حرف الغين / الغفّار

           

الغفّار من مادّة (غ ـ ف ـ ر)، والغين والفاء والراء أصل يدل على الستر غالبًا، وأَصل الغَفْرِ: التغطية والستر، مع الوقاية من وقوع الشر، ومنه المغفر الذي يوضع على الرأس ففيه ستر للرأس مع وقايته من الشر[1].


[1] انظر: تهذيب اللغة (8/112) [الدار المصرية]، ومقاييس اللغة (4/385) [دار الفكر، 1399هـ]، ولسان العرب (5/25) [دار صادر، ط1، 1412هـ]، والقاموس المحيط (2/184) [دار الكتب العلمية، ط1، 1415هـ].


الغفّار سبحانه : هو الذي يستر ذنوب عباده بفضله، ويقيهم شرها بعدم محاسبتهم ومعاقبتهم عليها[1].


[1] انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/276) [دار الكتب العلمية، ط1، 1408هـ].


المعنى الشرعي يوافق المعنى اللغوي، إلا أن المعنى اللغوي عام شامل لكل ما يستر ويغطي، والمعنى الشرعي مخصِّص للمعنى اللغوي، فهو خاص بستر ذنوب العباد، مع التجاوز عنهم.



الغفور.



وجوب الإيمان بهذا الاسم الجليل من أسماء الله الحسنى، مع ما يدل عليه من معنى، وعدم تأويله، أو تعطيله.



اسم الله الغفّار متضمن لصفة المغفرة، ومعناها وقاية شرّ الذّنب بحيث لا يعاقب عليه، فمن غفر ذنبه لم يعاقب. وأمّا مجرّد ستره فقد يعاقب عليه في الباطن[1].


[1] انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/276).


معرفة هذا الاسم الجليل والإيمان به له أهمية بالغة وعظيمة في حياة العبد ومسيره إلى الله، وله تأثير في سلوكه وعبوديته، فهو يجعل العبد يتوب إلى الله وينيب إليه مهما كثرت ذنوبه وتكررت، فلا ييأس من رحمة الله، فإنه لن يعدم خيرًا من ربٍّ غفار كثير المغفرة، وأهل لها، فلا يجعل للشيطان عليه سبيلاً.
وعلمه بهذا الاسم وباسم الغفور والعفو والتوَّاب «باب عظيم لنيل عالي المقامات، ولا سيِّما مع مجاهدة النفس على تحقيق مقتضياتها من لزوم الاستغفار، وطلب العفو، ودوام التوبة، ورجاء المغفرة، والبعد عن القنوط وتعاظم غفران الذنوب، فهو سبحانه عفوٌّ غفور، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره مهما بلغ الذنب وعظم الجرم»[1].


[1] فقه الأسماء الحسنى للبدر (145) [مطابع الحميضي، ط1، 1429هـ].


ورد اسم الله (الغفار) في القرآن الكريم في مواطن عدة؛ منها في قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ *} [ص] ، وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى *} [طه] .
ومن السُّنَّة حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا تضوَّر ـ أي تقلَّب ـ من الليل قال: «لا إله إلا الله الواحد القهَّار ربّ السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار»[1].


[1] أخرجه النسائي في السنن الكبرى (كتاب النعوت، رقم 7641)، وابن حبان (كتاب الزينة والتطيب، رقم 5530)، والحاكم (كتاب الدعاء والتكبير والتهليل والتسبيح والذكر، رقم 1980) وصححه، وقال المناوي في فيض القدير (5/144): «قال الحافظ العراقي في أماليه: صحيح»، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/98).


قال الطبري رحمه الله: «وقوله: (العزيز الغفَّار) يقول: العزيز في نقمته من أهل الكفر به، المدّعين معه إلهًا غيره، الغفَّار لذنوب من تاب منهم ومن غيرهم من كفره ومعاصيه، فأناب إلى الإيمان به، والطاعة له بالانتهاء إلى أمره ونهيه»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «وتفسير اسم الله الغفّار بأنّه السَّتَّار هذا تقصيرٌ في معنى الغفر؛ فإنّ المغفرة معناها وقاية شرّ الذّنب بحيث لا يعاقب على الذّنب فمن غفر ذنبه لم يعاقب عليه. وأمّا مجرّد ستره فقد يعاقب عليه في الباطن، ومن عوقب على الذّنب باطنًا أو ظاهرًا فلم يغفر له، وإنّما يكون غفران الذّنب إذا لم يعاقب عليه العقوبة المستحقّة بالذّنب[2].
وقال السعدي رحمه الله: «(الغفَّار) لجميع الذنوب، صغيرها، وكبيرها، لمن تاب إليه وأقلع منها، فهذا الذي يحب ويستحق أن يعبد، دون من لا يخلق ولا يرزق، ولا يضر ولا ينفع، ولا يملك من الأمر شيئًا، وليس له قوة الاقتدار، ولا بيده مغفرة الذنوب والأوزار»[3].


[1] تفسير الطبري (21/235) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[2] الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/276).
[3] تفسير السعدي (716) [مؤسسة الرسالة، ط1].


المسألة الأولى: من أسماء الله الثابتة (الغفور): قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *} [يوسف] ، وقال سبحانه: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ *} [سبأ] .
المسألة الثانية: لا يجوز تسمِّي العباد بهذا الاسم فهو مختص بالله تعالى.
المسألة الثالثة: أن الله سبحانه مع أنه غفار لكنه لا يغفر الشرك إلاَّ بالتوبة:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] في موضعين من القرآن، وما دون الشرك فهو مع التوبة مغفور، وبدون التوبة معلَّق بالمشيئة، كما قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] ، فهذا في حق التائبين، ولهذا عمّم وأطلق وحتّم أنه يغفر الذنوب جميعًا، وقال في تلك الآية: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، فخصَّ ما دونَ الشِّركِ وعلَّقهُ بالمشيئة، فإذا كانَ الشِّركُ لا يُغفَرُ إلاَّ بِتوبَةِ؛ وأَمّا ما دونهُ فيغفِرُهُ الله للتّائبِ؛ وقد يَغفِره بدونِ التّوبةِ لِمن يَشاءُ[1]، وهذا بخلاف المعتزلة والخوارج القائلين بالعذاب الدائم، والبقاء المخلد في النار لمن مات ولم يتوب من أصحاب الكبائر الموحدين، والدليل لمذهب أهل الحق الآيات والأحاديث الكثيرة الدالة على أن صاحب الكبيرة إنما يغفر الله له أو يعذبه مدة ثم يخرجه من النار فلا يخلده فيها.
المسألة الرابعة: أن هذا الاسم يتضمن صفة المغفرة لله تعالى:
وهي صفة فعلية لله تعالى، دل عليها الكتاب والسُّنَّة، قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32] .
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر»[2].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولمَّا كان قد ثبت بالقرآن أنه غفَّار للتائبين رحيم بالمؤمنين عُلم أنه موصوف بالمغفرة والرحمة»[3].


[1] انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/275).
[2] أخرجه مسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة، رقم 2687).
[3] منهاج السُّنَّة (3/101) [جامعة الإمام، ط1].


الفرق بين الغفور والغفَّار:
الغفور: مبالغة من غافر، ومعناه الكثير الستر على عباده[1]، والغفَّار: هو الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد مرة كلما تكررت التوبة من الذنب تكررت المغفرة[2].


[1] انظر: شرح النونية لهراس (2/481).
[2] انظر: شأن الدعاء للخطابي (5).


1 ـ توحيد الله في اسمه الغفار يقتضي كثرة الاستغفار والتوبة إلى الله مهما بلغت كمية الذنوب وكثرتها وعظمتها، فالغفار سبحانه كثير المغفرة، روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فيما يحكي عن ربه عزّ وجل قال: أذنب عبد ذنبًا فقال: اللَّهُمَّ اغفر لي ذنبي، فقال: تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك»[1].
2 ـ لاسم الله (الغفار) أثره العظيم في محبته وعدم اليأس من رحمته سبحانه وتعالى؛ فالله لا يعذب مستغفرًا، والله واسع المغفرة ويغفر لكل من أتاه تائبًا مهما كان ذنبه حتى الشرك كما قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى *} [طه] .
3 ـ حظ العبد من هذا الاسم أن يستر عن غيره ما يحب أن يُستر منه، فمن ستر مسلمًا ستر الله عليه، فالجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [التغابن] .
4 ـ أن يعلم العبد أن اتصاف الله بكونه غفَّارًا للذنوب هو محض فضله وكرمه ورحمته بهم، فهو غني عنهم، لا تنفعه طاعاتهم، ولا تضره معاصيهم وشركهم، كما أنه لا يغفر لهم خوفًا منهم بل هو عزيزٌ قويٌّ قهَّار، لذلك قرن اسمه الغفار بالعزيز، فمع عزته وقهره إلا أنه غفور رحيم[2].


[1] أخرجه مسلم (كتاب التوبة، رقم 2758).
[2] انظر النهج الأسمى (1/179).


خالف المعتزلةُ والأشاعرة والماتريدية أهلَ السُّنَّة والجماعة في هذا الاسم الجليل، من حيث تفسيرهم له بمعنى غير صحيح ودلالته على الصفة؛ فرارًا منهم من إثبات صفة المغفرة لله على وجهها الحقيقي، خوفًا من التشبيه، ففسر هؤلاء (الغفار) بأنه المريد لإزالة العقوبة عن مستحقها فهو راجع إلى صفة الإرادة، أو الغالب الذي يقدر على أن يعالجهم بالعقوبة، وهو يحلم عنهم ويؤخرهم إلى أجل مسمَّى، فسمَّى الحلم عنهم مغفرة[1].


[1] انظر: الأسماء والصفات للبيهقي (1/349)، والمواقف للإيجي (3/307، 317) [دار الجيل، ط1، 1997م]، والكشاف للزمخشري (4/115)، والماتريدية للحربي (224) [دار الصميعي، ط2، 1421هـ].


هذا التفسير مجانب للصواب ولما عليه السلف، وتفسيرهم المغفرة بالإرادة يلزم منه ما فرّوا منه من التشبيه، وإلا فإن أثبتوا إرادة للخالق لا تشبه إرادة المخلوق، فلْيثبتوا مغفرة للخالق لا تشبه مغفرة المخلوق، فالباب واحد، والقول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر. ثمّ إن الاسم من أسماء الله تعالى له دلالات؛ فيدل على ذات الله وعلى الصفة بالمطابقة، ويدل على الصفة وحدها بالتضمن، وعلى صفة أخرى باللزوم، فالغفَّار: يدل على ذات الله سبحانه وتعالى وعلى صفة المغفرة، بالمطابقة، وعلى صفة الرحمة والقدرة والعلم باللزوم.



1 ـ «أسماء الله الحسنى وصفاته العليا من كتب ابن القيم»، لعماد زكي البارودي.
2 ـ «الأسماء والصفات» (ج1)، للبيهقي.
3 ـ «اشتقاق أسماء الله»، للزجاجي.
4 ـ «تفسير أسماء الله الحسنى»، للزجاج.
5 ـ «الحجة في بيان المحجة» (ج1)، للتيمي.
6 ـ «الحق الواضح المبين»، للسعدي.
7 ـ «شأن الدعاء»، للخطابي.
8 ـ «فقه الأسماء الحسنى»، لعبد الرزاق البدر.
9 ـ «معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى»، لمحمد بن خليفة التميمي.
10 ـ «النهج الأسمى في شرح الأسماء الحسنى» (ج1)، للنجدي.