلك كله بمحض قدرته سبحانه وتعالى.
قال ابن القيِّم رحمه الله: «فإن تعطيل الأسباب وإخراجها عن أن تكون أسبابًا: تعطيل للشرع، ومصالح الدنيا، والاعتماد عليها والركون إليها، واعتقاد أن المسببات بها وحدها، وأنها أسباب تامة: شرك بالخالق عزّ وجل، وجهل به، وخروج عن حقيقة التوحيد، وإثبات مسبباتها على الوجه الذي خلقها الله عليه، وجعلها له: إثبات للخلق والأمر، وللشرع والقدر، للسبب والمشيئة، للتوحيد والحكمة، فالشارع يثبت هذا ولا ينفيه، وينفي ما عليه المشركون من اعتقادهم في ذلك»[2].
[1] تقدم تخريجه.
[2] انظر: مفتاح دار السعادة (3/376 ـ 377).
1 ـ «تأويل مختلف الحديث» (ج1)، لابن قتيبة.
2 ـ «التمهيد» (ج24)، لابن عبد البر.
3 ـ «المنهاج في شعب الإيمان» (ج2)، للحليمي.
4 ـ «الآداب الشرعية» (ج3)، لابن مفلح.
5 ـ «إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد»، للفوزان.
6 ـ «التمهيد لشرح كتاب التوحيد»، لصالح آل الشيخ.
7 ـ «أحاديث العقيدة التي يوهم ظاهرها التعارض في الصحيحين»، لسليمان الدبيخي.
8 ـ «الدين الخالص» (ج2)، لصديق حسن خان.
9 ـ «الشرك ومظاهره»، لمبارك الميلي.
10 ـ «قواعد ومسائل في توحيد الإلهية»، لعبد العزيز الريس.