حرف العين / عيسى عليه السلام

           

هو: عيسى ابن مريم بنت عمران؛ لأن الله نسبه إلى مريم، وذكر سبحانه أنها مريم بنت عمران، فقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} [المائدة: 110] ، وقال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ} [التحريم: 12] .



قال الأزهري: «عيسى: اسم أعجمي عُدل عن لفظه بالأعجمية إلى هذا البناء، وهو غير مصروف في المعرفة؛ لاجتماع العجمة والتعريف فيه... فأما اسم نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فمعدول عن: أيسوع، كذا يقول أهل السريانية»[1]. وقال الجوهري: «وعيسى: اسم عبراني أو سرياني»[2]. ولفظ (عيسى) بالسريانية: يشوع[3].


[1] تهذيب اللغة (3/60، 61) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م].
[2] الصحاح (3/955).
[3] انظر: الكشاف للزمخشري (1/188) [دار إحياء التراث العربي، بيروت] وتعليق الدكتور ف. عبد الرحيم على المعرّب من كلام الأعجمي للجواليقي (452) الفقرة (449، 450) [دار القلم، ط1، 1410هـ].


مولده:
لقد كان حمل مريم بعيسى آية من آيات الله الدالة على عظيم قدرته سبحانه وتعالى، وقد ذكر الله لنا في كتابه قصة حملها به وولادتها إياه، فقال عزّ وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيًّا *فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا *قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا *قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَِهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا *قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا *قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا *فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيًّا *فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا *فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا *وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا *فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا *} [مريم] .
وكان مولد عيسى في بيت لحم بفلسطين، قريبًا من بيت المقدس[1]، وهذا المكان ـ على الراجح ـ هو المراد بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ *} [المؤمنون] ، فقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح[2] عن قتادة أنه قال في تفسير الآية: «ذات ثمار وماء، وهي بيت المقدس»[3]، ورجحه ابن كثير[4]، وقال السعدي: «{وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون: 50] ؛ أي: مكان مرتفع، وهذا ـ والله أعلم ـ وقت وضعها»[5].
وبعد الولادة جاءت بابنها إلى قومها تحمله، فاستغربوا من إنجابها ولدًا من غير أن يكون لها زوج، فذكّروها بطهارتها وطهارة أسرتها عن الفواحش، فأشارت إلى طفلها، ليجيب عن هذه الأسئلة، فنطق الطفل بأمر الله، وبيّن حقيقته ووظيفته. قال الله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا *يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا *فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا *قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا *وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا *وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا *وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا *ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ *} [مريم] .
نشأته:
لم نقف على شيء يمكن الاعتماد عليه في بيان نشأة عيسى عليه السلام، ولكن قيل: إن عيسى عليه السلام نشأ في مصر بناء على تفسير الربوة المذكورة في قوله تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون: 50] أنها مصر، حيث وصل الملك الذي كان في زمان عيسى خبر مفاده أن نهاية ملكه سيكون على يدي نبي سيولد عن قريب، فأصبح يلاحق المواليد ويفتك بهم، ففرَّت مريم بابنها إلى مصر، وبقيت هناك إلى أن مات الملك هيرودس، ثم رجعت إلى الغوطة بدمشق[6].


[1] انظر: البداية والنهاية (2/533) [دار هجر، ط1، 1418هـ] وصحيح (قصص الأنبياء لابن كثير) لسليم الهلالي (481) [دار إحياء التراث العربي، ط3]، وفبهداهم اقتده: قراءة تأصيلية في سير وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (447) [دار إيلاف الدولية، ط1].
[2] انظر: الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (3/432) [دار المآثر، المدينة النبوية، ط1].
[3] رواه عبد الرزاق الصنعاني في تفسيره (2/416) [دار الكتب العلمية، ط1، 1419هـ]، والطبري في تفسيره (17/58) [دار هجر، ط1، 1422هـ].
[4] تفسير ابن كثير (5/477) [دار طيبة، ط2].
[5] تفسير السعدي (553) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[6] انظر: تاريخ الطبري (1/351) [دار الكتب العلمية، ط1، 1407هـ]، وفبهداهم اقتده: قراءة تأصيلية في سير وقصص الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ (446).


نصَّ الله تعالى على نبوَّة عيسى عليه السلام وكونه رسول الله في آيات عديدة، منها قول الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] ، وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَم يابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] ، وقوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] .
وعن عبادة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنَّة حق والنَّار حق أدخله الله الجنَّة على ما كان من العمل»[1].


[1] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3435) واللفظ له، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 28).


لقد أعطى الله نبيه عيسى جملة من آيات نبوته ودلائل رسالته، قال الله تعالى: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *} [آل عمران] ، وقال عزّ وجل: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ *} [المائدة] ، فقد دلَّت هذه الآيات على طائفة من معجزاته وجملة من دلائل نبوته، وهي: الخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه الروح فيكون طيرًا بإذن الله، إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، والإخبار بما يأكلون وما يدَّخرون، وكلامه في المهد.



أنزل الله على نبيه عيسى ابن مريم عليه السلام الإنجيل، كما قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ *} [المائدة] ، وقال عزّ وجل: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ} [الحديد: 27] .
وقد جاء في السُّنَّة تحديد وقت نزول الإنجيل، فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان»[1].


[1] أخرجه أحمد (28/191) [مؤسسة الرسالة، ط2]، والطبراني في المعجم الأوسط (4/111) [دار الحرمين، القاهرة، 1415هـ] واللفظ له، وقال الهيثمي في المجمع (1/197) [مكتبة القدسي]: (فيه عمران بن داور القطان، ضعفه يحيى، ووثقه ابن حبان، وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث، وبقية رجاله ثقات)، وحسَّنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/104، رقم 1575) [مكتبة المعارف، ط1].


كانت دعوة عيسى عليه السلام إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، والحث على تقوى الله وخشيته وطاعة رسوله، وتحليل بعض ما حُرّم على بني إسرائيل، قال الله تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ *إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ *} [آل عمران] .
قومه وموقفهم منه:
قومه هم بنو إسرائيل، وقد انقسموا تجاه دعوته إلى قسمين: مؤمنين به مقرِّين بنبوته، وكافرين جاحدين لرسالته، قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ *} [آل عمران] .
وقال الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحْوا ظَاهِرِينَ *} [الصف] .



دلَّت النصوص من كتاب الله والسُّنَّة المتواترة، وإجماع الأُمَّة على أن نبي الله عيسى عليه السلام لم يزل حيًّا في السماء الثانية[1]، وسينزل في آخر الزمان إلى الأرض، ويحكم بشريعة النَّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، ويقتل الدجال، ويضع الجزية، ويكسر الصليب، ويؤمن به أهل الكتاب ويستكمل بقية عمره ثم يموت، قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا *} [النساء] ؛ أي: قبل موته الذي سيقع بعد نزوله من السماء في آخر الزمان، فهذه الآية تدل على أن عيسى ابن مريم حي الآن، قال ابن كثير في تفسيرها: «أي: وإن من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة»[2]. فالضميران في (به) و(موته) عائدان إلى عيسى ابن مريم على القول الصحيح[3].
وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61] .
قال ابن كثير: «وقرئ: (عَلَمٌ) بالتحريك؛ أي: إشارة ودليل على اقتراب الساعة؛ وذلك؛ لأنه ينزل بعد خروج المسيح الدجال، فيقتله الله على يديه»[4].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد»[5].
قال الحافظ ابن كثير في أحاديث نزول عيسى عليه السلام: «فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من رواية أبي هريرة، وابن مسعود، وعثمان بن أبي العاص، وأبي أمامة، والنواس بن سمعان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومجمع بن جارية، وأبي سريحة، وحذيفة بن أسيد رضي الله عنهم، وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه، من أنه بالشام، بل بدمشق، عند المنارة الشرقية[6]، وأن ذلك يكون عند إقامة الصلاة للصبح»[7][8].


[1] انظر: المسألة الثالثة تحت فقرة: المسائل المتعلقة.
[2] تفسير ابن كثير (2/47).
[3] انظر: إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة (3/93) [دار الصميعي، ط2].
[4] تفسير ابن كثير (2/464، 465).
[5] أخرجه البخاري (كتاب البيوع، رقم 2222)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 155).
[6] كما عند مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 2937).
[7] كما عند ابن ماجه (كتاب الفتن، رقم 4077)، وقال ابن كثير في تفسيره (2/461) [دار طيبة، ط2]: هذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه.
[8] تفسير ابن كثير (2/464).


المسألة الأولى: رفعه إلى السماء بروحه وجسده:
لقد رفع الله نبيّه عيسى عليه السلام إلى السماء حيًّا حينما أراد اليهود قتله، وألقى شبهه على رجل آخر فقتلوه؛ ظنًّا منهم أنه عيسى ابن مريم عليه السلام، وأشاعوا ذلك، فكذَّبهم الله بقوله:{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً *بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا *} [النساء] . وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] ؛ أي: أني رافعك إليّ، ثم متوفيك بعد ذلك، فهذا فيه تقديم وتأخير، كما جاء عن قتادة وغيره[1]. قال السعدي: «فرفع الله عبدَه ورسولَه عيسى إليه، وألقى شبهه على غيره، فأخذوا من أُلقي شبهه عليه فقتلوه وصلبوه، وباؤوا بالإثم العظيم؛ بنيتهم أنه رسول الله»[2].
المسألة الثانية: نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان وحكمه بشريعة الإسلام:
دلَّت النصوص من كتاب الله والسُّنَّة المتواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على نزول عيسى في آخر الزمان، وحكمه بشريعة الإسلام.
المسألة الثالثة: مكان عيسى عليه السلام في السماوات:
جاء في صحيح السُّنَّة ما يحدد مكان عيسى عليه السلام في السماوات، وهو السماء الثانية، وذلك في حديث مالك بن صعصعة الطويل في الإسراء والمعراج عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيه: «ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمّد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحبًا به فنعم المجيء، جاء ففتح، فلمَّا خلصت إذا يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلِّم عليهما، فسلمت فردّا، ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح»[3].
المسألة الرابعة: المضطربون في نسب عيسى:
طعن اليهود في نسب عيسى عليه السلام، فزعموا أنه ابن زنا، وتذبذب النصارى؛ فقالوا مرة إنه ابن يوسف النجار، ومرة قالوا: إنه ابن الله وأنه ثالث ثلاثة، وكل هؤلاء دجَّالون أفّاكون، وقولهم مصادم لما ثبت بالكتاب والسُّنَّة من طهارة مريم وعفّتها ونقاء أصلها، فقد فضّل الله تعالى آل عمران على عالمي زمانهم، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ *} [آل عمران] ، وأثنى الله تعالى على مريم على وجه الخصوص فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75] ، وقد دلَّت الأدلة الشرعية على أن عيسى عليه السلام مخلوق من أم فقط، وليس هذا بأعجب ممن هو مخلوق من غير أم ولا أب، وهو آدم عليه السلام، ومع ذلك فالناس مقرّون بهذا، قال الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [آل عمران] ، وقال تعالى في مريم وابنها: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ *} [الأنبياء] .
وقد أخبر الله في كتابه كيفية حمل مريم بابنها عيسى فقال سبحانه: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ *} [التحريم] ، وقال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ *} [الأنبياء] .
قال ابن كثير في قوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيًّا *فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا *} [مريم] : «يقول تعالى مخبرًا عن مريم إنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال؛ إنها استسلمت لقضاء الله تعالى، فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك ـ وهو جبريل عليه السلام ـ عند ذلك نفخ في جيب درعها، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج، فحملت بالولد بإذن الله تعالى»[4].
المسألة الخامسة: بشارة عيسى ابن مريم بالنبي العربي محمد صلّى الله عليه وسلّم:
لقد أخبر نبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام قومَه بمجيء رسول الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم وبشّر بإتيانه من بعده، كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَم يابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] .


[1] انظر: المرجع السابق (2/46).
[2] تفسير السعدي (132).
[3] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3430)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 162).
[4] تفسير ابن كثير (5/221).


1 ـ «تاريخ الطبري» (ج1).
2 ـ «تفسير الطبري».
3 ـ «البداية والنهاية» (ج2)، لابن كثير.
4 ـ «تفسير ابن كثير» (ج5).
5 ـ «صحيح (قصص الأنبياء لابن كثير)»، لسليم الهلالي.
6 ـ «تفسير السعدي».
7 ـ «إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة»، لحمود التويجري.
8 ـ «فبهداهم اقتده: قراءة تأصيلية في سِيَر وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام»، لعثمان الخميس.
9 ـ «قصص الأنبياء»، للنجار.
10 ـ «الأحاديث الصحيحة من أخبار وقصص الأنبياء»، لإبراهيم بن محمد العلي.