هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي الهاشمي أبو الحسن. وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف[1] و«هي أول هاشمية ولدت لهاشمي، توفيت مسلمة قبل الهجرة، وقيل: إنها هاجرت»[2].
[1] المعارف لابن قتيبة (203) [الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2]، والمعرفة والتاريخ للفسوي (1/274) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1401هـ]، والاستيعاب في معرة الأصحاب (3/1089) [دار الجيل، ط1] والإصابة في تمييز الصحابة (4/564) [دار الجيل، ط1].
[2] الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/1089). وانظر: المعارف لابن قتيبة (203).
ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم بعشر سنين على الصحيح، ورُبِّي في حجر النبي صلّى الله عليه وسلّم ولازمه[1]. وقتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين للهجرة النبوية عن ثلاث وستين سنة[2] على الراجح. قال الحافظ ابن حجر: «مات في رمضان سنة أربعين، وهو يومئذ أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السُّنَّة، وله ثلاث وستون على الأرجح»[3].
واختلف في يوم وفاته رضي الله عنه؛ فقيل: مات يوم ضربه، وهو يوم الجمعة السابع عشر من رمضان، وقيل بعده بيومين، وقيل: في العشر الأخير من رمضان[4]. واختلف في موضع دفنه على عدة أقوال، قال ابن كثير بعد ذكر طائفة منها: «والمشهور أنه دفن بدار الإمارة»[5].
[1] انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (4/564).
[2] انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/1094)، والبداية والنهاية (11/13 ـ 15، و21) [دار هجر، ط1].
[3] تقريب التهذيب لابن حجر (402).
[4] انظر: البداية والنهاية (11/131).
[5] البداية والنهاية (11/21).
أسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه قديمًا جدًّا؛ فهو أول من أسلم من الغلمان، قال ابن كثير: «أول من بادر إلى التصديق من الرجال الأحرار أبو بكر الصديق، ومن الغلمان علي بن أبي طالب، ومن النساء خديجة بنت خويلد زوجته رضي الله عنها، ومن الموالي مولاه زيد بن حارثة الكلبي رضي الله عنهم وأرضاهم»[1].
وقد كثرت الروايات الواهية والموضوعة في تحديد يوم إسلامه، وأنه صلَّى قبل المسلمين الآخرين سبع سنين، وفيما صح غنية عنها[2]، ولم يفارق النبي صلّى الله عليه وسلّم وشهد معه المشاهد كلها إلا غزوة تبوك، حيث استخلفه النبي صلّى الله عليه وسلّم على المدينة، لما ثبت من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «خلّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي »[3].
وذكر غير واحد من العلماء أنه لما خلّف النبي صلّى الله عليه وسلّم عليًّا رضي الله عنه على المدينة في غزوة تبوك، أرجف به المنافقون وزعموا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما خلفه مع النساء والصبيان استثقالاً له وتخفّفًا منه، فأخذ علي رضي الله عنه سلاحه ولحق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو نازل بالجرف، وأخبره بما قاله أهل المين والكذب، فكذبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال لعليّ ما قال كما في حديث سعد بن أبي وقاص المتقدم، فرجع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى المدينة ومضى النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفره[4].
[1] السيرة النبوية لابن كثير (1/214 ـ 215) [دار المعرفة، 1395هـ]، وأورده الألباني في صحيح السيرة (99). وانظر: مختصر السيرة لابن عبد الوهاب (84، 85) [المكتبة السلفية، ط2، 1396هـ].
[2] انظر: السيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري (1/134) [مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة ط6، 1415هـ].
[3] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 4416)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2404).
[4] انظر: سيرة ابن هشام (2/519، 520) [مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط2، 1375هـ] والإصابة في تمييز الصحابة (4/564) والبداية والنهاية (7/155).
لا شك أن علي بن أبي طالب هو صاحب المناقب الجمَّة والفضائل الكثيرة، وفيما يلي جملة منها:
ـ أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، كما جاء من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة»[1].
ـ شهادة النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي رضي الله عنه بأنه يحب الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويحبه الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فقد ثبت من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم خيبر: «لأعطينَّ هذه الراية غدًا رجلاً يفتح الله على يديه، يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله» . قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يُعطاها، فلمَّا أصبح الناس غدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال: أين عليُّ بن أبي طالب؟ فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه فأُتي به فبصق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عينيه، ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟، فقال: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» [2].
ـ ومن الأحاديث في بيان فضله وعلو مقامه: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من كنت مولاه فعلي مولاه»[3].
[1] أخرجه الترمذي (أبواب المناقب، رقم 3747)، وأحمد (3/209) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مناقب الصحابة، رقم 7002)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 50) [المكتب الإسلامي].
[2] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 4210)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2406).
[3] أخرجه الترمذي (أبواب المناقب، رقم 3714) وحسَّنه، وأحمد (32/29) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب معرفة الصحابة، رقم 4576) وصححه، وصححه أيضًا الألباني في السلسلة الصحيحة (4/330).
لعليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه مكانة كبرى ومنزلة عليا، فهو رضي الله عنه ابن عم النبي صلّى الله عليه وسلّم، والناشئ تحت رعايته، وزوج ابنته، وأحد الستة من أهل الشورى الذين توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو راض عنهم، ورابع الخلفاء الراشدين، كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يسند إليه مهامَّ كبيرة، فقد أعطاه الراية في غزوة خيبر ففتح الله على يديه كما تقدم في فضائله، وبعثه إلى اليمن حاكمًا[1]، ولما سمع بتوجه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الحج، خرج حاجًّا وساق هديه وأهلَّ بما أهلَّ به النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولما التقى النبي صلّى الله عليه وسلّم في مكة أخبره بما أهلَّ به، فأشركه النبي صلّى الله عليه وسلّم في هديه[2]، وكان الخليفتان أبو بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما يعظمانه، ويستشيرانه في الأمور المدلهمة، وما ذاك إلا لعلو شأنه عندهما، ومن ذلك أن عمر بن الخطاب استشار الناس لما بلغه خبر تجمع الفرس بنهاوند لقتال المسلمين، فأشار إليه بعض أهل الرأي من الصحابة، فأعاد عمر فقال: «إن هذا يوم له ما بعده من الأيام فتكلموا، فقام علي بن أبي طالب فقال: أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنك إن أشخصت أهل الشأم من شأمهم، سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن شخصت من هذه الأرض، انتقضت عليك الأرض من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات، أقرر هؤلاء في أمصارهم، واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا فيها ثلاث فرق، فلتقم فرقة لهم في حرمهم وذراريهم، ولتقم فرقة في أهل عهدهم؛ لئلاَّ ينتقضوا عليهم، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مددًا لهم، إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدًا، قالوا: هذا أمير العرب وأصل العرب، فكان ذلك أشد لكلبهم وألبتهم على نفسك، وأما ما ذكرت من مسير القوم، فإن الله هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم، فإنَّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، ولكنا كنا نقاتل بالنصر. فقال عمر: أجل والله»[3].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع عمر يقول لعليّ رضي الله عنهما وقد سأله عن شيء فأجابه: «أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا حسن»[4].
وغير ذلك مما يدل على سمو مكانته ورفعة شأنه رضي الله عنه.
[1] كما جاء عند أبي داود (كتاب الأقضية، رقم 3582)، وابن ماجه (كتاب الأحكام، رقم 2310)، وأحمد (2/68) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب معرفة الصحابة، رقم 4658) وصححه، وصححه الألباني في الإرواء (رقم 2500).
[2] كما في حديث جابر عند مسلم (كتاب الحج، رقم 1218). وانظر: البداية والنهاية (10/416، 417).
[3] تاريخ الطبري (2/524).
[4] الرياض النضرة في مناقب العشرة (3/166) [دار الكتب العلمية، ط2].
المسألة الأولى: مبايعة علي للصديق رضي الله عنهما:
بايع عليٌّ أبا بكر الصديق رضي الله عنهما بالخلافة، وجاء في الصحيح ما يدل على تأخر وقوع هذه البيعة[1]، لأسباب ذكرها علي لأبي بكر رضي الله عنهما يوم مبايعته إياه، وهي تتلخص في أن عليًّا كان يرى لنفسه نصيبًا في الأمر لقرابته من رسول الله، ولذا وجد في نفسه، ولم يكن يعترض على أفضلية الصدِّيق، وكونه أولى بالخلافة من غيره كما بيَّنه للصدّيق بقوله: «إنَّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرًا ساقه الله إليك... وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نصيبًا»[2]. فكان يرى لنفسه حق المشورة، وذكر بعض أهل العلم أن «العذر لأبي بكر أنه خشي من التأخر عن البيعة الاختلاف»[3]. هذا هو السبب في تأخر بيعة علي لأبي بكر بناء على رواية الصحيح، لكن ذكر ابن كثير أن هذه البيعة ليست هي الأولى، بل سبق أن بايع عليٌّ الصديقَ رضي الله عنهما، «ولكن لما وقعت هذه البيعة الثانية اعتقد بعض الرواة أن عليًّا لم يبايع قبلها، فنفى ذلك، والمثبت مقدم على النافي»[4].
وإنما وقعت «هذه البيعة لإزالة ما كان وقع من وحشة حصلت بسبب الميراث، ولا ينفي ما ثبت من البيعة المتقدمة عليها كما قررنا. والله أعلم»[5].
وما أشار إليه هنا بهذا الكلام فصله في موضع آخر فقال: «وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم على بيعة الصديق في ذلك الوقت، حتى علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، رضي الله عنهما وأرضاهما، والدليل على ذلك ما رواه البيهقي...»[6] ثم ساقه، وهو ما رواه البيهقي بإسناده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «لما تُوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم... فلما قعد أبو بكر رضي الله عنه على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير عليًّا رضي الله عنه، فسأل عنه فقام ناس من الأنصار فأتوا به، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وختنه أردت أن تشق عصا المسلمين. فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله، فبايعه»[7]. وقال ابن حجر: «وقد صحح ابن حبان وغيره من حديث أبي سعيد الخدري وغيره أن عليًّا بايع أبا بكر في أول الأمر... وأنه بايعه بيعة ثانية مؤكدة للأولى؛ لإزالة ما كان وقع بسبب الميراث كما تقدم... وبسبب ذلك أظهر علي المبايعة التي بعد موت فاطمة؛ لإزالة هذه الشبهة»[8].
المسألة الثانية: اتهام علي بالتحريض على قتل عثمان رضي الله عنهما:
لا شك أن روايات الواقدي تظهر لمتتبعها عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه على أنه واحد من الذين أسهموا في نهاية عثمان[9].
وهذا ـ مع ضعفه ـ مصادم لروايات ثابتة تبطل هذه الاتهامات وتنسفها من جذورها، وتثبت براءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه من ذلك كله، فقد روى الإمام أحمد بن حنبل بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «رأيت عليًّا رافعًا حضنيه يقول: اللَّهُمَّ إني أبرأ إليك من دم عثمان»[10]. وروى أيضًا بإسناده عن عميرة بن سعد قال: «كنا مع علي على شاطئ الفرات، فمرت سفينة مرفوع شراعها، فقال: عليُّ: «يقول الله عزّ وجل: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ *} [الرحمن] ، والذي أنشأها في بحر من بحاره، ما قتلت عثمان، ولا مالأت على قتله»[11].
وروى أيضًا بإسناده عن محمد بن الحنفية قال: «بلغ عليًّا أن عائشة رضي الله عنها تلعن قتلة عثمان في المربد، قال: فرفع يديه حتى بلغ بهما وجهه فقال: وأنا ألعن قتلة عثمان، لعنهم الله في السهل والجبل، قال مرتين أو ثلاثًا»[12].
المسألة الثالثة: الحكم الشرعي من القتال في الفتنة:
لا شك أن الاقتتال الحاصل في الجمل وصفِّين هو الاقتتال في الفتنة بتأويل، ويدل لذلك أمور:
الأمر الأول: اعتزال محمد بن مسلمة رضي الله عنه للقتال، وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه لن تضره فتنة كما جاء من حديث حذيفة رضي الله عنه أنه قال: ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تضرك الفتنة»[13].
وعن ثعلبة بن ضبيعة قال: «دخلنا على حذيفة فقال: إني لأعرف رجلاً لا تضره الفتن شيئًا. قال: فخرجنا فإذا فسطاط مضروب، فدخلنا فإذا فيه محمد بن مسلمة، فسألناه عن ذلك؟ فقال: ما أريد أن يشتمل عليّ شيء من أمصاركم حتى تنجلي عمَّا انجلت»[14]. أي: أني لا أريد أن أسكن وأقيم في أمصاركم حتى تنكشف وتزول الفتنة[15].
فقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث والذي قبله بأن محمد بن مسلمة رضي الله عنه لا تضره الفتنة، وهو ممن اعتزل في القتال فلم يقاتل مع علي ولا مع معاوية[16].
و«استُدل به على أن القتال كان قتال فتنة بتأويل، لم يكن من الجهاد الواجب ولا المستحب»[17].
الأمر الثاني: ندم كل من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما على ما حصل في موقعة الجمل، ومطالبة معاوية لعلي بالصلح وترك الاقتتال وقبول علي ذلك منه في موقعة صفين.
الأمر الثالث: أن هذا القتال امتنع من المشاركة فيه عدد كبير من الصحابة، «كسعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وأبو بكرة، وعمران بن حصين، وأكثر السابقين الأولين»[18].
وبالجملة فالقتال يوم صفين والجمل لدى القاعدين عنه من الصحابة وجمهور أهل الحديث والسُّنَّة وأئمة الفقهاء بعدهم هو قتال فتنة[19]، ليس فيه أمر من الله ولا رسوله ولا إجماع من الصحابة[20]. و«كرهه فضلاء الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر العلماء، كما دلَّت عليه النصوص. حتى الذين حضروه كانوا كارهين له، فكان كارهه في الأمة أكثر وأفضل من حامده»[21].
وفي يوم الجمل لما انتهت الحرب قال عليٌّ لعائشة: «غفر الله لك. قالت: ولك، ما أردت إلا الإصلاح. ثم أنزلها في دار البصرة، وأكرمها واحترمها، وجهّزها إلى المدينة في عشرين أو أربعين امرأة من ذوات الشرف، وجهّز معها أخاها محمدًا، وشيّعها هو وأولاده، وودّعها رضي الله عنهم»[22].
المسألة الرابعة: قتاله للخوارج:
خرجت الخوارج على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه سنة ثمان وثلاثين هجرية، ناقمين عليه ثلاث مسائل بغير حق، واعتزلوا جماعة المسلمين، وشقُّوا عصا طاعة أمير المؤمنين، فذهب إليهم حبر الأمة وترجمان القرآن في عقر دارهم، وسألهم عن دوافع خروجهم على أمير المؤمنين ومفارقتهم جماعة المسلمين، فتعلقوا بثلاث شبه هزيلة، فانقضَّ عليها ابن عباس بالرد والإبطال، فأصبحت كالهباء المنثور، وكالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا. فاعترفوا بالهزيمة، وأقروا بالإفلاس عن الحجة والبرهان فرجع كثير منهم، وبقي من كابر وعاند.
وتركهم المسلمون ولم يقاتلوهم، ولكن الخوارج بدؤوا يفسدون في الأرض، فقطعوا السبيل، واستحلوا المحارم، وسفكوا الدماء، وممن سُفك دمه عبدُ الله بن خباب بن الأرت وامرأته[23]، فقالوا لعبد الله: «من أنت؟ فانتسب لهم، فسألوه عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فأثنى عليهم كلهم، فذبحوه وقتلوا امرأته، وكانت حبلى، فبقروا بطنها، وكان من سادات أبناء الصحابة»[24]. وكان علي رضي الله عنه قبل هذا يتجهز لحرب أهل الشام، وجمع جيشًا كبيرًا لذلك، ولكن لما أحدث الخوارج هذه المفاسد العظام، خاف من شرهم على الأهل والولد والديار إذا خرج إلى الشام بهذه الجيوش، فاستشار أصحابه، فاجتمع الرأي على قتال الخوارج، فأرسل علي رضي الله عنه إلى الخوارج الحارث بن مرة العبدي ليطلع له على أخبارهم، ويعرف أمرهم، ولما جاءهم الحارث قتلوه، وحينئذٍ عزم علي رضي الله عنه على قتالهم وسار إليهم، ولما اقتربوا منهم وتقابل الجيشان، نصحهم علي رضي الله عنه بدفع القتلة منهم إليه للاقتصاص منهم، وترك القتال فيما بينهم، فرفض الخوارج هذا، وقالوا: نحن كلنا قتلة أصحابكم ونحل دماءكم، فأمر عليٌّ أبا أيوب الأنصاري أن يكون في ناحية ويرفع لواء الأمان للخوارج، فجاء عدد كبير منهم، وهاج الباقون منهم لقتال جيش علي، فقابلهم الجيش، وقاتلوهم، ولم يبقوا من الخوارج إلا نفرًا يسيرًا، ولم يقتل من جيش علي رضي الله عنه سوى سبعة، ثم خرج علي في طلب ذي الثدية، فاستخرجوه من تحت عدد من القتلى[25]، وإنما بحث علي رضي الله عنه عنه؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعته له فأراد أن يتحقق منه، فقد روى عبد الله بن أحمد بسنده عن أبي الوضيء قال: «شهدت عليًّا حين قتل أهل النهروان، قال: «التمسوا في القتلى»، قالوا: لم نجده، قال: «اطلبوه فوالله ما كذَبت ولا كُذِبت» حتى استخرجوه من تحت القتلى، قال أبو الوضيء: فكأني أنظر إليه؛ حبشي، إحدى يديه مثل ثدي المرأة، عليها شعرات مثل ذنب اليربوع»[26].
وكانت المعركة في شعبان، وقيل: في صفر، من العام الثامن والثلاثين هجرية[27].
المسألة الخامسة: تآمر من بقي من الخوارج على قتل علي رضي الله عنه:
وفي النهاية كان قتل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب على يد أحد الخوارج المارقين، وهو عبد الرحمن بن ملجم، الذي اتفق مع اثنين من الخوارج، على قتل كل من علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص رضي الله عنهم في ليلة واحدة، وهي السابعة عشرة من رمضان، وتولى عبد الرحمن بن ملجم مهمة قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأخذ يجهز سيفه ويسمه لهذا الأمر، ثم سافر إلى الكوفة، وندبت له زوجته قطام بنت الشجنة رجلاً من قومها من تيم الرباب يقال له: وردان؛ ليكون معه ردءًا، واستمال ابن ملجم رجلاً آخر يقال له: شبيب بن بجرة الأشجعي الحروري... فواعدهم ابن ملجم ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت، وقال: هذه الليلة التي واعدت أصحابي يقتل كل واحد منا فيها صاحبه الذي ذهب إليه، فجاء هؤلاء الثلاثة؛ وهم ابن ملجم ووردان وشبيب، وهم مشتملون على سيوفهم، فجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي، فلما خرج جعل ينهض الناس من النوم إلى الصلاة ويقول: الصلاة الصلاة. فثار إليه شبيب بالسيف فضربه فوقع في الطاق، فضربه ابن ملجم بالسيف على قرنه، فسال دمه على لحيته[28]، وهكذا قتل علي رضي الله عنه ومسك ابن ملجم، ثم قتل بعد وفاة علي.
المسألة السادسة: ما قيل من قتاله رضي الله عنه الجن:
يحكي كثير من القصاصين عن علي بن أبي طالب حكايات غريبة، ويقص قصصًا وأخبارًا عجيبة ينسبونها إليه ـ وهي تقوي أكاذيب الرافضة في علي وغيره من الأئمة من ادّعاء القوى الخيالية الخرافية لهم ـ، منها: ادعاؤهم أنه قاتل الجن، في موضع قريب من الجحفة، وهو كذب عليه، قال ابن كثير: «وما يذكره كثير من القصاص في مقاتلته الجن في بئر ذات العلم ـ وهو بئر قريب من الجحفة ـ فلا أصل له، وهو من وضع الجهلة من الأخباريين فلا يغتر به»[29].
[1] صحيح البخاري (كتاب المغازي، رقم 4240، 4241)، ومسلم (كتاب الجهاد والسير، رقم 1759).
[2] انظر تخريجه في الحاشية السابقة. وانظر أيضًا: فتح الباري لابن حجر (7/494، 495).
[3] فتح الباري لابن حجر (7/495).
[4] البداية والنهاية (8/189).
[5] المصدر نفسه (9/490).
[6] المصدر نفسه (9/415 ـ 416).
[7] أخرجه الحاكم (كتاب معرفة الصحابة، رقم 4457) وصححه، وعنه البيهقي في السنن الكبرى (كتاب قتال أهل البغي، رقم 16538).
[8] فتح الباري لابن حجر (7/495).
[9] انظر: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدثين لمحمد أمحزون (2/14) [دار طيبة، ومكتبة الكوثر، ط1، 1415هـ].
[10] أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1/452) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1403هـ]. وأخرجه الحاكم (كتاب معرفة الصحابة، رقم 4527) من طريق آخر، وصححه.
[11] أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1/458)، وقال محققه: «إسناده حسن». وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (جامع معمر، رقم 20972) من طريق آخر.
[12] أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1/458)، وقال محققه: «إسناده حسن».
[13] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4663)، وقال ابن كثير: هذا منقطع. البداية والنهاية (9/181) [دار هجر، ط1].
[14] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4664)، والحاكم (كتاب معرفة الصحابة، رقم 5838) وصححه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/136).
[15] انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود (9/1885)، [المكتبة السلفية، المدينة المنورة، ط2، 1388هـ].
[16] انظر: منهاج السُّنَّة النبوية (1/541) [جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1، 1406هـ].
[17] المصدر نفسه (7/57).
[18] انظر: المصدر نفسه (1/542).
[19] انظر: المصدر نفسه (4/502).
[20] المصدر نفسه (4/501).
[21] المصدر نفسه (5/153).
[22] شذرات الذهب في أخبار من ذهب (1/206) [دار ابن كثير، ط1، 1406هـ].
[23] انظر: البداية والنهاية (10/583 ـ 584).
[24] سير أعلام النبلاء ـ سير الخلفاء الراشدين (279) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1417هـ].
[25] انظر: البداية والنهاية (10/584 ـ 589).
[26] أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (2/375) [مؤسسة الرسالة، ط1]. وهو عند مسلم (كتاب الزكاة، رقم 1066) بنحوه.
[27] انظر: سير أعلام النبلاء ـ سير الخلفاء الراشدين (279، 280).
[28] انظر: البداية والنهاية (11/13).
[29] المصدر نفسه (10/417).
ـ النواصب : هم الذين ينصبون العداء لأهل البيت، ويقدحون فيهم، ويفسّقون علي بن أبي طالب أو يكفّرونه، ويسبونه ويتبرؤون منه وممن والاه، وينكرون خلافته، ويقولون فيه من جنس أقوال الرافضة في الخلفاء الثلاثة الأُوَل[1]، ويدّعون أنه لم يكن مصيبًا في حروبه[2]. وهم طوائف؛ من أبرزهم: الخوارج والمعتزلة[3] وبعض بني أُميَّة ومن تبعهم من أهل الشام المنكرين لخلافته[4]. والنواصب على النقيض من الروافض، فإنهم لما شاهدوا الرافضة يغلون في آل البيت؛ عمدوا إلى مخالفتهم فقالوا: إذًا نبغض آل البيت ونسبهم؛ مقابلة لهؤلاء في الغلو في محبتهم والثناء عليهم[5].
الرد عليهم:
لا شك أن النواصب ضالَّون في بغضهم آل البيت، ومبطلون في تكفيرهم لعلي بن أبي طالب أو تفسيقهم إياه أو لغيره من آل البيت لأمور؛ منها:
الأول: شهادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له الجنة، كما تقدم في فضائله.
الثاني: ما ثبت في طائفة من الأحاديث من «شهادة النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي بإيمانه باطنًا وظاهرًا، وإثباتًا لموالاته لله ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له»[6].
الثالث: شهادته صلّى الله عليه وسلّم له أيضًا بأنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كما تقدم في فضائله من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم خيبر: «لأعطينَّ هذه الراية غدًا رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله...» [7]. و«هذا الحديث من أحسن ما يُحتَجّ به على النواصب الذين يتبرؤون منه ولا يتولونه ولا يحبونه»[8].
الرابع: أن بغض آل البيت وتفسيقهم أو تكفيرهم محادّة للنبي صلّى الله عليه وسلّم في وصيته بأهل بيته، وخروج عن سبيل المؤمنين. فقد ثبت من حديث زيد بن أرقم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»[9].
وسبيل المؤمنين في الصحابة هو أنهم «يحبون أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم... ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم. ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل»[10]، فمن قدح في أهل البيت وأبغضهم وآذاهم فقد خالف سبيل المؤمنين، وحسبه جهنم وبئس المصير.
الخامس: أما طعنهم في حروب علي رضي الله عنه فقد سبق أن القتال في يوم الجمل وصفين كان قتال فتنة، ولكن مع ذلك فإن موت عمَّار يوم صفين مع جيش علي دل على إصابة علي رضي الله عنه في هذا القتال، وكذا قوله صلّى الله عليه وسلّم للزبير رضي الله عنه في حق علي رضي الله عنه: «لتقاتلنه وأنت ظالم له» [11]، وهو بتجاوز الحد عليه بتأويل، وهذا يدل على إصابة علي رضي الله عنه في هذا القتال أيضًا. ولذا قال الحافظ ابن حجر: «والحق أن عليًّا كان مصيبًا في حروبه، فله في كل ما اجتهد فيه من ذلك أجران»[12]. وأما قتاله للخوارج فلا شك في صوابه كما تقدم في المسألة الرابعة من المسائل المتعلقة.
ـ الروافض : يعتقد الروافض أن الخليفة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم مباشرة هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويدّعون أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نص على إمامته[13]، وحكى شيخهم المفيد إجماع الطائفة على هذا[14].
وحكموا على الخلفاء الذين قبله بالضلال والخلود في النار؛ لتقدمهم عليه في الخلافة[15].
وسعى الروافض لإثبات هذا المعتقد شتى المساعي، وأقوى دليلهم في هذا هو تعلقهم بقول الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ *} [المائدة] . فقد اعتبرها الروافض دليلاً صريحًا على كون إمامة علي بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم مباشرة بالنص؛ ولذا أكثروا من الكلام حولها[16]. فمما ادّعوه فيها: أن معنى الولي هو المتصرف في الناس وهو معنى الإمام، وأن الآية فيه نزلت بالإجماع، وأنه الوحيد الذي أنفق خاتمه على المسكين وهو راكع[17].
[1] انظر: منهاج السُّنَّة (7/339، و4/386، و5/44، و46)، والبداية والنهاية (9/154)، وشرح الواسطية لابن عثيمين (2/283) [دار ابن الجوزي، ط6]، وشرح الواسطية لهراس (244 ـ 248) [دار الهجرة، ط3].
[2] انظر: فتح الباري لابن حجر (1/543).
[3] انظر: منهاج السُّنَّة النبوية (4/386، و395).
[4] انظر: البداية والنهاية (9/154).
[5] انظر: شرح الواسطية لابن عثيمين (2/284).
[6] منهاج السُّنَّة النبوية (5/46).
[7] تقدم تخريجه.
[8] منهاج السُّنَّة النبوية (5/44).
[9] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2408).
[10] مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/154).
[11] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (كتاب الجمل وصفين والخوارج، رقم 37827)، والحاكم (كتاب معرفة الصحابة، رقم 5574) وصححه، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 2659).
[12] فتح الباري لابن حجر (12/309).
[13] انظر: رسائل الشريف المرتضى (3/20) [دار القرآن الكريم، قم، 1405هـ]، وأوائل المقالات للمفيد (40) [دار المفيد، ط2، 1414هـ].
[14] انظر: أوائل المقالات للمفيد (40).
[15] انظر: أوائل المقالات للمفيد (41، 42).
[16] انظر: نهج الحق وكشف الصدق لحسن الحلي (173) [مؤسسة الطباعة والنشر دار الهجرة، قم، 1421هـ]، وزبدة البيان لأحكام القرآن لأحمد الردبيلي (107 ـ 108) [المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، طهران]، وشرح أصول الكافي للمازندراني (4/234) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1421هـ].
[17] انظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (2/208) [المكتبة الحيدرية، النجف، 1376هـ]. والاحتجاج للطبرسي (2/252) [دار النعمان، النجف، 1386هـ]، وفقه القرآن لسعيد الراوندي (1/116) [مكتبة المرعشي، ط2، 1405هـ]، وكنز الفوائد لمحمد الكراجكي (154، 155) [مكتبة المصطفوي، قم، ط2].
لا شك أن القول بإمامة علي رضي الله عنه نصًّا بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم مباشرة في غاية البطلان؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ينص ولم يوص بالخلافة لعلي رضي الله عنه، ولذا فهذه أكاذيب الرافضة طعنوا بها على الصحابة الذين هم أشرف الأمم في الدنيا والآخرة بنص القرآن وإجماع السلف والخلف، بل لوّح النبي صلّى الله عليه وسلّم بذكر الصديق، وأشار إليه إشارة مهمة[1]، فقد ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في مرض النبي الذي توفي فيه، حيث قال العباس لعلي: «اذهب بنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلنسأله فيمن هذا الأمر، إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علّمناه فأوصى بنا، فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم»[2].
وأما الآية التي تعلقوا بها في هذا الأمر فلا تمت بصلة إلى دعواهم؛ لأمور:
الأمر الأول: أنه فيما قبلها وما بعدها نهي شديد عن محبة الكفار ومعاضدتهم ومناصرتهم، فقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *} [المائدة] ؛ أي: لا تجعلوهم أحبابًا وأنصارًا، وليس المقصود لا تتخذوا اليهود والنصارى أئمة متصرفين في شؤونكم؛ لأن هذا معلوم البطلان بالضرورة.
ثم بيَّن الله تعالى لمن تكون المحبة والنصرة، فقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ *} [المائدة] .
ثم أعاد الله النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء فيما بعدها، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *} [المائدة] .
فمعنى الولاية في هذه الآيات واحد، وهو المحبة والنصرة[3]، وفصلهم للآية التي احتجوا بها عمَّا قبلها وعمَّا بعدها، وجعلهم الولاية فيها بمعنى المتصرف في شؤون الناس، وهو الإمام، لا بمعنى المحب والناصر هو تعسف صرف، وتحكم أعمى، وتلاعب بدلالات القرآن الكريم، وهو ظاهر الفساد.
ثانيًا: أن تفسير الرافضة لقوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ *} [المائدة] بأن عليًّا أعطى الزكاة حال ركوعه، وهذا فضل استحق به الإمامة لم يُسبق إليه الروافض، وكفى به فسادًا.
ثالثًا: أن في إخراج الزكاة حال الركوع تشاغلاً عن الصلاة، ينزه عنه الخليفة الراشد علي رضي الله عنه.
رابعًا: قد جاء عن علي بن أبي طالب ما يهدم قول الروافض بإمامته بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم مباشرة لنص النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه، ولأفضليته على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في زعمهم، فقد صح عن محمد بن الحنفية أنه قال: «قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت، قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين»[4]. وقال القرطبي: «وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سبق النبي صلّى الله عليه وسلّم وصلّى أبو بكر، وثلَّث[5] عمر، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد المفتري ثمانين جلدة وطرح الشهادة»[6].
دل هذا الأثر على أمرين مهمين:
أحدهما: أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل هذه الأمة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والآخر: أن من فضّل عليًّا رضي الله عنه عليهما فهو من المفترين يستحق جلد ثمانين سوطًا. وإذا كان هذا حكم من فضّله على الشيخين رضي الله عنهما فكيف سيكون حكمه على من كفّرهما!؟
وإنه لمن الغريب حقًّا أن نجد شواهد عديدة لهذا الأثر الثابت عن علي رضي الله عنه في كتب الروافض، ومع ذلك يضربون عنها صفحًا! راكبين رؤوسهم، ومنساقين خلف أهوائهم، فمن ذلك مثلاً: ما جاء في نهج البلاغة المنسوب إلى علي رضي الله عنه: «ولما سُئل عليٌّ رضي الله عنه عن سبب بيعته لأبي بكر رضي الله عنه بالخلافة قال: لولا أنا رأينا أبا بكر لها أهلاً، لما تركناه»[7].
وذكر الشريف المرتضى عن علي رضي الله عنه: «أنه قيل له: ألا توصي؟ قال: ما أوصى رسول الله فأوصي، ولكن إن أراد الله بالناس خيرًا فسيجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم»[8].
وقد اعترف الشريف المرتضى بقوة دلالة هذا الأثر على تفضيل أبي بكر وتقديمه على علي رضي الله عنهما، حيث قال: «فيه التصريح القوي بفضل أبي بكر عليه، وأنه خير منه»[9].
[1] انظر: البداية والنهاية (10/417، 418).
[2] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 4447).
[3] انظر: تفسير الرازي (12/384).
[4] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3671).
[5] أي: أصبح عمر الثالث في الترتيب.
[6] تفسير القرطبي (17/240) [دار عالم الكتب، الرياض، 1423هـ]. وما ورد فيه من قول علي رضي الله عنه أن سيجلد من يفضله على أبي بكر رضي الله عنه: أخرجه بنحوه ابن أبي عاصم السُّنَّة (2/480) [المكتب الإسلامي، ط1، 1400هـ]، وعبد الله بن أحمد في السُّنَّة (2/588) [دار ابن القيم، ط1]، وحسّنه الألباني في ظلال الجنة.
[7] نهج البلاغة (1/130، و2/45، و6/40).
[8] الشافي في الإمامة للشريف المرتضى (3/91) [مؤسسة إسماعيليان، قم، ط2، 1410هـ] وانظر: الصراط المستقيم للعاملي (2/40) [المكتبة المرتضوية].
[9] الشافي في الإمامة للشريف المرتضى (3/99).
1 ـ «الاستيعاب في معرة الأصحاب» (ج3)، لابن عبد البر.
2 ـ «الإصابة في تمييز الصحابة» (ج4)، لابن حجر.
3 ـ «البداية والنهاية» (ج7، و9، و10، و11)، لابن كثير.
4 ـ «المعارف»، لابن قتيبة.
5 ـ «السيرة النبوية الصحيحة» (ج1)، لأكرم ضياء العمري.
6 ـ «سيرة ابن هشام» (ج2).
7 ـ «تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدثين» (ج2)، لمحمد أمحزون.
8 ـ «فضائل الصحابة» (ج1)، لأحمد بن حنبل.
9 ـ «سير أعلام النبلاء ـ سير الخلفاء الراشدين»، للذهبي.
10 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية» (ج1)، لابن تيمية.