العين والراء والشين أصل صحيح واحد، يدل على ارتفاع في شيء مبني، ثم يستعار في غير ذلك[1].
ويطلق العرش في اللغة على عدة معانٍ؛ منها: سرير الملك، وسقف البيت، والملك وغيرها[2].
[1] انظر: مقاييس اللغة (4/264) [مكتبة مصطفى الحلبي، ط2].
[2] انظر: تهذيب اللغة (1/264) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 2001م]، والصحاح (2/722)، وتاج العروس (17/252) [دار الهداية].
العرش: هو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو أعلى المخلوقات وسقفها، وهو كالقبة على العالم[1].
[1] البداية والنهاية (1/11 ـ 12) [مكتبة المعارف، بيروت]، وشرح العقيدة الطحاوية (310 ـ 311) [المكتب الإسلامي، ط4، 1391هـ]، وشرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (140، 317)، والقول المفيد (2/536، 549) [دار ابن الجوزي، ط1، 1418هـ].
قال الله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ *} [الحاقة] ، وقال عزّ وجل: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ *} [النمل] ، وقال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ *ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ *} [البروج] ، وقال سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه] ، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن السُّنَّة: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بصعقة الأولى »[1].
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء » [2].
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة » [3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الخصومات، رقم 2412)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2374).
[2] أخرجه مسلم (كتاب القدر، رقم 2653).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 2790).
قال ابن أبي زمنين: «ومن قول أهل السُّنَّة أن الله عزّ وجل خلق العرش، واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء»[1].
وقال أبو نعيم الأصبهاني: «طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسُّنَّة، وإجماع الأُمَّة، فما اعتقدوه اعتقدناه، فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في العرش، واستواء الله عزّ وجل عليه يقولون بها، ويثبتونها من غير تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، وأن الله عزّ وجل بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم، ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سماواته من دون أرضه»[2].
قال ابن تيمية: «فلما وقع التفصيل في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وفي القيامة التي تستحيل فيها السماوات والأرض وما بينهما، لم يكن العرش داخلاً في ذلك؛ بل أخبر ببقائه بعد تغيير السماوات والأرض، كما أخبر بكونه قبل خلق السماوات والأرض خبرًا مطلقًا، وأخبر في غير موضع أنه ربه وصاحبه؛ تمييزًا له من السماوات والأرض؛ كقوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ *} [المؤمنون] . وذكر نفسه بأنه ذو العرش في غير موضع؛ كقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ *ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ *} [البروج] ، وقوله تعال عزّ وجل: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً *} [الإسراء] ، فهذا كله يبين أن العرش له شأن آخر»[3].
وقال ابن كثير: «العرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ *} [النمل] ، وليس هو فلكًا ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات»[4].
[1] أصول السُّنَّة (282).
[2] انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم (4/1285) [دار العاصمة، الرياض، ط3، 1418هـ 1998م].
[3] بيان تلبيس الجهمية (1/157) [مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، ط1، 1392هـ].
[4] البداية والنهاية لابن كثير (1/11).
المسألة الأولى: صفات العرش:
1 ـ من صفات العرش: أنه أعظم مخلوقات الله تعالى.
دلت النصوص الشرعية على أن العرش من مخلوقاته سبحانه وتعالى، قال : {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] ، فالآية تدل على أن العرش كان موجودًا على الماء قبل خلق السماوات والأرض[1].
والعرش أعظم المخلوقات وأعلاها، يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة»[2].
ولذلك مدح الله نفسه في أكثر من موضع من كتابه الكريم بأنه صاحب العرش العظيم، والكريم، والمجيد، قال تعالى: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ *} [التوبة] ، وقال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ *} [المؤمنون] ، وقال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ *} [البروج: 15] .
2 ـ من صفات العرش: أن له قوائمَ.
دلت السُّنَّة الصحيحة على أن للعرش قوائم، كما جاء ذلك في «صحيح البخاري»: «إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بصعقة الأولى»[3] وقد تقدم.
3 ـ للعرش حملة من الملائكة يحملونه بقدرة الله.
دليل ذلك في كتاب الله قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ *} [غافر] ، وقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ *} [الحاقة] . فالآيتان تدلان على أن لله ملائكة من جملة خلقه، يحملون عرشه، وآخرون يكونون حوله، وعلى أنه يوم القيامة يحمله ثمانية[4].
المسألة الثانية: أول شيء خلقه الله عزّ وجل:
اختلف أهل العلم في ذلك:
1 ـ فذهب بعضهم إلى أن أول المخلوقات: القلم. وهو اختيار الطبري وابن الجوزي.
2 ـ وذهب آخرون إلى أن أول المخلوقات: الماء.
3 ـ وقيل: أول المخلوقات النور والظلمة.
4 ـ وذهب كثير من المحققين إلى أن أول ما خلق الله: العرش.
وهذا اختيار ابن تيمية، وابن القيِّم، وابن كثير، وابن حجر، وغيرهم.
والدليل على ذلك: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء»[5]. ففي هذا الحديث تصريح بأن التقدير وقع بعد خلق العرش.
وأما حديث عبادة رضي الله عنه مرفوعًا: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال: له اكتب. قال: رب وماذا أكتب؟ قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة»[6].
فالمراد أن التقدير وقع عند أول خلق القلم، فدل ذلك على أن العرش سابق على القلم.
ويؤيد ذلك حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء»[7][8].
المسألة الثالثة: استواء الله على العرش:
دلَّت النصوص الشرعية على استواء الله تعالى على عرشه، وأن معناه علوه وارتفاعه عليه، وعلى هذا السلف الصالح من الصحابة والتابعين وغيرهم من أهل العلم يقولون: إن الله على عرشه بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل، فهو سبحانه مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، واستواؤه حقيقة لا مجاز. وأما كيفية ذلك الاستواء فهي مجهولة لنا، والسؤال عن كيفية ذلك الاستواء بدعة في الدين وخروج عن السُّنَّة[9]..
[1] انظر: تفسير ابن كثير (4/306).
[2] تقدم تخريجه.
[3] تقدم تخريجه.
[4] انظر: بيان تلبيس الجهمية (1/585).
[5] تقدم تخريجه.
[6] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4700)، والترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3319) وقال: حسن صحيح، وأحمد (37/378) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وغيرهم، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (رقم 2018).
[7] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7418).
[8] انظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري (1/33ـ 36)، ومجموع الفتاوى (18/213)، ومختصر الصواعق المرسلة (1/323)، واجتماع الجيوش (99ـ 100)، والبداية والنهاية (1/8 ـ 9)، وفتح الباري (1/289)، والعرش وما روي فيه لابن أبي شيبة (72).
[9] انظر: الرد على الجهمية للدارمي (12ـ 13)، ومجموع الفتاوى (17/335)، وبيان تلبيس الجهمية (1/576)، وكتاب العرش للذهبي (1/284).
ذهب بعض المخالفين إلى تأويل النصوص الواردة في العرش، وتحريفها لتوافق مذاهبهم وأهواءهم.
فذهب بعض الجهمية وغيرهم إلى أن المراد بالعرش: الملك.
كما ذهب طائفة من الفلاسفة أن العرش فلك مستدير من جميع الجوانب محيط بالعالم من كل جهة، وهو محدود الجهات، وربما سمّوه الفلك الأطلس، أو الفلك التاسع، أو الأثير، أو الفلك الأعلى[1].
والنصوص الواردة في الكتاب والسُّنَّة ترد هذه التأويلات؛ فإنها صريحة في أن العرش أعظم المخلوقات، وسقفها، ولا يقدر قدره إلا الله سبحانه وتعالى[2].
[1] انظر: التبصير في الدين للإسفراييني (158)، وراجع: الرد على الجهمية للدارمي (12 ـ 13)، والرسالة العرشية لابن تيمية (2 ـ 7)، ومجموع الفتاوى (17/335)، وبيان تلبيس الجهمية (1/576).
[2] انظر: كتاب العرش للذهبي (1/284).
1 ـ «إعانة المستفيد»، للفوزان.
2 ـ «البداية والنهاية»، لابن كثير.
3 ـ «بيان تلبيس الجهمية»، لابن تيمية.
4 ـ «درء تعارض العقل والنقل»، لابن تيمية.
5 ـ «الرسالة العرشية»، لابن تيمية.
6 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي.
7 ـ «الصواعق المرسلة»، لابن القيِّم.
5 ـ «العرش»، للذهبي.
8 ـ «العرش»، لابن أبي شيبة.
9 ـ «القول المفيد»، لابن عثيمين.
10 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.