تطلق كلمة الغربة في اللغة ويراد بها: البعد عن الشيء والتنحي والنأي عنه.
يقال: غرب عن الشيء يغرب غَرْبًا؛ إذا تنحَّى[1].
ومنه قيل للبعيد عن الوطن: غريب.
قال ابن فارس: «والغربة: البعد عن الوطن، يقال: غربت الدار، ومن هذا الباب: غروب الشمس، كأنه: بعدها عن وجه الأرض، وشأوٌ مُغرِب؛ أي: بعيد»[2].
[1] انظر: تهذيب اللغة (8/117) [دار صادر، ط1].
[2] مقاييس اللغة (4/421) [دار الفكر، ط1].
غربة الإسلام هي : بقاء أهل الله وأهل سُنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم المتمسِّكين بالدين؛ على الحق، وبُعدهم عن طرائق أهل الباطل[1].
[1] انظر: مدارج السالكين (3/186) [دار الكتاب العربي، ط3، 1416هـ]، والغرباء للآجري (24) [دار الخلفاء، ط1، 1403هـ]، وكشف الكربة في وصف أهل الغربة لابن رجب (34) [دار ابن رجب، ط1، 1422هـ]، والاعتصام للشاطبي (1/23) [دار ابن عفان، ط1].
غربة الإسلام إنما هي من غربة أهله القائمين به، فهم الغرباء، وسمّوا بذلك لعدة أمور؛ منها:
ـ قلَّتهم في الناس جدًّا، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء[1].
ـ قلة المستجيبين لهم والقابلين منهم، وكثرة المخالفين لهم والعاصين لهم[2].
ـ أنهم أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم.
ـ أنهم الذين يصلحون إذا فسد الناس.
ـ أنهم النزّاع من القبائل.
ـ أنهم القابضون على الجمر لشدة تمسكهم بدينهم.
فهذه الأمور تبيِّن سبب تسميتهم بالغرباء، كما توضح غربة ما هم عليه في الدين.
[1] مدارج السالكين (3/186).
[2] كشف الكربة في وصف أهل الغربة، لابن رجب (45).
أنّ الناس كانوا قبل البعثة على ضلالة عامة، فلمَّا بُعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعا إلى الإسلام لم يُستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد على خوف وحذر.
وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين يشرَّدون كل مشرد، ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية، كما هاجروا إلى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إلى المدينة. وكان منهم من يُعذَّب في الله ومنهم من يُقتل، فكان الداخلون في الإسلام حينئذٍ غرباء، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعزَّ، وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجًا، وكانوا على ذلك زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم أعمل الشيطان مكائده على المسلمين وألقى بأسهم بينهم، وأفشى فيهم فتنة الشبهات والشهوات، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئًا فشيئًا حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق، فأصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا إخوانًا متحابين متواصلين، وأصبحوا أعداء وفرقًا وأحزابًا، ولم ينج من هذه الفرق كلها إلا الفرقة الواحدة الناجية.
وهم في آخر الزمان الغرباء الذين يَصلُحون إذا فسد الناس، وهم الذين يُصلِحون ما أفسد الناس من السُّنَّة، وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن[1].
[1] انظر: كشف الكربة في وصف أهل الغربة (35)، وشرح النووي على مسلم (2/177) [دار إحياء التراث العربي، ط2، 1392هـ].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء»[1].
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم ونحن عنده: «طوبى للغرباء» ، فقيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: «أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم»[2].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنكبي، فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»[3].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 145).
[2] أخرجه أحمد (11/230) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والطبراني في الأوسط (9/14) [دار الحرمين]، وقال الهيثمي في المجمع (7/278) [مكتبة القدسي]: (فيه ابن لهيعة، وفيه ضعف)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1619).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6416).
1 ـ قال الأوزاعي: «...أمَا إنّه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السُّنَّة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد»[1].
2 ـ قال سفيان الثوري: «استوصوا بأهل السُّنَّة فإنهم غرباء»[2].
3 ـ قال ابن القيم: «الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، هو اليوم أشد غربة منه في أول ظهوره، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة، فالإسلام الحقيقي غريب جدًّا، وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس»[3].
[1] كشف الكربة في وصف أهل الغربة (39).
[2] رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة (1/71) [دار طيبة، ط8، 1423هـ].
[3] مدارج السالكين (3/186).
من المسائل المتعلقة بغربة الإسلام:
المسألة الأولى: ذهاب الإيمان آخر الزمان:
وهذا من علامات قرب قيام الساعة كما قال صلّى الله عليه وسلّم : «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله» [1]، وهذا لأنّ الساعة إنما تقوم على شرار الخلق، وهذا حين يرسل الله الريح التي تقبض أرواح أهل الخير كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته،... فيبقى شرار الناس»[2]. وهذا يدل على غربة الإسلام وأهله في آخر الزمان ؛ لأنهم في ذلك الوقت قليل، كما يفهم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وسيعود غريبًا».
قال القاضي عياض: «وظاهر الحديث العموم، وأن الإسلام بدأ في آحاد من النّاس وقلة، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضًا كما بدأ»[3].
ولا تعارض بين هذا وبين قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوِّهم، لا يضرُّهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك» [4]؛ لأن المقصود قرب قيام الساعة، وليس إلى قيامها بالفعل؛ لأنها كما مرَّ لا تقوم إلا على شرار الخلق[5].
المسألة الثانية: عظم ثواب الغرباء:
وعد الله تعالى عباده المؤمنين المتمسِّكين بدينه ثوابًا عظيمًا وأجرًا كريمًا، ويزيد هذا الثواب ويعظم كلّما زادت مشقة هذا التمسك، واشتد الصبر على هذا الأمر. وقد بيّن النبي صلّى الله عليه وسلّم عظم هذا الأجر في كثير من الأحاديث، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله . قال: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم»[6].
قال ابن القيم معلقًا على هذا الحديث: «وهذا الأجر العظيم إنما هو لغربته بين الناس، والتمسك بالسُّنَّة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم»[7].
ولغربتهم كذلك وُعدوا بطوبى، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «طوبى للغرباء» [8]؛ أي: الجنة لأولئك المسلمين الذين قلّوا في أول الإسلام، وسيقلُّون في آخره، وإنما خصَّهم بصبرهم على أذية الكفار وأهل الابتداع[9].
فهذه بعض النصوص التي تدل على فضل الغربة وثواب الغرباء.
المسألة الثالثة: كيفية دفع الغربة:
إنّ الغربة التي يعيشها المسلم الصادق لا تجعله راضيًا بالواقع الذي هو فيه، غير مهتم بمن حوله، ولا بعيدًا عن الناس، منطويًا عنهم مطلقًا، بل عليه الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في مثل هذه الأحوال، فقد عاش صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في بداية الإسلام غربة شديدة، كما أخبر صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك بقوله: «بدأ الإسلام غريبًا»[10] . ومع ذلك فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يدعو الناس إلى التوحيد، ويبذل الغالي والنفيس ليصل الخير إلى جميع الناس، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يطوف على الناس ويقول: «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»[11].
فكان صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى توحيد الله وعبادته ولا يثنيه عن ذلك الغربة التي كان يعيشها، بل كان في ذلك صابرًا رغم الأذى والابتلاء من القريب قبل البعيد، فهذا الأصل الذي هو الدعوة إلى التوحيد والصبر على الأذى فيه هو الذي يجب على الغريب التمسك به والدعوة إليه، وهو من أعظم ما تدفع به الغربة.
المسألة الرابعة: مظاهر غربة الإسلام:
من مظاهر غربة الإسلام أمور؛ منها:
ـ ظهور الشرك الأكبر، والكفر الأكبر، والنفاق الأكبر.
ـ كثرة الأئمة المُضلِّين.
ـ اتخاذ الناس رؤوسًا جُهَّالاً.
ـ انتشار الزندقة والإلحاد.
ـ كثرة مظاهر الشرك الأصغر في هذه الأزمنة.
ـ البدع المُضلَّة في أكثر الأقطار الإسلامية، وغلبة ذلك على الأكثرين.
ـ فشو المنكرات، والتهاون بالفرائض كالصلاة والصيام والزكاة، والتثاقل عن أداء الحج.
ـ ترك الجهاد في سبيل الله
ـ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
[1] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 148).
[2] أخرجه مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 2940).
[3] إكمال المعلم (1/456) [دار الوفاء، ط1].
[4] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 1924).
[5] انظر: القول المفيد لابن عثيمين (1/405) [دار ابن الجوزي، ط2، 1424هـ].
[6] أخرجه أبو داود (كتاب الملاحم، رقم 4341)، والترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3058) وحسنه، وابن ماجه (كتاب الفتن، رقم 4014)، وابن حبان (كتاب البر والإحسان، رقم 385)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 3172).
[7] مدارج السالكين (3/189).
[8] سبق تخريجه.
[9] انظر: التحبير لإيضاح معاني التيسير للأمير الصنعاني [مكتبة الرشد، ط 1، 1433هـ].
[10] سبق تخريجه.
[11] أخرجه ابن خزيمة (كتاب الوضوء، رقم 159)، وابن حبان (كتاب التاريخ، رقم 6562)، والحاكم (كتاب تواريخ المتقدمين، رقم 4219) وصححه.
1 ـ «الغرباء»، للآجري.
2 ـ «شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة»، للالكائي.
3 ـ «شرح صحيح مسلم»، للنووي.
4 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيم.
5 ـ «كشف الكربة في وصف أهل الغربة»، لابن رجب.
6 ـ «الاعتصام»، للشاطبي.
7 ـ «إكمال المعلم بفوائد مسلم»، للقاضي عياض.
8 ـ «غربة الإسلام»، لحمود التويجري.
9 ـ «القول المفيد»، لابن عثيمين.