حرف الألف / إسماعيل عليه السلام

           

هو: نبي الله إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام بن آزر. وجمهور أهل النسب على أن اسم والد إبراهيم هو تارح[1]، وهو مخالف لصريح القرآن، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَِبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *} [الأنعام] ، ولذا نصَّ ابن جرير الطبري على أن الصواب في اسم والد إبراهيم هو آزر، وذكر احتمالين؛ وهما: أنه قد يكون له اسمان علمان، أو أحدهما لقب، والآخر علم، وهذا الاحتمال وإن كان واردًا ـ كما يقول ابن كثير[2] ـ فإن صريح القرآن مقدم على غيره من الاحتمالات والله أعلم.


[1] انظر: البداية والنهاية لابن كثير (1/329، و354) [دار هجر، ط1]، وصحيح قصص الأنبياء لابن كثير، لسليم الهلالي (103) [دار غراس، ط1، 1422هـ].
[2] انظر: تفسير الطبري (9/344) [دار هجر، ط1]، والبداية والنهاية (1/330).


إسماعيل اسم أعجمي عبراني، معناه: الله يسمع؛ لأن نبي الله إبراهيم عليه السلام كان يدعو ربه أن يهبه ولدًا صالحًا قائلاً: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ *} [الصافات] فوهبه إسماعيل عليه السلام[1].


[1] المعرب من الكلام الأعجمي للجواليقي (95 ـ 96)، وكذا الحاشية رقم )4(، و)ص10( [دار القلم، ط1]، والإعلام بأصول الأعلام الواردة في قصص الأنبياء للدكتور ف. عبد الرحيم (39) [دار القلم، ط1].


تأخر نبي الله إبراهيم عليه السلام عن الإنجاب من زوجته الأولى سارة، فعرضت على إبراهيم الزواج من جاريتها هاجر؛ لعل الله أن يرزقهما منها ولدًا، فتزوجها، فولدت له إسماعيل عليه السلام، وكان نبي الله إبراهيم وقتئذ قد بلغ في الكبر تسعين سنة، وقيل: تسعة وتسعين سنة، وقد جاء في كتاب الله ما يدل على بلوغ إبراهيم الكبر عندما رزق بإسماعيل، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ} [إبراهيم: 39] .
وبعد مولد إسماعيل اشتدت غيرة سارة من هاجر، فطلبت من إبراهيم عليه السلام أن يغيب وجه هاجر عنها، فسار بها وبولدها حتى وضعهما في مكة وتركهما هناك، ولما أخذ في الرجوع عنهما قالت له: أين تذهب وتتركنا وليس معنا ما يكفينا؟ فلما ألحت عليه بالسؤال ولم يجبها، قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: فإذن لا يضيعنا[1]. ولما ابتعد عنهما قليلاً واختفى عنهما أخذ يدعو ربه قائلاً: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ *} [إبراهيم] . وبقيت أم إسماعيل مع ابنها الرضيع في هذا الوادي، ولمّا نفد ما عندهما من الماء عطشت وعطش الطفل وأخذ يصيح، فتركته في محله، وبدأت تبحث عن الماء، فطلعت على الصفا فلم تر شيئًا، وسعت نحو المروة حتى طلعت عليه فلم تر شيئًا، وهكذا كررت السعي بين الصفا والمروة سبع مرات، وفجأة خرج ماء زمزم برحمة رحمان الدنيا والآخرة، ولما سمعت قبيلة جرهم العربية بخروج ماء زمزم في هذا الوادي استأذنوها في النزول بجنبها والشرب من هذا الماء فسمحت لهم، وهكذا نشأ إسماعيل بين هذه القبيلة في مكة وتعلم منهم العربية، ولما كبر زوجوه من بناتهم، ثم طلقها بوصية أبيه وتزوج منهم بأخرى فأنجب منها اثني عشر ولدًا، منهم نبايوت وقيدار وكان من نسلهما عرب الحجاز[2].
وقد تضافرت الأحاديث في بيان قصة ذهاب إبراهيم بإسماعيل وأمه إلى مكة ونشأة إسماعيل فيها في أحاديث عديدة، منها: ما رواه البخاري بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أول ما اتخذ النساء المنطق[3] من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقًا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه فقال: رب {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] حتى بلغ: {يَشْكُرُونَ *}، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى ـ أو قال: يتلبط ـ فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فذلك سعي الناس بينهما» ، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا، فقالت: صه تريد نفسها، ثم تسمّعت فسمعت أيضًا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه ـ أو قال: بجناحه ـ حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم، ـ أو قال: لو لم تغرف من الماء ـ لكانت زمزم عينًا معينًا» ، قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة؛ فإن ها هنا بيت الله، يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعًا من الأرض؛ كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرّت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًا أو جريين، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس» ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسَهم وأعجبَهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل...»[4].
وإسماعيل أول من ركب الفرس، وكانت قبله وحوشًا[5]، وهو أول من تكلَّم بالعربية الفصيحة كما جاء من حديث علي بن أبي طالب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة»[6].
قال ابن كثير: «أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة، وكان قد أخذ كلام العرب من جرهم الذين نزلوا عند أمه هاجر بالحرم... ولكن أنطقه الله بها في غاية الفصاحة والبيان، وكذلك كان يتلفظ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم»[7].


[1] ورد ذلك في حديث صحيح أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3364). وانظر: قصص الأنبياء المسمى بالعرائس للثعلبي (111) [مكتبة الجمهورية العربية، الأزهر]، والمنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي (1/304) [دار الكتب العلمية]، والبداية والنهاية (1/356)، وصحيح قصص الأنبياء لسليم الهلالي (124 ـ 125)، ونظم الدرر للبقاعي (6/332) [دار الكتب العلمية].
[2] انظر فيما يتعلق بأولاده: السيرة النبوية لابن هشام (1/4) [مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، ط2]، وصحيح قصص الأنبياء للهلالي (189).
[3] المنطق: واحد مناطق، وهو «أن تلبس المرأة ثوبها، ثم تشد وسطها بشيء وترفع وسط ثوبها، وترسله على الأسفل عند معاناة الأشغال؛ لئلا تعثر في ذيلها». النهاية في غريب الحديث والأثر (5/75).
[4] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3364).
[5] انظر: الأوائل لأبي الهلال العسكري (425) [دار البشير، طنطا، ط1، 1408هـ]، والبداية والنهاية لابن كثير (1/444)، وصحيح قصص الأنبياء للهلالي (188).
[6] ذكره ابن حجر في الفتح (6/403) [دار المعرفة، بيروت]، وذكر أنه من رواية: «الزبير بن بكار في النسب من حديث علي بإسناد حسن»، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/504) [المكتب الإسلامي].
[7] البداية والنهاية (1/283).


نص الله تعالى على كون إسماعيل عليه السلام نبيًّا ورسولاً فقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا *} [مريم] .
وذكره تعالى ضمن أنبيائه الموحى إليهم من عنده فقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا *} [النساء] .
وبرّأه من كل ما نسبه إليه الجاهلون فقال الله عزّ وجل: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ *} [البقرة] .



كانت دعوة إسماعيل عليه السلام دعوة حنيفية قائمة على تحقيق التوحيد ونبذ الشرك؛ حيث أخبر الله تعالى أنه عهد إلى كل من إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام أن يطهرا بيته العتيق من الشرك والأوثان وعبادة غير الله كائنًا ما كان، فقال سبحانه وتعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ *} [البقرة] ، وكانت نبوة إسماعيل بعد نبوة أبيه عليهما السلام.



ذكر المؤرخون أن الله أرسل إسماعيل إلى العماليق وقبيلة جرهم وقبائل اليمن، فنهاهم عن الشرك وعبادة الأوثان، فآمنت به طائفة وكفر به أكثرهم[1].


[1] انظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (1/304).


مات نبي الله إسماعيل عليه السلام، وكان قد عاش سبعًا وثلاثين ومئة سنة[1]، وقيل: ثلاثين ومئة سنة[2]، وقيل: إنه دفن مع أمه في الحجر[3]، وقد نصت اللجنة الدائمة للإفتاء على عدم صحة هذا[4].


[1] انظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (1/305)، وتفسير القرطبي (2/135) [دار عالم الكتب، الرياض].
[2] انظر: سيرة ابن هشام (1/5)، وتفسير القرطبي (2/135).
[3] انظر: سيرة ابن هشام (1/5)، وصحيح قصص الأنبياء للهلالي (189).
[4] انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء (3/207).


المسألة الأولى: في من هو الذبيح في قوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ *رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ *فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ *فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ *} [الصافات] :
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
الأول: أن الذبيح هو إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، قال به طائفة من الصحابة؛ كأبي هريرة وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وسعيد بن جبير والشعبي والإمام أحمد بن حنبل وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وغيرهم.
الثاني: أن الذبيح هو إسحاق، وحكي هذا القول عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وجابر رضي الله عنهم ومقاتل والسدي وعطاء ومالك بن أنس والطبري وغيرهم.
الثالث: التوقف والإمساك عن الكلام فيه[1].
والصحيح القول الأول؛ لأمور كثيرة، منها: قول الله تعالى في قصة تبشير إبراهيم وآله بإسحاق ومن ورائه بيعقوب: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ *فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ *وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ *} [هود] ، فقد بُشِّرا بأمرين: الابن وابن الابن؛ أي: بمولود سيولد لهما، وبابن لهذا المولود، وهذا يقتضي أنه يعيش. وهذا يتنافى مع القول بأمر أبيه بذبحه وهو صغير ولم يولد له يعقوب بعد[2]. وذكر ابن كثير أن استدلال من استدل بهذه الآية على أن الذبيح إسماعيل هو من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه، فقال: «استدل من استدل بهذه الآية، على أن الذبيح إنما هو إسماعيل، وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق؛ لأنه وقعت البشارة به، وأنه سيولد له يعقوب، فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير، ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده. ووعد الله حق لا خلف فيه، فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه، فتعين أن يكون هو إسماعيل، وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه، ولله الحمد»[3].
ومنها: أن إسحاق عليه السلام وصف بأنه غلام عليم، في حين أن هذا الغلام الذبيح وصف بأنه غلام حليم، ووعد أباه بالصبر عند الذبح، وهذا الوصف مناسب لحال إسماعيل عليه السلام، فقد وصفه ربه بالصبر والصدق في الوعد بقوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ *} [الأنبياء] ، وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا *} [مريم] .
ومنها: أن قصة الذبيح وقعت في مكة دون خلاف، ولم ينقل أحد لا من أهل الكتاب ولا من غيرهم أن إسحاق ذهب إلى مكة[4].
وذكر ابن القيم أن الذبيح عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم هو إسماعيل، وأن القول بأنه إسحاق باطل بأكثر من عشرين وجهًا، ثم نقل نحوه عن شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: «وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ يقول: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه: إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفي لفظ: وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده، والذي غر أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم: اذبح ابنك إسحاق، قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم؛ لأنها تناقض قوله: اذبح بكرك ووحيدك، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، وأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم ويحتازوه لأنفسهم دون العرب، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله. وكيف يسوغ أن يقال: إن الذبيح إسحاق، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب، فقال تعالى عن الملائكة: إنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: {...قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ *} [هود] !؟ فمحال أن يبشرها بأنه يكون لها ولد ثم يأمر بذبحه، ولا ريب أن يعقوب عليه السلام داخل في البشارة، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد، وهذا ظاهر الكلام وسياقه»[5].
والخلاصة: أن الذي يجب القطع به لدلالة الكتاب والسُّنَّة والدلائل المشهورة، وقول علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم به: أن الذبيح هو إسماعيل، وأن القول بأن الذبيح هو إسحاق باطل، وهو متلقى عن أهل الكتاب ومخالف لما في التوراة التي بأيدي أهل الكتاب[6].
وأما القول بالتوقف فهو باطل أيضًا؛ لأنه توقف عما يجب القطع به دون مستند.
المسألة الثانية: قصة الذبح:
رُزق نبي الله إبراهيم بابنه إسماعيل عليهما السلام بعد أن بلغ في الكبر مبلغًا كبيرًا، ولكن لما شب هذا الولد وكبر وبلغ سعيه سعي أبيه في العمل، أمره الله في المنام بذبحه، فأخبر إبراهيم ابنه بالأمر وسأله عن رأيه فيه، فما كان من هذا الابن البار الصابر إلا أن أشار على أبيه بأن يمتثل أمر ربه فيه، ويذبحه تنفيذًا لأمر الله، ووعده بالصبر على هذا الابتلاء، ولما أسلما لأمر الله وجهز إبراهيم ابنه للذبح جاء الفرج والمخرج من عند الله تعالى، حيث فداه الله بكبش عظيم، ونودي إبراهيم فالتفت فإذا بكبش عظيم، فذبحه مكان ابنه، كما جاء عن السدي[7] بسند حسن[8] قال الله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ *فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ *فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ *فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ *وَنَادَيْنَاهُ أَنْ ياإِبْرَاهِيمُ *قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ *وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ *} [الصافات] .
المسألة الثالثة: مشاركة إسماعيل عليه السلام في بناء الكعبة:
كان نبي الله إبراهيم عليه السلام بعد أن وضع ذريته في مكة بأمر الله، يزورهم أحيانًا، وفي إحدى المرات لما جاء إبراهيم عليه السلام وجد ابنه إسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريبة من ماء زمزم، فلما رآه قام إليه وصنع ما يصنعه الولد بالوالد، والوالد بالولد، ثم ذكر إبراهيم لابنه إسماعيل أن الله أمره بأمر، فقال إسماعيل عليه السلام: اصنع ما أمرك ربك، فقال: وتعينني، قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتًا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها.
فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *} [البقرة] [9].
المسألة الرابعة: نشأة إسماعيل بمكة وزواجه:
لما أخرج الله ماء زمزم وعلمت به قبيلة جرهم استأذنوا أم إسماعيل في النزول قريبًا منها، فسمحت لهم، ونشأ إسماعيل بينهم وتعلم العربية منهم، ولما شب تزوج منهم ثم طلقها بإشارة من أبيه، وتزوج بأخرى منهم، وعاش معها وكان من نسله النبي العربي صلّى الله عليه وسلّم، وقد جاءت تفاصيل القصة من حديث ابن عباس الطويل في الصحيح، وفيه: «وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف» ، قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم ـ أو قال: لو لم تغرف من الماء ـ لكانت زمزم عينًا معينًا» ، قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة؛ فإن ها هنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك، حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًا أو جريين[10]، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك، فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس» ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام، وتعلم العربية منهم، وأنفسَهم وأعجبَهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع ترِكَته، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشرٍّ نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئًا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غيّر عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد، فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللَّهُمَّ بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم دعا لهم فيه» ، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه فسألني عنك، فأخبرته فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك»[11].


[1] انظر لهذه الأقوال: تفسير الطبري (19/587 ـ 600)، وزاد المسير لابن الجوزي (7/72) [المكتب الإسلامي]، وتفسير القرطبي (11/114) و(15/99 ـ 101)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (4/331 ـ 335) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف]، وتفسير ابن كثير (7/32 وما بعدها) [دار طيبة]، والبداية والنهاية (1/363 ـ 370)، وفتح القدير للشوكاني (4/463) [دار ابن كثير، ودار الكلم الطيب، ط1].
[2] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/335).
[3] تفسير ابن كثير (4/334).
[4] مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/335).
[5] زاد المعاد لابن القيم (1/71 ـ 72) [مؤسسة الرسالة، ط27]، وانظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/332).
[6] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/331)، وزاد المعاد (1/71)، والبداية والنهاية (1/366)، وصحيح قصص الأنبياء للهلالي (186).
[7] انظر: تفسير الطبري (19/580).
[8] انظر: الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور لحكمت بشير ياسين (4/208) [دار المآثر، المدينة النبوية، ط1].
[9] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3364). وانظر: سبل السلام من صحيح سيرة خير الأنام عليه السلام لصالح عبد الواحد (1/57) [مكتبة الغرباء الأثرية].
[10] الجَرِيّ هو: الرسول، وسمي به لجريه وراء الحوائج. انظر: فتح الباري لابن حجر (1/98).
[11] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3362، 3363، 3364).


1 ـ «السيرة النبوية» (ج1)، لابن هشام.
2 ـ «تفسير الطبري» (ج9، 19).
3 ـ «الأوائل»، لأبي الهلال العسكري.
4 ـ «المنتظم في تاريخ الأمم والملوك» (ج1)، لابن الجوزي.
5 ـ «مجموع الفتاوى» (ج4)، لابن تيمية.
6 ـ «زاد المعاد» (ج1)، لابن القيم.
7 ـ «البداية والنهاية» (ج1)، لابن كثير.
8 ـ «صحيح (قصص الأنبياء لابن كثير)»، لسليم الهلالي.
9 ـ «سبل السلام من صحيح سيرة خير الأنام عليه الصلاة والسلام» (ج1)، لصالح عبد الواحد.
10 ـ «الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور»، لحكمت بشير ياسين.