حرف العين / عذاب القبر ونعيمه

           

العذاب : النكال، والعقوبة، يقال عَذَّبْتُه تَعْذِيبًا وعَذَابًا[1]، وهو «اسم لما استمر ألمه»[2]، وأصله الضرب[3]، ومنه قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ *} [يس] ؛ أي: ضربًا مؤلمًا[4].
والنعيم : العيش اللذيذ[5]، والنَّعِيمُ والنُّعْمى والنَّعْماء والنِّعْمة: كله الخَفْض والدَّعةُ والمالُ، وهو ضد البَأساء والبُؤسى[6]، «والتَّنَعُّمُ: التَّرَفُّهُ ويُنْعِمُهُم: كيُكْرِمُهُم»[7].


[1] انظر: القاموس المحيط (1/145) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1407هـ]، وتاج العروس (3/329) [دار الهداية]، ولسان العرب (1/583) [دار صادر، ط3، 1414هـ].
[2] نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر (479) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1404هـ].
[3] انظر: مقاييس اللغة (4/211) [دار الفكر].
[4] انظر: نزهة الأعين النواظر (479).
[5] تفسير السمعاني (2/297) [دار الوطن، 1418هـ].
[6] انظر: العين (2/161)، ولسان العرب (12/579)، والقاموس المحيط (1500)، وتاج العروس (33/499).
[7] القاموس المحيط (1500).


عذاب القبر: ما ينال بعض المكلفين من سوء وألم متفاوت بعد الموت، ونعيمه: ما ينال المسلمين من سرور وفرح متفاوت بعد الموت[1].


[1] انظر: شرح العقيدة الطحاوية (451).


المعنى الشرعي مأخوذ من اللغوي لكنه عذاب ونعيم مخصوص جاءت به نصوص الكتاب والسُّنَّة.



أضيف إلى القبر من باب التغليب؛ لأن الغالب في الموتى أنهم يدفنون في القبور، لا على أنه خاص بمن يدفن[1]، فكل من مات ناله نصيبه من العذاب أو النعيم، قُبر أو لم يُقبر، فلو أكلته السباع، أو أحرق حتى صار رمادًا ونسف في الهواء، أو صلب، أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب أو النعيم ما يصل إلى أهل القبور[2].


[1] انظر: مجلة المنار (32/268).
[2] انظر: المرجع السابق (32/268).


يسمى عذاب البرزخ ونعيمه، قال ابن القيِّم: «ينبغي أن يعلم أن عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه»[1].
الحكم:
الاعتقاد الجازم بحصول العذاب أو النعيم للناس بعد الموت، والتصديق بجميع الأخبار الواردة بشأنه، وإثبات ما دلَّت عليه من عذاب الأموات ونعيمهم على ظاهره، وإن لم يدرك العقل أو الحس كنهه وحقيقته.


[1] الروح (128) [دار الكتاب العربي، ط4، 1410هـ].


جاءت نصوص الكتاب والسُّنَّة مبينة لأخبار ما يكون في الحياة البرزخية من أهوال ونعيم، فمن الناس من ينعم في قبره، ومنهم من يعذب، وذلك الجزاء حاصل للروح والجسد.



أحد مفردات الآخرة؛ لأن من مات فقد قامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء في أول منازل الآخرة، وهو القبر، وفيه يجازى بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر.



قال تعالى في شأن المعذَّبين في قبورهم: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ *} [غافر] ، قال ابن كثير: «وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السُّنَّة على عذاب البرزخ في القبور»[1].
وقال تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ *} [التوبة] ، فالعذاب الثاني هو عذاب القبر، حكاه ابن كثير عن جمع من الصحابة والتابعين[2].
وفي الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق فقال: «ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس»[3].
وفي التعوذ من عذاب القبر قال صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا، وفتنة الممات، اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من المأثم والمغرم»[4].
فالنصوص السابقة تدل على عذاب القبر.
وأما نعيم القبر فقد قال تعالى في شأن المؤمنين المنعمين: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *} [فصلت] ، والبشرى تكون في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث[5].
وقال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *} [آل عمران] .
قال القرطبي: «أخبر الله تعالى فيها عن الشهداء أنهم أحياء في الجنة يرزقون، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب، وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين، وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم»[6].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لما أُصيب إخوانكم بأُحُد جعل الله عزّ وجل أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم؛ قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عزّ وجل : أنا أبلغهم عنكم» فأنزل الله عزّ وجل هؤلاء الآيات على رسوله صلّى الله عليه وسلّم: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *} [آل عمران] [7].
ولما توفي أبو سلمة رضي الله عنه قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه»[8].
وقد بلغت النصوص الحديثية الدالة على عذاب القبر ونعيمه مبلغ التواتر، كما نص على ذلك جمع من أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيِّم، وابن أبي العز الحنفي، وابن رجب الحنبلي، والسيوطي، والكتاني، والسفاريني، والزبيدي، والشوكاني، والمناوي، وناصر الدين الألباني، وغيرهم[9].


[1] تفسير ابن كثير (4/81) [دار طيبة، ط2، 1420هـ].
[2] انظر: المرجع السابق (2/386).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6396)، ومسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 627).
[4] أخرجه البخاري (كتاب الأذان، رقم 832)، ومسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 589).
[5] انظر: معالم التنزيل (7/173) [دار طيبة، ط1409هـ]، والجامع لأحكام القرآن (15/359) [دار إحياء التراث العربي].
[6] الجامع لأحكام القرآن (4/269).
[7] أخرجه أبو داود (كتاب الجهاد، رقم 2520)، وأحمد (4/218) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، والحاكم (كتاب الجهاد، رقم 2444) وصحَّحه، وحسَّنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (رقم 2275) [مؤسسة غراس، ط1].
[8] أخرجه مسلم (كتاب الجنائز، رقم 920).
[9] رسائل الآخرة (1/256).


قال أبو بكر الإسماعيلي حكاية لمعتقد أئمة الحديث في عذاب القبر: «يقولون: إن عذاب القبر حق، يعذب الله من استحقه إن شاء، وإن شاء عفا عنه»[1].
وقال النووي: «اعلم أن مذهب أهل السُّنَّة والجماعة إثبات عذاب القبر، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسُّنَّة»[2].
وقال ابن تيمية: «مذهب سائر المسلمين بل وسائر الملل إثبات الثواب والعقاب في البرزخ»[3].
وقال ابن القيِّم: «ينبغي أن يعلم أن عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة»[4].


[1] اعتقاد أئمة الحديث (69) [دار العاصمة، ط1، 1412هـ].
[2] شرح صحيح مسلم النووي (17/200) [دار الكتب العلمية].
[3] مجموع الفتاوى (4/262) [دار عالم الكتب، ط1412هـ].
[4] الروح (128)، وانظر منه: (96).


عذاب القبر نوعان: مستمر ومنقطع.
دلت نصوص الوحي على أن عذاب القبر ليس على صورة واحدة؛ بل هو متنوع بحسب حال الشخص، فقد يكون مستمرًا وقد يكون منقطعًا.
فالعذاب المستمر: هو العذاب الدائم الذي لا ينقطع عن مستحقه حتى تقوم الساعة، وهو للكفار خاصة ولبعض عصاة الموحدين على ذنوب معينة.
قال صلّى الله عليه وسلّم في صاحب الكبر والخيلاء: «بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خُسف به، فهو يتجلجل[1] في الأرض إلى يوم القيامة» [2]، وفي رواية: «بينما رجل يمشي قد أعجبته جمته وبرداه إذ خُسف به الأرض، فهو يتجلجل في الأرض حتى تقوم الساعة»[3].
وقال صلّى الله عليه وسلّم في صاحب الكذبة تبلغ الآفاق وأطراف الأرض: «أما الذي رأيته يُشَقُّ شِدْقُه؛ فكذابٌ يحدِّث بالكذبة، فتُحْمَل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيُصْنَع به إلى يوم القيامة» [4]، فالشاهد منه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فيُصْنَع به إلى يوم القيامة».
وفي العذاب والنعيم المتصلان قال صلّى الله عليه وسلّم في المقعد يُعْرَض على صاحبه: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة»[5].
فتبين أن من عذاب القبر ما يكون متصلاً دائمًا لا ينقطع إلى يوم البعث الآخر، وأنه ليس خاصًّا بالكافرين؛ بل قد ينال بعض الموحدين المفرطين.
وأما العذاب المنقطع: فهو الذي لا يستمر بصاحبه؛ بل ينقطع قبل يوم القيامة، فهو مؤقت يزول بزوال سببه، أو باستيفاء عقوبته.
ومثال الأول: تعذيب الميت المسلم ببكاء الحي؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الميت لَيُعَذَّب ببكاء أهله عليه»[6].
أي: البكاء المحرم، وهو ما كان بصوت وندب ونياحة، لا مجرد دمع العين، فهذا لا محظور فيه ولا يتعلق به وعيد؛ بدليل بكاء النبي صلّى الله عليه وسلّم على ابنه إبراهيم عليه السلام.
ومثال الثاني: صاحب الصفَّة الذي مات وقد ترك دينارًا أو دينارين، فكوي بكل دينار كية، قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن رجلاً من أهل الصفَّة مات فوجدوا في بردته دينارين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كَيَّتان»[7].
وهذا النوع من العذاب المنقطع خاص بالمؤمنين دون غيرهم، فليس بمقر دائم لأرواحهم.


[1] يتجلجل: يغوص في الأرض حين يخسف به، والجلجلة حركة مع صوت. انظر: النهاية في غريب الحديث (1/284) [دار الفكر].
[2] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3485) من حديث ابن عمر، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2088) من حديث أبي هريرة.
[3] أخرجه البخاري (كتاب اللباس، رقم 5789)، ومسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2088) واللفظ له.
[4] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1386).
[5] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1379)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2866).
[6] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1286)، ومسلم (كتاب الجنائز، رقم 927).
[7] أخرجه أحمد (7/101) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وأبو يعلى (8/415) [دار المأمون، ط1]، وابن حبان (كتاب الزكاة، رقم 3263)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/240) [مكتبة القدسي]: «رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، وفيه عاصم بن بهدلة، وقد وثقه غير واحد، وبقية رجاله رجال الصحيح»، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (6/286).


المسألة الأولى: وقت عذاب القبر ونعيمه:
أفاد ظاهر النصوص أن العذاب والنعيم يقعان فيما بين الموت والبعث من القبور.
المسألة الثانية: عذاب القبر ونعيمه يقعان على الروح والبدن:
دلَّت أحاديث المساءلة في القبر على الخصوص، أن الروح تعود إلى البدن، وأنه يتبع ذلك ألوان من النعيم أو العذاب، وهو عود خاص «ليس مثل عودها إليه في هذه الحياة الدنيا، وإن كان ذلك قد يكون أكمل من بعض الوجوه»[1].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السُّنَّة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين، كما يكون للروح منفردة عن البدن»[2].
وقال ابن كثير عمن تتوفاهم الملائكة وهم ظالمو أنفسهم: «يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادهم في قبورهم من حرِّها وسمومها»[3].
وقال السيوطي: «ومحله الروح والبدن باتفاق أهل السُّنَّة»[4].
وقال الألوسي: «العذاب والنعيم للروح والبدن مسلم عند الجمهور»[5].
المسألة الثالثة: فتنة القبر:
فتنة القبر: امتحان الميت واختباره بعد عود الروح إلى جسده وإقعاده؛ فيسأله الملكان عن ربه ودينه ونبيه، فإن كان صالحًا وفق للإجابة، ثم أكرم وكوفئ بألوان من النعيم، وإن كان سيّئًا أهين وجوزي بألوان من العذاب.
وهذه الفتنة ثابتة بالنصوص الشرعية، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ *} [إبراهيم] ، فهذه الآية نزلت في تثبيت المؤمن عند السؤال كما جاء في الصحيحين وغيرهما[6].
وفي حديث البراء بن عازب الطويل قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» . مرتين أو ثلاثًا، زاد في حديث جرير هاهنا، وقال: «وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له: يا هذا، من ربك وما دينك ومن نبيِّك؟». قال: «ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟» . قال: «فيقول: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت» . زاد بعض رواته: «فذلك قول الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ *} [إبراهيم] ». قال: «فينادي مناد من السماء: أن قد صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة» . قال: «فيأتيه من روحها وطيبها» . قال: «ويفتح له فيها مد بصره» . قال: «وإن الكافر» . فذكر موته، قال: «وتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب، فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار» . قال: «فيأتيه من حرّها وسمومها» . قال: «ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ». زاد بعض رواته: «ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد، لو ضرب بها جبل لصار ترابًا» . قال: «فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين، فيصير ترابًا» . قال: «ثم تعاد فيه الروح»[7].
وكان صلّى الله عليه وسلّم يتعوذ من فتنة القبر، يقول: «اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من فتنة النار، ومن عذاب النار، وأعوذ بك من فتنة القبر، وأعوذ بك من عذاب القبر»[8].
ودعا صلّى الله عليه وسلّم لبعض الأموات فقال: «ألا إن فلان بن فلان في ذمتك وحبل جوارك، فقه فتنة القبر وعذاب النار، أنت أهل الوفاء والحق، اللَّهُمَّ فاغفر له وارحمه، فإنك أنت الغفور الرحيم»[9].
وأهل السُّنَّة يثبتون هذا المعتقد بالإجماع؛ لدلالة النقل عليه، وهو من العقائد الثابتة بالتواتر. قال ابن عبد البر: «وأهل السُّنَّة والجماعة مصدقون بفتنة القبر وعذاب القبر؛ لتوافر الأخبار بذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم»[10].
المسألة الرابعة: سؤال الأنبياء وغير المكلفين:
اختلف العلماء في سؤال الأنبياء وغير المكلفين، والأظهر أن الأنبياء لا يسألون؛ لأنهم المسؤول عنهم، وأما غير المكلفين؛ فلأن السؤال إنما يكون لمن عقل الرسول والمرسل[11].
ولا يصح ما ورد في استثناء من مات مخضوبًا من الفتنة[12]، ولا من صلى بعد المغرب ركعتين بكيفية معينة[13].
ومن أبرز ما يتعلق بفتة القبر من مسائل الاعتقاد التي يجب الإيمان بها؛ لدلالة النصوص الصحيحة عليها: عود الروح إلى الجسد عند السؤال، وإجلاس الميت، ورجوع العقل إلى صاحبه، وبعثه على ما مات عليه من معتقد، وسماعه خفق نعال أصحابه إذا ولوا، وسؤاله عقب تفرق الناس أو بعضهم، وأن السائل ملك أو اثنان حسب حاله، وأن الرجل الصالح يثبت وينعم، وأن الرجل السوء على الضد[14].
المسألة الخامسة: عرض المقعد والبشارة به:
عرض المقعد هو: معاينة الميت مقعديه من الجنة والنار، وما أعد له في كل مكان منهما من ألوان النعيم والعذاب، والمقعد الذي سيصير إليه منهما ويستقر فيه نهاية أمره استقرارًا دائمًا، يفعل به ذلك غدوًا وعشيًا إلى يوم البعث.
وهو أحد مفردات البرزخ المتعلقة بالآخرة، ويكون بعد عود الروح إلى البدن، والإقعاد، والسؤال، فيجب الإيمان به كما جاءت به النصوص.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة»[15].
وفي حديث طويل أنه بعد الإجلاس والسؤال للمؤمن «يفتح له باب من أبواب الجنة، فيقال له: هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها، فيزداد غبطة وسرورًا، ثم يفتح له باب من أبواب النار، فيقال له: هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها لو عصيته، فيزداد غبطة وسرورًا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا وينور له فيه» ، وقال في الكافر: «يفتح له باب من أبواب النار فيقال له: هذا مقعدك من النار وما أعد الله لك فيها فيزداد حسرة وثبورًا، ثم يفتح له باب من أبواب الجنة، فيقال له: ذلك مقعدك من الجنة وما أعد الله لك فيه لو أطعته فيزداد حسرة وثبورًا، ثم يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه»[16].
والبشارة بنوع المقعد والكشف عنه تسبق الدفن، لحديث أم المؤمنين عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» فقلت يا نبي الله: أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت، فقال: «ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشّر برحمة الله ورضوانه وجنته أحبَّ لقاء الله، فأحبَّ الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشّر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله، وكره الله لقاءه»[17].
ويدل عليه أيضًا حديث تكلم الجنازة إذا احتملها الرجال[18]؛ فقد ذكر البخاري باب كلام الميت المحمول بعد باب عرض المقعد، إشارة إلى هذا المعنى، قال بدر الدين العيني: «راعى هنا أيضًا مناسبة ترجمة هذا الباب لترجمة الباب الذي قبله وهو عرض المقعد عليه، فكأن ابتداءه يكون عند حمل الجنازة؛ لأنه حينئذ يظهر للميت ما يؤول إليه حاله، فعند ذلك يقول ما يقول»[19].
ثم إن عرض المقعد يكون على الروح والجسد معًا، وقد دلَّ عليه ظاهر الحديث الآنف، «ولا مانع من إعادة الروح إلى الجسد أو إلى البعض الذي يدرَك منه حالة العرض»[20].
كما أن عرض المقعد عام فيما دون الأنبياء، كما هو ظاهر النصوص، وإنه لا تعارض بين عرض المقعد وكون الروح طيرًا يأكل من ثمر الجنة.
لا تنافي بين قوله: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة» [21]، وبين قوله: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار» [22]، وهذا الخطاب يتناول الميت على فراشه والشهيد، كما أن قوله: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة» يتناول الشهيد وغيره، ومع كونه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي ترد روحه أنهار الجنة وتأكل من ثمارها.
وأما المقعد الخاص به، والبيت الذي أعد له، فإنه إنما يدخله يوم القيامة، ويدل عليه أن منازل الشهداء ودورهم وقصورهم التي أعد الله لهم ليست هي تلك القناديل التي تأوي إليها أرواحهم في البرزخ قطعًا، فهم يرون منازلهم ومقاعدهم من الجنة، ويكون مستقرهم في تلك القناديل المعلقة بالعرش، فإن الدخول التام الكامل إنما يكون يوم القيامة ودخول الأرواح الجنة في البرزخ أمر دون ذلك[23].
المسألة السادسة: أسباب عذاب القبر:
أسباب عذاب القبر كثيرة، ومما دلَّت عليه النصوص[24] ما يأتي:
أ ـ الغلول، لحديث أبي رافع قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا صلى العصر ربما ذهب إلى بني عبد الأشهل، فيتحدث حتى ينحدر للمغرب، فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسرعًا إلى المغرب، إذ مر بالبقيع، فقال: «أف لك، أف لك» مرتين، فكبَّر في ذرعي، وتأخرت، وظننت أنه يريدني، فقال: «ما لك؟ امش» قال: قلت: أحدثتُ حدثًا يا رسول الله؟ قال: «وما ذاك؟» قلت: أففتَ بي. قال: «لا، ولكن هذا قبر فلان، بعثته ساعيًا على بني فلان، فغلَّ نمرة، فدُرِّع الآن مثلها من نار»[25].
ب ـ تعذيب الحيوان، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها ولم تسقها، ولم ترسلها فتأكل من خشاش الأرض»[26].
ج ـ الكبر والخيلاء، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خُسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة»[27].
د ـ الغيبة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لما عرج بي ربي عزّ وجل مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم»[28].
هـ أكل الربا؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم ـ كما في حديث سمرة بن جندب الطويل ـ لما أتاه آتيان فابتعثاه، وفيه: «فإذا نهر من دم فيه رجل، وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فيُقبل الرجل الذي في النهر، فإذا دنا ليخرج رمى في فيه حجرًا فرجع إلى مكانه، فهو يفعل ذلك به، فقلت: ما هذا؟ فقالا: انطلق. فانطلقت فقلت لهما: إنكما قد طوَّفتماني منذ الليلة، فأخبراني عما رأيت. فقالا: نعم،... وأما الذي رأيت في النهر: فذاك آكل الربا»[29].
و ـ التألي على الله، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كان في بني إسرائيل رجلان: كان أحدهما مجتهدًا في العبادة، وكان الآخر مسرفًا على نفسه، فكانا متآخيين، فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب، فيقول: يا هذا أقصر. فيقول: خلني وربي، أبُعثت علي رقيبًا؟ قال: إلى أن رآه يومًا على ذنب استعظمه، فقال له: ويحك أقصر. قال: خلني وربي، أبُعثت علي رقيبًا. قال: فقال: والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة أبدًا. قال: فبعث الله إليهما ملكًا، فقبض أرواحهما واجتمعا، فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: أكنت بي عالمًا؟ أكنت على ما في يدي خازنًا؟ اذهبوا به إلى النار» ، قال أبو هريرة: «فوالذي نفس أبي القاسم بيده لتكلم بالكلمة أوبقت دنياه وآخرته»[30].
المسألة السابعة: أسباب رفع العذاب عن الموحد:
يرتفع عذاب البرزخ «عمن استحقه من المؤمنين أو تلبَّس به بدعاء، أو استغفار، أو صدقة، أو إهداء ثواب عمل صالح، أو بعفو من الله ـ تعالى ـ فإنه سبحانه يغفر ما دون الشرك كما قال: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] »[31].
المسألة الثامنة: المنجيات من عذاب القبر:
دلت الأحاديث على أن من الأسباب الموجبة للاستثناء من فتنة القبر وعذابه ما يلي[32]:
أولاً: الوقاية من فتنة القبر:
أ ـ الموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وُقي فتنة القبر»[33].
ب ـ موت المرابط في سبيل الله، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كل ميت يختم على عمله، إلا الذي مات مرابطًا في سبيل الله، فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر»[34].
ثانيًا: الوقاية من عذاب القبر:
أ ـ الموت بالبطن؛ يعني: بمرض البطن، والمقصود به الإسهال، وقيل: الاستسقاء[35].
لما روى جامع بن شداد قال: سمعت عبد الله بن يسار قال: كنت جالسًا مع سليمان بن صرد وخالد بن عرفطة قال: فذكروا رجلاً مات من بطنه، قال: فكأنما اشتهيا أن يصلِّيا عليه، قال: فقال أحدهما للآخر: ألم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من قتله بطنه فإنه لن يعذب في قبره» قال الآخر: بلى[36].
ب ـ الشهادة في سبيل الله، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن للشهيد عند الله عزّ وجل ست خصال: أن يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانًا من أقاربه»[37].


[1] مجموع الفتاوى (4/274).
[2] المرجع السابق (4/282).
[3] تفسير القرآن العظيم (2/568).
[4] شرح الصدور (247) [دار ابن كثير، ط2، 1413هـ].
[5] الآيات البينات في عدم سماع الأموات (80) [المكتب الإسلامي، ط4، 1405هـ].
[6] انظر: صحيح البخاري (1/461) [دار ابن كثير، ط4، 1410هـ]، وصحيح مسلم (8/162) [المكتب الإسلامي، ط1، 1409هـ].
[7] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4753)، وابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4269) مختصرًا، وأحمد (30/499) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصحَّحه ابن القيم في أعلام الموقعين (1/137) [دار الكتب العلمية، ط1]، والألباني في صحيح سنن أبي داود (2/619) و(3/901) [المكتب الإسلامي، 1409هـ].
[8] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6376).
[9] أخرجه أبو داود (كتاب الجنائز، رقم 3202)، وابن ماجه (كتاب الجنائز، رقم 1499)، وأحمد (25/399) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، وابن حبان (كتاب الجنائز، رقم 3074)، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/18).
[10] الاستذكار (2/421) [دار الكتب العلمية، ط1، 1421هـ].
[11] انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (4/257) [دار عالم الكتب، 1412هـ]، والروح (141) [دار الكتاب العربي، ط4، 1410هـ]، والأسئلة المحيرة حول الدنيا والآخرة (59) [مكتبة ابن سينا]، وشرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور (210) [دار ابن كثير، ط2، 1413هـ].
[12] انظر: الموضوعات (3/56) [مكتبة ابن تيمية، ط2، 1407هـ].
[13] انظر: تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة (2/97) [دار الكتب العلمية، ط2، 1401هـ].
[14] انظر: رسائل الآخرة (2/388 ـ 425).
[15] تقدم تخريجه.
[16] أخرجه ابن حبان (كتاب الجنائز، رقم 3113) واللفظ له، والحاكم (كتاب الجنائز، رقم 1403) وصحَّحه، وحسَّنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/219) [مكتبة المعارف، ط5].
[17] أخرجه مسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2684)، وهو عند البخاري أيضًا (كتاب الرقاق، رقم 6507) من حديث عبادة بن الصامت.
[18] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1380).
[19] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (13/125).
[20] طرح التثريب في شرح التقريب (3/403) [دار إحياء التراث العربي].
[21] أخرجه ابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4271)، والنسائي (كتاب الجنائز، رقم 2073)، وأحمد (6/350) [دار الفكر، ط1، 1411هـ] واللفظ له، ومالك في الموطأ (كتاب الجنائز، رقم 49)، وابن حبان (كتاب السير، رقم 4657)، وصحَّحه ابن كثير في تفسيره (2/164) [دار طيبة، ط2]، الألباني في السلسلة الصحيحة (2/694) [مكتبة المعارف، ط2، 1416هـ].
[22] تقدم تخريجه.
[23] انظر: الروح (97) [دار الكتاب العربي، ط4].
[24] راجع بتوسع: رسائل الآخرة (1/270 ـ 371).
[25] أخرجه النسائي (كتاب الإمامة، رقم 862)، وأحمد (45/170) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، وابن خزيمة (كتاب الزكاة، رقم 2337)، وحسَّنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 1350) [مكتبة المعارف، ط5].
[26] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3318)، ومسلم (كتاب السلام، رقم 2243).
[27] تقدم تخريجه.
[28] أخرجه أبو داود (كتاب الأدب، رقم 4878)، وأحمد (21/53) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، والطبراني في الأوسط (1/32) [دار الحرمين، 1415هـ]، والضياء في المختارة (6/266) [دار خضر، ط3]، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/293) [المكتب الإسلامي، ط1409هـ].
[29] أخرجه البخاري (كتاب البيوع، رقم 2085)، وأحمد (33/335) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له.
[30] أخرجه أبو داود (كتاب الأدب، رقم 4901)، وأحمد (14/46) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، وابن حبان (كتاب الحظر والإباحة، رقم 5712)، وجود إسناده العراقي في تخريج الإحياء (1500) [دار ابن حزم، ط1]، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (رقم 4455).
[31] رسائل الآخرة (1/371).
[32] انظر: رسائل الآخرة (1/406 ـ 425).
[33] أخرجه الترمذي (أبواب الجنائز، رقم 1074)، وأحمد (11/627) [مؤسسة الرسالة، ط1]، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: «هذا حديث غريب،... وليس إسناده بمتصل»، لكن له شواهد يرتقي بها إلى الحسن، كما ذكر الألباني في أحكام الجنائز (35) [المكتب الإسلامي، ط4].
[34] أخرجه الترمذي (أبواب فضائل الجهاد، رقم 1621) وقال: حسن صحيح، وأحمد (39/374) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب السير، رقم 4624)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/31).
[35] انظر: التذكرة في أحوال الموتى والآخرة (172) [دار قباء].
[36] أخرجه الترمذي (أبواب الجنائز، رقم 1064) وحسَّنه، والنسائي (كتاب الجنائز، رقم 2052)، وأحمد (30/242) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب الجنائز، رقم 2933)، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/309).
[37] أخرجه الترمذي (أبواب فضائل الجهاد، رقم 1663) وصحَّحه، وابن ماجه (كتاب الجهاد، رقم 2799)، وأحمد (28/419) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 3213).


عذاب القبر عاجل بشرى الكافر بالشر والنكال قبل مبعثه، وهو طهرة وتمحيص للمؤمن.
وأما النعيم فعاجل بشرى المؤمن قبل مبعثه، وما بعده فخير.



لعل الحكمة من فتة القبر وسؤال الملكين، تنبه الناس إلى ضرورة توحيد الدين في الإسلام، فإن الله لا يقبل غيره، وتوحيد الله في العبادة فإن الله لا يقبل الشرك، وتوحيد الرسول في المتابعة فإن الله لا يقبل غير طريقه.
وأما في الآخرة فدفع العقوبة ـ أو تخفيفها ـ عن مستحقها من المسلمين، قال ابن تيمية: «إن الذنوب مطلقًا من جميع المؤمنين هي سبب العذاب، لكن العقوبة بها في الآخرة في جهنم تندفع بنحو عشرة أسباب... السبب الثامن: ما يبتلى به المؤمن في قبره من الضغطة وفتنة الملكين»[1].


[1] منهاج السُّنَّة (6/205 ـ 238) [جامعة الإمام، ط1].


المخالفون لأهل السُّنَّة في هذا الباب على مراتب:
1 ـ منهم من أنكر عذاب القبر ونعيمه بالكلية.
2 ـ ومنهم من قال بوقوعه على الروح فقط.
3 ـ ومنهم من قال بوقوعه على البدن.
4 ـ ومنهم من قال بوقوع العذاب للكافرين، والنعيم للمؤمنين[1].
أولاً: أما من أنكره بالكلية:
فهم بعض المعتزلة[2]، والروافض[3][4]، والخوارج[5]، والقرآنيون[6].
والجواب على المنكرين على وجه الإجمال: إن عذاب القبر ونعيمه قد جاء به القرآن الكريم، والسُّنَّة الصحيحة المتواترة، وأجمع عليه السلف الصالح، فلا يجوز إنكاره.
أ ـ من الشبه النقلية التي أثاروها، قولهم: إن الله لم يذكر حياة القبر في قوله: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] ، وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *} [البقرة] ، وإنما ذكر أنه يحيهم مرة في الدنيا وأخرى في الآخرة[7]. والآيتان هما عمدة من أنكر عذاب القبر من المعتزلة والخوارج ومن نحا نحوهما[8].
ويجابون بأن مذهبهم مخالف لما عليه جمهور السلف، فالمشهور من أقوال المفسرين في الموتتين والحياتين: أن المراد بالموت، الأول: العدم السابق، وبالثاني: الموت المعهود في الدار الدنيا. والمراد بالإحياء الأول: حياة الدنيا، وبالثاني: البعث للقيامة الكبرى.
وقد رجح هذا القول الطبري[9]، وابن الجوزي[10] ونسبه لابن عباس، وقتادة، والفراء، وثعلب، والزجاج، وابن الأنباري، وهو قول ابن كثير[11]، وعليه جمهور السلف[12].
وعلى هذا القول فإنه ليس فيه ما ينفي حياة القبر؛ لأن إثبات الموتتين والحياتين المذكورتين في الآيتين لا ينفي وجود غيرهما، كما دلَّ عليه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 234] ، فأثبت لهم حياة زائدة يتبعها موت، والدلائل القرآنية في هذا المعنى كثيرة.
وأيضًا فحياة القبر، وعود الروح إلى الجسد للمساءلة، وما يتبع ذلك من العذاب أو النعيم قد ثبت بصحيح السُّنَّة، فلا يجوز إنكاره.
ولا بد من الجمع بين نصوص الكتاب والسُّنَّة، والأخذ بهما معًا دون تفريق، كما فعل جمهور السلف المفسرون لمعنى الآيتين الآنفتين.
ب ـ ومن شبههم العقلية، قولهم: إن حياة البرزخ تخالف المعقول، ولا تدرك بالحس أو المشاهدة.
فهم يزعمون أن تعذيب الميت محال؛ لأنه جماد لاحياة له ولا إدراك، وهو محال؛ لأنهم لم يدركوه بحس ولا مشاهدة[13]، ولذا فكل حديث يخالف عقولهم القاصرة، ينفونه ويقطعون بتخطئة ناقله[14]، ويزعمون أن النعيم أو العذاب لا يكون إلا بعد قيام الساعة الكبرى[15].
وهذه الشبهة العقلية التي أثارها بعض المعتزلة هي شبهة الخوارج، والروافض، والقرآنيين[16]، وهي شبهة الملاحدة والزنادقة عمومًا؛ إذ يقولون: باستحالة ضيق القبر وسعته، وكونه حفرة من حفر النيران، أو روضة من رياض الجنة، وأن الميت يُجلس في قبره ويُسئل، ويقولون لو وضعنا على صدره زئبقًا، ثم كشفنا عنه لوجدناه كما كان، وزعموا أنهم لم يجدوا ملائكة يضربون بمطارق من حديد، ويعذبون الناس[17].
فهم أشبه بالذين لا يعترفون إلا بالمحسوسات[18]، والذين ينكرون ما لا تدركه حواسهم، وما لا يمكن أن يدخل المعمل، ويخضع لآلة البحث والتجريب[19].


[1] انظر: رسائل الآخرة (1/225 ـ 260).
[2] انظر: مقالات الإسلاميين (2/166) [المكتبة العصرية، ط1411هـ]، والإبانة عن أصول الديانة (13، 14) [دار الكتاب العربي، ط1، 1405هـ]، والفصل لابن حزم (4/117) [دار الجيل، ط1405هـ]، وعقائد الثلاث وسبعين فرقة (1/352، 416) [مكتبة العلوم، ط1، 1414هـ]، وفتح الباري (3/275) [دار الفكر].
[3] انظر: عقائد الثلاث وسبعين فرقة (1/452)، ولطوائفها في ذلك تأويلات فاسدة، انظر: الإسماعيلية المعاصرة (94) [ط1، 1414هـ]، والبابية عرض ونقد (205) [دار ترجمان السُّنَّة، ط6، 1404هـ].
[4] ورد في بعض كتب الشيعة الاثني عشرية إثبات لعذاب البرزخ ونعيمة، ولكنه إثبات مشوه مخالف لما دلت عليه نصوص الوحي؛ إذ يجعلون مقر النعيم والعذاب أرضيًّا في هذه الدنيا. والشيعة الغلاة لا يؤمنون بحقيقة البرزخ؛ لقولهم بتناسخ الأرواح، ومن الشيعة الغلاة في هذا الباب: الفرق القديمة القائلة بحلول روح الإله في الأئمة، نحو: السبئية، والكيسانية، والكاملية، وغلاة الاثني عشرية... وغيرهم، ومن الغلاة المعاصرين: الإسماعيلية وسائر الفرق الباطنية الأخرى التي لها وجود اليوم، مثل: الدروز، والنصيرية، والبابية، والبهائية وغيرهم، والذي يجمعهم القول بالتناسخ والظاهر والباطن. راجع: الروح في الديانات والدعاوى المعاصرة (2/108 ـ 204) [رسالة دكتوراه، جامعة الإمام].
[5] انظر: مقالات الإسلاميين (2/116)، والفصل (4/117)، وفتح الباري (3/275).
[6] انظر: القرآنيون وشبهاتهم حول السُّنَّة (333) [مكتبة الصديق، ط1، 1409هـ].
[7] انظر: تفسير الرازي (1/166) [دار الفكر، ط3، 1405هـ]، والفصل (4/117).
[8] انظر: الفصل (4/117).
[9] انظر: تفسير الطبري (1/225) [دار الكتب العلمية، ط1، 1412هـ].
[10] انظر: زاد المسير (1/57) [المكتب الإسلامي، ط4].
[11] تفسير القرآن العظيم (1/68).
[12] انظر: فتح القدير (4/484) [دار الفكر، 1403هـ].
[13] انظر: الأصول الإيمانية لدى الفرق الإسلامية (480) [دار المعرفة الجامعية، ط1، 1414هـ]، وشرح العقيدة الواسطية لهراس (144) [الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة، ط5، 1411هـ].
[14] انظر: الروح (102)، ولوائح الأنوار السنية (1/160).
[15] انظر: عقائد الثلاث وسبعين فرقة (1/416)، ولوائح الأنوار السنية (2/270).
[16] انظر: القرآنيون وشبههم حول السُّنَّة (133، 134).
[17] انظر: الروح (111)، ولوائح الأنوار (2/160)، ولوامع الأنوار (2/20)، ومجموع فتاوى ابن عثيمين (5/134) [دار الوطن، 1413هـ]، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للفوزان (212) [جامعة الإمام محمد بن سعود، 1411هـ].
[18] مثل: الدهرية، انظر: دائرة المعارف الإسلامية (9/338) [دار الفكر].
[19] مثل: أهل التنوير أو التجريب. انظر: الإنسان بين المادية والإسلام (47 ـ 54) [دار الشروق، ط10، 1409هـ]، والعصرانية في حياتنا الاجتماعية (25) [دار المسلم، ط1، 1415هـ].


أولاً: إن علم البشرية واطلاعها على واقع البرزخ ـ حسًّا أو مشاهدةً ـ يترتب عليه عدة مفاسد، لعل من أبرزها:
1 ـ عدم التدافن، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: « لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر»[1].
وفي هذا من المفاسد ما لا يخفى، وتأكيدًا لذلك قال ابن القيِّم: «والعبد أضعف بصرًا وسمعًا من أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر، وكثيرٌ ممن أشهده الله ذلك صعق وغشي عليه ولم ينتفع بالعيش زمنًا، وبعضهم كشف قناع قلبه فمات»[2].
2 ـ انتفاء حكمة الإيمان بالغيب، وهي حدوث التمايز بين المؤمنين به والكافرين، قال ابن القيِّم: «جعل الله أمر الآخرة وما كان متصلاً بها غيبًا، وحجبها عن إدراك المكلفين في هذه الدار، وذلك من كمال حكمته، وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم»[3].
ثانيًا: إن قياس أحوال البرزخ بأحوال الدنيا غير صحيح؛ لأنه قياس لأمر أخروي غيبي بأمر دنيوي حسي، وهذا قياس فاسد؛ لاختلاف ما بين الدارين، فما يقع في دار البرزخ ليس من جنس المعهود لنا في دار الدنيا وإن اتفقت الأسماء، إذًا الاتفاق في أسماء ما في الدارين لا يوجب التماثل في مسمياتهما، «فليست النار كالنار، ولا السعة كالسعة، ولا الضيق كالضيق؛ بل بينهما تباين شاسع لا يدرك بعقل، ولا حس، ولا مشاهدة، قال ابن القيِّم: «النار التي في القبر والخضرة، ليست من نار الدنيا، ولا من زروع الدنيا، فيشاهده من شاهد نار الدنيا وخضرها، وإنما هي من نار الآخرة وخضرها»[4].
ثالثًا: عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود، وهذا دليل على قصور العقل ومحدودية إدراك البشر، والذين أمّروا العقل وجعلوا له سلطانًا في النفي والإثبات، فما أدركه العقل من أمور البرزخ أثبتوه وما لم يدركه نفوه، قد نسوا قصوره وعجزه عن الإحاطة بكل شيء جملة وتفصيلاً، ونسوا أن له حدًّا لا يتجاوزه ولا يتعداه.
ومما يثبت قصور العقل، وعدم إدراكه لكل شيء على التمام والكمال: وجود الجن والشياطين، والملائكة، والروح وهي عوالم غيبية أخبرنا الوحي من شأنها الكثير، ويعجز الإنسان عن أدراك الكثير من شأنها، فإذا كان الأمر كذلك فعجزه عن إدراك عالم البرزخ من باب أولى.
وأيضًا هناك مخلوقات موجودة نلمس أثرها، ولا نراها بأعيننا المحدودة؛ كالموجات الصوتية، والتيار الكهربائي، والأشعة الضوئية المنظورة وغير المنظورة، فقد «قرر علماء الضوء أخيرًا: أنه توجد أشعة غير منظورة مع الأشعة المنظورة لذلك فقد ظهر لفظ الطاقة المشعة، لتدل على جميع أشكال الإشعاع، سواء كانت مرئية أم غير مرئية»[5].
وأيضًا هناك مخلوقات موجودة أقل عقلاً من الإنسان، ولها من القدرات الحسية ما ليس له، فقد تحقق العلماء من قدرة بعض الأحياء على رؤية ما لا نراه، فالنحل يرى الأشعة فوق البنفسجية، ولذلك فإنه يرى الشمس حال الغيم، والبومة ترى الفار في ظلمة الليل البهيم[6].
بل إن بعض الحيوانات له أجهزة حسية لا نعلمها، يدرك بها حدوث الزلازل والعواصف وانفجار البراكين قبل أن يحسها الإنسان[7]، وذلك أن الخالق سبحانه قد خص كل مخلوق بخصيصة تميزه عن غيره من المخلوقات.
وأخيرًا؛ فوجود اللذة أو الألم عند النائم أو اليقظان دون شعور الآخرين بها يدل على قصور القدرات البشرية عن إدراك كل شيء على التمام والكمال.
وبعد هذه الأمثلة المختصرة التي تثبت عجز الإنسان وضعفه، ومحدودية قدراته وإمكاناته، فإنه لا يجوز لناطق أن ينكر عالم البرزخ وأحواله، بدعوى مخالفة المعقول وعدم الحس أو المشاهدة، ولا يصر على ذلك إلا مكابر معاند.
رابعًا: إن أحوال البرزخ ليست من الغيب الكلي، فإذا كان المنكرون لم يشاهدوها، فقد شاهدها غيرهم من بني الإنسان؛ إذ إنها من الغيب النسبي.
خامسًا: إن الأخبار الواردة في البرزخ لا تحيلها العقول، ولا توجب الطعن في ناقليها، فكل خبر يظن أن العقل يحيله، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون الخبر كذبًا، وإما أن يكون ذلك العقل فاسدًا[8].
فإذا سلم الخبر من الثلب، وكان صحيحًا ثابتًا، فلم يبقَ إلا أن نتهم العقل بالفساد والكساد، لا سيما أنه لا تعارض بين معقول صريح ونقل صحيح، كما قرره العلماء[9].
وأما طعنهم في ناقلي تلك النصوص من الصحابة رضي الله عنهم، فيقال لهم: قد رضي عنهم الله ونعتهم بأجمل الصفات، وأثنى عليهم في غير ما موضع من كتابه الكريم بأحسن الثناء وأبلغه، كما في قوله عزّ وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *} [التوبة] .
وقد تواترت الأخبار بذكر فضائلهم[10]، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن سبهم، وبيّن عظم فضلهم فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبّوا أحدًا من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحد ذهبًا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه»[11].
والشواهد في هذا الباب كثيرة، وأكتفي بما تقدم؛ لأن عدالتهم مجمع عليها ولم يشذ عن هذا الرأي إلا المبتدعة والزنادقة، وكما قال أبو زرعة الرازي: «إذا رأيت الرجل ينتقص أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاعلم أنه زنديق، وذلك لأن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى ذلك إلينا الصحابة، وهؤلاء (يعني: الزنادقة) يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسُّنَّة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة»[12].
سادسًا: زعمهم أن النعيم والعذاب لا يكون إلا بعد قيام الساعة باطل؛ لأنه لا دليل عليه من كتاب أو سُنَّة أو إجماع.
ثانيًا: القائلون بوقوعه على الروح فقط:
ينسب هذا القول إلى الفلاسفة المنكرين للمعاد، وكثير من المعتزلة، وغيرهم من أهل الكلام، وطائفة من أهل الحديث، وهو اختيار أبي محمد بن حزم، وغيره[13].
وهذا القول مشتمل على حق وباطل؛ أما الحق: فكونهم أثبتوا النعيم والعذاب، خلافًا للفريق الأول، وأما الباطل: فكونهم ألغَوا نصيب البدن، فجعلوا النعيم والعذاب يقعان على الروح فقط.
والصواب الذي دلَّت عليه النصوص أنهما يقعان على الروح والجسد معًا باتفاق أهل السُّنَّة، كما تقدم تقريره.
وشبهة ابن حزم قوله: «ولم يأت قط عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خبر يصح، أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المساءلة، ولو صح ذلك عنه عليه السلام لقلنا به»[14].
قال ابن القيِّم في معرض الرد عليه: «فهذا من مجازفاته رحمه الله، فالحديث صحيح لا شك فيه، وقد رواه عن البراء بن عازب[15] جماعة غير زاذان»[16].
ثالثًا: القائلون بوقوعه على البدن فقط:
قال به طائفة من المعتزلة والأشعرية[17].
وهو قول ظاهر الفساد؛ بل هو أفسد من سابقه؛ لأن أصحابه ألغوا نصيب الروح من النعيم أو العذاب، وقصروه على البدن فقط، مع أن النصوص على خلافه تمامًا، ولذا فإنهم يجابون بما أجيب به الفريق السابق.
رابعًا: القائلون بوقوع العذاب للكافرين دون المؤمنين:
قال به بعض المعتزلة؛ منهم: أبو علي الجبائي، وابنه أبو هاشم، والبلخي، فنفوا عذاب القبر عن المؤمنين، وأثبتوه لأصحاب التخليد من الكفار والفساق على أصولهم[18].
وهو قول باطل مبني على أصول فاسدة، ومخالف للنصوص الصحيحة المثبتة لوقوع العذاب على بعض مستحقيه من أهل الإيمان.
وأهل السُّنَّة يثبتون العذاب للكافرين، ولعصاة المؤمنين، إلا أنه مستمر بالنسبة للكافرين، ومنقطع بالنسبة لمن عذب من عصاة المؤمنين، كما قد مر.


[1] أخرجه مسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2868).
[2] الروح (125).
[3] الروح (115).
[4] المرجع السابق (118).
[5] انظر: عالم الغيب والشهادة في التصور الإسلامي (62) [مكتبة الوادي، ط1، 1408هـ]، والقرآن والعلم الحديث 148) [دار الكتاب العربي].
[6] انظر: عالم الجن والشياطين (16) [دار النفائس، ط15، 1423هـ].
[7] انظر: دراسات في النفس الإنسانية (117) [دار الشروق، ط6، 1413هـ].
[8] الروح (112).
[9] كتاب درء التعارض لابن تيمية أصل في تقرير هذه القاعدة، وانظر أيضًا: مجموع الفتاوى (17/443)، و(33/172)، والفتوى الحموية الكبرى (34، 35) [مطبعة المدني، 1403هـ]، ومختصر الصواعق المرسلة (1/95) [دار الحديث، 1412هـ]، وشرح الطحاوية (1/227) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1408هـ].
[10] انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (4/430)، ومناهل العرفان في علوم القرآن (1/337) [دار الفكر].
[11] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3673)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2541).
[12] مناهل العرفان (1/336).
[13] انظر: مقالات الإسلاميين (2/116)، والفصل لابن حزم (4/117)، والدرة فيما يجب اعتقاده (282) [مطبعة المدني، ط1]، ومجموع فتاوى ابن تيمية (4/262، 282)، وشرح حديث النزول (88) [المكتب الإسلامي، ط6، 1402هـ]، ولوامع الأنوار البهية (2/24/25)، ولوائح الأنوار السنية (2/269).
[14] الفصل (4/119).
[15] تقدم تخريج حديثه.
[16] الروح (88).
[17] انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (4/262)، وشرح حديث النزول (88).
[18] انظر: الروح (105)، ولوائح الأنوار السنية (2/164)، وفتح الباري (3/275).


1 ـ «الآيات البينات في عدم سماع الأموات»، للألوسي.
2 ـ «التذكرة»، للقرطبي.
3 ـ «الروح في الديانات والدعاوى المعاصرة» (ج1، 2)، للعبيدي.
4 ـ «الروح»، لابن القيِّم.
5 ـ «شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور»، للسيوطي.
6 ـ «شرح العقيدة الطحاوية» (ج1)، لابن أبي العز.
7 ـ «الفصل في أهل الأهواء والملل والنحل»، لابن حزم.
8 ـ «مجموع الفتاوى» (ج4)، لابن تيمية.
9 ـ «البحور الزاخرة»، للسفاريني.
10 ـ «أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور»، لابن رجب.