حرف العين / العلم

           

العلم: نقيض الجهل[1]، فعلمك بالشيء نقيض جهلك به، وكلما ازداد علمك به زالت عنك أوجه الجهل فيه. قال ابن فارس: «العين واللام والميم أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على أثَرٍ بالشيء يتميَّزُ به عن غيره. من ذلك العَلامة، وهي معروفة. يقال: عَلَّمت على الشيء علامة. ويقال: أعلم الفارس، إذا كانت له علامةٌ في الحرب. وخرج فلانٌ مُعْلِمًا بكذا. والعَلَم: الراية، والعلم: الجَبَل، وكلُّ شيءٍ يكون مَعْلَمًا: خلاف المَجْهَل.
والعلَم: الشَّقُّ في الشَّفَة العليا، والرجل أعلَمُ. والقياس واحد؛ لأنَّه كالعلامة بالإنسان. والعُلاَّم فيما يقال: الحِنَّاء؛ وذلك أنّه إذا خضّب به فذلك كالعلامة. والعِلْم: نقيض الجهل، وقياسه قياس العَلَم والعلامة، والدَّليل على أنَّهما من قياسٍ واحد قراءة بعض القُرَّاء: {وَإِنَّهُ} لَعَلَمٌ {لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61] ، قالوا: يراد به نُزول عيسى عليه السلام، وإنَّ بذلك يُعلَمُ قُرب الساعة. وتعلّمت الشَّيءَ، إذا أخذت علمَه»[2].
وهو في حق الله تعالى على وجه الكمال الذي لم يسبقه جهل، ولا يعتريه أي معنى من معاني الجهل.


[1] مقاييس اللغة (4/110) [دار الفكر، 1399هـ]، والصحاح (6/268) [دار العلم للملايين، ط4].
[2] مقاييس اللغة (4/109) [دار الجيل، ط1، 1411هـ]. وانظر: المحكم والمحيط الأعظم (2/174) [دار الكتب العلمية، 2000م]، ولسان العرب (12/416) [دار صادر، ط1، 1412هـ]، والقاموس المحيط (4/117) [دار الكتب العلمية، ط1، 1415هـ].


صفة ذاتية لله تعالى على وجه الإحاطة والكمال؛ فهو العليم المُحيطُ عِلْمُه بجميع الأشْياء ظاهِرها وباطِنها دَقِيقِها وجَلِيلِها على أتَمِّ الإمْكان[1]، فيعلم ما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون[2].
العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي:
مما تقدم يظهر الارتباط الوثيق بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، إلا أن المعنى الشرعي المتعلق بوصف الله تعالى بالعلم أخص؛ لأنه شامل لتمام العلم وكماله بما لا يكون معه أي نقص فيه بوجه من الوجوه، في حين أن المعنى اللغوي يدخل فيه الوصف بالعلم دون اشتراط تمامه، فيوصف المخلوق بالعلم، مع أنه ما أوتي منه إلا قليلاً.


[1] النهاية لابن الأثير (3/560) [المكتبة العلمية، 1399هـ]، وانظر: لسان العرب (12/416).
[2] توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم، لابن عيسى (2/215) [المكتب الإسلامي، ط3، 1406هـ].


وجوب إثبات العلم صفة ذاتية لله تعالى على وجه الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه.



قال الله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] .
وقال تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} [الأعراف: 7] .
وقال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] .
وقال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ *} [الحشر] .
ومن السُّنَّة: ما جاء في حديث الاستخارة: «اللَّهُمَّ إني أستخيرك بعلمك...» الحديث[1].
وما جاء في دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي» الحديث[2].
وما جاء في حديث قصة موسى والخضر عليهما السلام، وفيه قول الخضر لموسى: «يا موسى إني على علم من علم الله علَّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه» . وفيه أيضًا: «وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله، إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر»[3].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6382).
[2] أخرجه النسائي (كتاب السهو، رقم 1305)، وأحمد (30/264) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب الصلاة، رقم 1971)، والحاكم (كتاب الدعاء، رقم 1923) وصحَّحه، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (رقم 1301).
[3] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 122)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2380).


قال الإمام أبو حنيفة ـ في إثبات صفة العلم لله تعالى ـ: «يعلم لا كعلمنا»[1].
وقال ابن جرير الطبري: «والله ذو علم بضمائر صدور عباده، وما تنطوي عليه نفوسهم الذي هو أخفى من السر، لا يعزب عنه شيء من ذلك»[2].
وقال أبو العباس ابن تيمية: «واسمه العليم، هو الرب العليم الذي العلم صفة له، فليس العلم هو المسمى بل المسمى هو العليم»[3].


[1] الفقه الأكبر (49) [دار الكتب العلمية، ط1].
[2] تفسير الطبري (23/417) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[3] مجموع فتاوى ابن تيمية (6/201) [ط1418هـ].


المسألة الأولى: من أسماء الله الحسنى: العليم:
قد ورد هذا الاسم في القرآن، قال الله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *} [البقرة] ، وقال: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *} [البقرة] ، وقال: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *} [آل عمران] .
وورد في السُّنَّة نصوص كثيرة تدل عليه؛ منها ما رواه أبو داود في سننه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبَّر ثم يقول: «سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدّك، ولا إله غيرك ، ثم يقول: لا إله إلا الله، ثلاثًا، ثم يقول: الله أكبر كبيرًا ـ ثلاثًا ـ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه»[1].
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من قال حين يمسي: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثلاث مرات؛ لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي»[2].
وهذا الاسم مما أجمعت الأمة على ثبوته[3].
عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى *} [طه] قال: «يعلم السر ما أسر ابن آدم في نفسه، وأخفى: ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعمله، فإن الله تعالى يعلم ذلك كله، فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد، وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة»[4].
وقال السعدي رحمه الله: «العليم المحيط علمه بكل شيء؛ بالواجبات، والممتنعات، والممكنات، فيعلم تعالى نفسه الكريمة، ونعوته المقدسة، وأوصافه العظيمة، وهي الواجبات التي لا يمكن إلا وجودها، ويعلم الممتنعات حال امتناعها، ويعلم ما يترتب على وجودها لو وجدت ويعلم تعالى الممكنات، وهي التي يجوز وجودها وعدمها ما وجد منها، وما لم يوجد مما لم تقتض الحكمة إيجاده، فهو العليم الذي أحاط علمه بالعالم العلوي، والسفلي لا يخلو عن علمه مكان ولا زمان، ويعلم الغيب، والشهادة، والظواهر، والبواطن، والجلي، والخفي»[5].
المسألة الثانية: هل العالم من أسماء الله تعالى؟
ورد اسم العالم[6] مقيدًا ولم يرد مطلقًا، كما قال تعالى: {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *} [التوبة] ، إلا أن العليم أبلغ، وفيه وصف أكمل.
المسألة الثالثة: هل العلاّم من أسماء الله تعالى؟
ورد اسم عَلاّم ـ وهو صيغة مبالغة على وزن فعال ـ مقيدًا ولم يرد مطلقًا كما قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ *} [التوبة] .
المسألة الرابعة: ورود اسم الأعلم:
لم يرد (الأعلم) في نصوص الكتاب والسُّنَّة اسمًا مفردًا على وجه التسمية لله تعالى، وإنما ورد اسم تفضيل، كما في قوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الإسراء: 55] . قال ابن تيمية: «الأعلم: لم يجئ إلا مضافًا: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ *} [العنكبوت] ، وفي قوله: {رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى *} [النجم] ، وقوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ *} [الأنعام] ، {هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ *} [الأنعام] ، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ *} [الأنعام] »[7].
وممن أثبته اسمًا لله ابن الوزير[8].
المسألة االخامسة: تسمية غير الله بالعليم:
يجوز تسمية من له علم من المخلوقات بالعالم وبالعليم، مع ملاحظة الفرق بين إطلاقه على الله وبين إطلاقه على المخلوق، فالإضافة تقتضي التخصيص، وعلم الله لم يسبق بفناء ولا جهل ولا يلحقه جهل ولا فناء ولا يعتريه نسيان ولا ذهول ولا خطأ بخلاف علم المخلوق.
قال الأزهري رحمه الله: «ويجوز أن يقال للإنسان الذي علَّمه الله علمًا من العلوم: عليم؛ كما قال يوسف للملِك: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ *} [يوسف] ، وقال الله عزّ وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، فأخبر عزّ وجل أن من عباده من يخشاه وأنهم هم العلماء.
وكذلك صفة يوسف كان عليمًا بأمر ربه وأنه واحد ليس كمثله شيء، إلى ما علَّمه الله من تأويل الأحاديث الذي كان يقضي به على الغيب، فكان عليمًا بما علَّمه الله»[9].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «وسمَّى أيضًا بعض مخلوقاتِه حيًّا، وبعضَها عليمًا، وبعضها سميعًا بصيرًا، وبعضَها رؤوفًا رحيمًا، وليس الحي كالحيّ، ولا العليم كالعليم، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، ولا الرؤوف كالرؤوف، ولا الرحيم كالرحيم»[10].
المسألة السادسة: حكم تسمية الله بالعارف:
دلت النصوص على تسمية الله تعالى بالعليم ووصفه بالعلم، لكن لا يجوز قياسًا عليه أن يسمى عارفًا؛ لما تقتضيه المعرفة من تقديم الأسباب التي بها يتوصل إلى علم الشيء.
فأسماء الله تعالى هي أحسن الأسماء وأكملها، فليس في الأسماء أحسن منها ولا يقوم غيرها مقامها ولا يؤدي معناها، وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرًا بمرادف محض؛ بل هو على سبيل تقريب المعنى.
وقد ذكر أهل العلم أن الله تعالى يوصف من كل صفة كمال بأكملها، وأجلَّها وأعلاها، فجميع ما أطلقه الله على نفسه من صفاته العلا أكمل معنى ولفظًا مما لم يطلقه، فالعليم الخبير أكمل من الفقيه العارف، والكريم الجواد أكمل من السخي، والخالق البارئ المصور أكمل من الصانع الفاعل[11].


[1] أخرجه أبو داود (كتاب الصلاة، رقم 775)، والترمذي (أبواب الصلاة، رقم 242)، وأحمد (18/51) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والدارمي في سننه (كتاب الصلاة، رقم 1275)، وابن خزيمة (كتاب الصلاة، رقم 467)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (3/361، رقم 748) [مؤسسة غراس، ط1].
[2] أخرجه أبو داود (كتاب الأدب، رقم 5088)، والترمذي (أبواب الدعوات، رقم 3388) وقال: «حسن صحيح»، وابن ماجه (كتاب الدعاء، رقم 3869)، وأحمد (1/62، 66) [مؤسسة قرطبة]، وابن حبان (كتاب الرقائق، رقم 852)، والحاكم في المستدرك (كتاب الدعاء، رقم 1895) وصحَّحه، وصحَّحه ابن باز في تحفة الأخيار (22) [وزارة الشؤون الإسلامية، 1420هـ]، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 655) [مكتبة المعارف، ط5].
[3] معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في الأسماء الحسنى للتميمي (182).
[4] أخرجه الطبري في تفسيره (18/272) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والبيهقي في الأسماء والصفات (1/125) [مكتبة السوادي، ط1].
[5] الحق الواضح المبين للسعدي (230، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السعدي [مركز صالح بن الصالح الثقافي، ط2، 1412هـ].
[6] تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج (39) [دار المأمون، ط5، 1406هـ].
[7] المستدرك على فتاوى ابن تيمية (1/42) [ط1، 1418هـ]، وانظر بقية المواضع في: كتاب المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم (604) [دار الحديث، ط2، 1408هـ].
[8] إيثار الحق على الخلق (159) [دار الكتب العلمية، ط2، 1987م].
[9] تهذيب اللغة (1/302).
[10] جامع المسائل لابن تيمية (3/197) [دار عالم الفوائد، ط1، 1422هـ].
[11] انظر: طريق الهجرتين لابن القيم (484 ـ 485).


الفرق بين العليم والخبير:
قيل: الخبير في أسماء الله تعالى بمعنى العليم[1].
وقيل: الخبير الذي انتهى علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها كما أحاط بظواهرها[2].
وقيل: الخبير: هو العليم ببواطن الأمور، فنقول: العليم بظواهر الأمور، والخبير ببواطن الأمور، فيكون العلم بالبواطن مذكورًا مرتين: مرة بطريق العموم، ومرة بطريق الخصوص، لئلا يظن أن علمه مختص بالظواهر[3].


[1] انظر: الكليات للكفوي [مؤسسة الرسالة، ط2، 1432هـ].
[2] انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم (2/492).
[3] انظر: مجموع فتاوى ابن عثيمين (8/154) [دار الوطن، 1426هـ].


1 ـ التعبد لله تعالى بمقتضى علمه بكل شيء، فيصرف له الدعاء والرجاء، وترغب إليه القلوب والألسنة والجوارح وتخشاه.
2 ـ مراقبة الله تعالى؛ فيمتثل أمره ويجتنب نهيه في الغيب والشهادة.
3 ـ التوكل على الله تعالى في كل شيء؛ فهو العليم بمصالح العباد وعواقب الأمور.
4 ـ اليقين بوعد الله، والثقة بنصره؛ فليس بغافل عما يعمل الظالمون، وهو أعلم بمن اتقى.
5 ـ محبة العلم وسلوك سبيله، وبغض الجهل والبعد عن أسبابه؛ فالله يحب العلم، وإنما يخشى الله من عباده العلماءُ.
6 ـ انتظام أمر الكون، ودقة تدبيره، فقد خلقه الله تعالى بعلمه، ولا يعزب عن علمه شيء.
7 ـ مضي سُنَّة الله تعالى في خلقه بعلمه تعالى بحال المتقين وجعل العاقبة لهم، وعلمه بحال الظالمين وجعل الدائرة عليهم.
8 ـ إجابة دعوة الداع والمضطر وكشف السوء؛ فهو السميع العليم.
9 ـ إذا علم العبد أن ربه قد وسع كل شيء علمًا وأنه يعلم سره ونجواه ومكانه وحركاته وسكناته خاف ربه واتقاه وراقبه وما عصاه.



خالف المعتزلة في صفة العلم، فلم يثبتوها صفة زائدة عن معنى الذات؛ وقالوا بأنه لو كان عالمًا بعلم، فإما أن يكون ذلك العلم قديمًا أو محدثًا، والأول يوجب تعدد القدماء، والثاني ممتنع عليه[1].


[1] انظر: شرح الأصول الخمسة (183) [مكتبة وهبة، ط3، 1416هـ].


الرد على هؤلاء بمنع هذه المقدمات الباطلة، واللوازم الفاسدة، فثبوت صفة العلم له هو الكمال الذي لا يقابله إلا النقص، فنفيها رد لصريح المنقول والمعقول، ويلزم منه أن يكون موصوفًا بالجهل تعالى وتقدس.
وبناء على مقدمتهم الباطلة فلا يوصف الله تعالى بأي صفة من صفات الكمال الذي وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلّى الله عليه وسلّم!
وخالف في اسم العليم غلاة القدرية كمعبد الجهني وأتباعه، والفلاسفة كأرسطو، والقرامطة والإسماعيلية كابن سينا، وبعض الرافضة.
وهذه العقيدة يكفي في ردها أنها مخالفة لصريح القرآن من أن الله يعلم كل شيء وأحاط بكل شيء علمًا ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ومخالفة لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصحابته وأئمة أهل البيت رضي الله عنهم.
سئل الإمام أحمد رحمه الله عمن قال بالقدر أيكون كافرًا؟ فقال: إذا جحد العلم؛ إذا قال: الله عزّ وجل لم يكن عالمًا حتى خلق علمًا فعلم فجحد علم الله عزّ وجل كافر.
وحكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مقالتهم فقال: «وزاد عليهم غلاة الفلاسفة والقرامطة فنفوا أسماءه الحسنى وقالوا: من قال إن الله عليم قدير عزيز حكيم: فهو مشبه ليس بموحد»[1].
وقال أيضًا رحمه الله: «وإنما ينكر أن تكون هذه الأسماء حقيقة النفاة من القرامطة الإسماعيلية الباطنية ونحوهم من المتفلسفة الذين ينفون عن الله الأسماء الحسنى، ويقولون: ليس بحي ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا موجود ولا معدوم؛ فهؤلاء ومن ضاهاهم ينفون أن تكون له حقيقة ثم يقول بعضهم: إن هذه الأسماء لبعض المخلوقات وأنها ليست له حقيقة ولا مجازًا. وهؤلاء الذين يسميهم المسلمون الملاحدة؛ لأنهم ألحدوا في أسماء الله وآياته...ولو كانت أسماء الله وصفاته مجازًا يصح نفيها عند الإطلاق؛ لكان يجوز أن الله ليس بحي ولا عليم ولا قدير ولا سميع ولا بصير ولا يحبهم ولا يحبونه ولا استوى على العرش؛ ونحو ذلك. ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاق النفي على ما أثبته الله تعالى من الأسماء الحسنى والصفات؛ بل هذا جحْدٌ لِلخالق وتمثيل له بالمعدومات»[2].
وقال رحمه الله: «وهذا مما يبين لك أن من قال من المتفلسفة إنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء على وجه كلّي لا جزئي، فحقيقة قوله إنه لم يعلم شيئًا من الموجودات فإنه ليس في الموجودات إلا ما هو معين جزئي، والكليات إنما تكون في العلم لا سيما وهم يقولون: إنما علم الأشياء؛ لأنه مبدؤها وسببها والعلم بالسبب يوجب العلم بالمسبب، ومن المعلوم أنه مبدع للأمور المعينة المشخصة الجزئية كالأفلاك المعينة والعقول المعينة وأول الصادرات عنه على أصلهم العقل الأول وهو معين، فهل يكون من التناقض وفساد العقل في الإلهيات أعظم من هذا؟»[3].
وقال ابن القيِّم رحمه الله في بيانه تضمن الفاتحة الردَّ على من نفى علم الله بالجزئيات: «فصل في بيان تضمنها للرد على منكري تعلق علمه تعالى بالجزئيات وذلك من وجوه:
أحدها: كمال حمده، وكيف يستحق الحمد من لا يعلم شيئًا من العالم وأحواله وتفاصيله، ولا عدد الأفلاك ولا عدد النجوم، ولا من يطيعه ممن يعصيه ولا من يدعوه ممن لا يدعوه.
الثاني: أن هذا مستحيل أن يكون إلهًا وأن يكون ربًّا، فلا بد للإله المعبود والرب المدبر من أن يعلم عابده ويعلم حاله.
الثالث: من إثبات رحمته، فإنه يستحيل أن يرحم من لا يعلم.
الرابع: إثبات ملكه، فإن ملكًا لا يعرف أحدًا من رعيته البتة ولا شيئًا من أحوال مملكته البتة ليس بملك بوجه من الوجوه.
الخامس: كونه مستعانًا.
السادس: كونه مسؤولاً أن يهدي سائله ويجيبه.
السابع: كونه هاديًا.
الثامن: كونه منعمًا.
التاسع: كونه غضبانَ على من خالفه.
العاشر: كونه مجازيًا يدين الناس بأعمالهم يوم الدين فنفي علمه بالجزيئات مبطل لذلك كله»[4].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «والدرجة الأولى أثبتها كثير من القدرية ونفاها غلاتهم؛ كمعبد الجهني الذي سئل ابن عمر عن مقالته، وكعمرو بن عبيد وغيره، وقد قال كثير من أئمة السلف: ناظروا القدرية بالعلم؛ فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوا فقد كفروا، يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد وأن الله تعالى قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ فقد كذب بالقرآن فيكفر بذلك، وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية فقد خصموا؛ لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور بين العلماء. وأما من أنكر العلم القديم فنص الشافعي وأحمد على تكفيره، وكذلك غيرهما من أئمة الإسلام»[5].
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: «وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالمًا في الأزل، وقالوا: إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوا! تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. قال الإمام الشافعي رحمه الله: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروا كفروا. فالله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه، فإنما يعذبه؛ لأنه لا يفعل مع القدرة، وقد علم الله ذلك منه ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه.
وإذا قيل: فيلزم أن يكون العبد قادرًا على تغيير علم الله؛ لأن الله علم أنه لا يفعل، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله؟ قيل: هذه معضلة، وذلك أن مجرد قدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه؛ بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع، وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع. ونحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر، وعلم الله مطابق للواقع، فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم؛ بل أي شيء وقع كان هو المعلوم، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغير العلم؛ بل هو قادر على فعل لم يقع، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع، لا أنه لا يقع»[6].


[1] مجموع الفتاوى (3/100).
[2] مجموع الفتاوى (5/197 ـ 198)، وانظر: الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (1/246).
[3] درء تعارض العقل والنقل (2/382).
[4] مدارج السالكين (1/67) [دار الكتاب العربي، ط2، 1393هـ].
[5] الإيمان الأوسط لابن تيمية (50).
[6] شرح الطحاوية لابن أبي العز (247) [وزارة الشؤون الإسلامية، السعودية، ط1، 1418هـ]، وانظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (23/349).


1 ـ «توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيِّم» (ج2)، لابن عيسى.
2 ـ «شرح العقيدة الأصفهانية»، لابن تيمية.
3 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، للسقاف.
4 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
5 ـ «النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى»، للنجدي.
6 ـ «أسماء الله الحسنى وصفاته العليا من كتب ابن القيِّم»، لعماد زكي البارودي.
7 ـ «توضيح الكافية الشافية»، للسعدي.
8 ـ «الحق الواضح المبين»، للسعدي.
9 ـ «شرح الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي.
10 ـ «معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في الأسماء الحسنى»، للتميمي.
11 ـ «المفاهيم المثلى في ظلال شرح أسماء الله الحسنى»، لوليد بن محمود بن حسن.