حرف الغين / الغلو

           

الغلو لغة : هو مجاوزة الحدِّ وتعدّيه، يقال: غلا غلاً فهو غالٍ، وغلت القِدر تغلي غليانًا.
قال ابن فارس: «الغين واللام والحرف المعتل أصل صحيح يدل على ارتفاع ومجاوزة قدر»[1].
ويطلق على السِّعر إذا ارتفع: غلاء، وإذا كان في القَدْر والمنزلة: غُلُوٌّ، وفي السَّهم: غَلْوٌ، وأفعالهما جميعًا: غلاَ يَغْلُو.
قال ابن الأثير: «أصل الغَلاء: الارتفاع ومجاوزة القَدر في كل شيء، يقال: غالَيت الشَّيء وبالشَّيء، وغلوت فيه أغلُو إذا جاوزتَ فيه الحدّ»[2].
ويقال: غلا في الدين غلوًّا: تشدَّد وتصلَّب حتى جاوز الحد.


[1] مقاييس اللغة (3/447) [دار الجيل، ط1].
[2] النهاية في غريب الحديث والأثر (3/382).


الغلو : هو مجاوزة الحدّ المعتبر شرعًا في أمر من أمور الدين.
وقد تعددت أقوال العلماء في تعريف الغلو في الشرع على أقوال متقاربة، فمن ذلك:
1 ـ قال ابن تيمية: «الغلو: مجاوزة الحد بأن يزاد في الشيء، في حمده، أو ذمّه، على ما يستحق ونحو ذلك»[1].
2 ـ وقال ابن حجر في تعريفه: «هو المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد».
3 ـ وقال سليمان بن عبد الله: «الغلو: هو مجاوزة الحد في مدح الشيء أو ذمه، وضابطه تعدي ما أمر الله به، وهو الطغيان الذي نهى الله عنه»[2].


[1] اقتضاء الصراط المستقيم (1/289) [مكتبة الرشد، ط1، 1404هـ].
[2] تيسير العزيز الحميد (305) [المكتب الإسلامي، ط6، 1405هـ].


لما كان الغلو يطلق في اللغة على مجاوزة الحد وتعديه في كل شيء، جاء الإطلاق الشرعي للغلو بتخصيص ذلك المعنى اللغوي بما يتعلق بأمور الدين.



سُمي الغلو بهذا الاسم لكونه يدل على الزيادة والارتفاع، فالغالي قد زاد في الدين، وارتفع على ما جاء به إلى غيره.



يطلق على الغلو اسم: التنطع[1].


[1] انظر: الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة (62).


لما كان دين الإسلام منزلاً من عند الله سبحانه وتعالى، وهو سبحانه أعلم بما يناسب خلقه، حيث جعل سبحانه دين الإسلام دين يسر واعتدال وتوسط، فعلم أن الغلو فيه سواء كان ذلك بزيادة وإفراط أو بتهاون وتفريط، ضلال مخالف لمنهج الإسلام، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] .
والغلوّ في الدين وإن كان محرَّمًا إلا أنه ليس على درجة واحدة، فالغلو الاعتقادي ليس كالغلو العملي، فكثير من مسائل الغلو الاعتقادي قد تدخل في الكفر الأكبر، كغلو الجهمية بإنكار الأسماء والصفات، والغلو في الأئمة والأولياء بصرف شيء من خصائص الربوبية أو الإلهية لهم، ومن مسائل الغلو الاعتقادي ما لا يصل إلى درجة الكفر الأكبر، وإنما يدخل في الكفر الأصغر أو الابتداع المحرم، وأما مسائل الغلو العملي فالغالب أنها تدخل في التحريم، وقد يكون منها ما يتعدى ذلك إلى الكفر بحسب ما يتعلق بها من اعتقاد ونحو ذلك.



الحقيقة الشرعية للغلو هي مجاوزة الاعتدال والوسطية الشرعية في الاعتقاد والقول والفعل، والغالب الأعم تناول الغلو لذوات المعظمين، وللمقالات العقدية.
ولا تلازم بين الغلو والتطرف، فإن الغلو في الواقع أخص من التطرف.
وهنا تنبيه؛ وهو أنه ربما يربط الغلو بالتمسك بالشريعة، وهي نظرة قاصرة يتبناها المقصِّر والمتهاون في شعائر دينه تجاه من هو أمثل منه تمسكًا واحترامًا لأحكام دينه.
وبالنظر إلى تاريخ الغلو فهو قديم مرتبط بأسبابه الكثيرة، والتي يجمعها الإعراض عن دين الله وما جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فإنه بقدر ما ابتعد المرء عن منهاج رسل الله بقدر ما وقع في الإفراط والتفريط، تناسبًا طرديًّا، وما غلو الفرق الإسلامية في أبواب العقيدة أو الشريعة أو السلوك إلا نموذج واقعي لهذه النتيجة ومحققة لها، مما يحتم على المسلمين جماعات وأفرادًا التمسك بهديه صلّى الله عليه وسلّم والاعتصام بما جاء به، والتحاكم إليه والدعوة إليه، فبذلك وحده تحصل لهم الهداية والعصمة، ويكونون شهداء على الناس[1].


[1] انظر: مجلة البحوث الإسلامية الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (74/266 ـ 267).


تعددت النصوص الواردة في التحذير من الغلو، والنهي عنه، وذم الغلاة في دين الله تعالى، فمن ذلك قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء: 171] ، وقوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ *} [المائدة] .
والخطاب في الآيتين قُصد به النصارى خاصة، وإن كان الغلو موجودًا في اليهود وغيرهم، ولما كان النصارى أكثر غلوًّا من غيرهم جاء الخطاب موجهًا لهم، والمراد من ذكر ذلك موعظة هذه الأمة لتجتنب الأسباب التي أوجبت غضب الله على الأمم السابقة.
ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»[1].
والنهي في هذا الحديث وإن كان سببه خاصًّا ـ وهو الغلو في رمي الجمار ـ، فهو نهي عن كل غلو.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «هلك المتنطعون ـ قالها ثلاثًا ـ»[2].
وهذا صريح في ذم الغلو، حيث أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بهلاكهم، لمجاوزتهم للحدّ الذي حدَّه الله وأمر به.


[1] أخرجه النسائي (كتاب مناسك الحج، رقم 3057)، وابن ماجه (كتاب المناسك، رقم 3029)، وأحمد (3/350) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن خزيمة (كتاب المناسك، رقم 2867)، وصححه شيخ الإسلام في الاقتضاء (1/328) [دار عالم الكتب، ط7]، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1283).
[2] أخرجه مسلم (كتاب العلم، رقم 2670).


قال الخطابي رحمه الله: «المتنطع المتعمق في الشيء، المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم»[1].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «وقوله: «إياكم والغلو في الدين» عام في جميع أنواع الغلو، في الاعتقادات والأعمال والنصارى أكثر غلوًّا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن»[2].
وقال ابن القيم رحمه الله: «فنهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن التشديد في الدين، وذلك بالزيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه، إما بالقدر، وإما بالشرع. فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به، وبالقدر كفعل أهل الوسواس. فإنهم شدّدوا على أنفسهم فشدد عليهم القدر، حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم»[3].
ـ وقال ابن حجر رحمه الله: «لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب»[4].


[1] معالم السنن (4/300) [المطبعة العلمية، ط1].
[2] اقتضاء الصراط المستقيم (1/289).
[3] إغاثة اللهفان (1/132) [دار المعرفة، ط2].
[4] فتح الباري (1/94) [دار المعرفة، ط1379هـ].


ينقسم الغلو بحسب ما يتعلق به من أفعال العباد إلى نوعين:
النوع الأول: الغلو الاعتقادي، وهو مجاوزة الحد فيما يتعلق بأبواب الاعتقاد، كغلو الخوارج في صاحب الكبيرة، والغلو في الأئمة وادّعاء العصمة لهم، ونحو ذلك.
النوع الثاني: الغلو العملي، وهو مجاوزة الحد فيما يتعلق بأبواب العبادات والعمليات، سواء كان ذلك باللسان أم الجوارح، كمن يصوم الدهر، أو يترك الزواج، ونحو ذلك من الأعمال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقوله: «إياكم والغلو في الدين» عام في جميع أنواع الغلو، في الاعتقادات والأعمال والنصارى أكثر غلوًّا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن»[1].


[1] اقتضاء الصراط المستقيم (1/289).


المسألة الأولى: أسباب الغلو:
1 ـ الجهل بدين الله تعالى، وترك سؤال العلماء الربانيين.
2 ـ مقابلة الجفاء والتفريط الواقع من بعض الفرق والجماعات الأخرى.
3 ـ سوء فهم النصوص، واتباع المتشابه وترك المحكم.
4 ـ الإعراض عن منهج سلف الأمة، والطعن فيهم، وفي فهمهم للنصوص.
5 ـ الأخذ بالمناهج البدعية المنحرفة، من علم الكلام والفلسفة.
6 ـ الغرور بالمتبوعين والقادة وبما لديهم من شذوذ ومخالفة[1].
المسألة الثانية: صور الغلو قديمًا وحديثًا:
للغلو في حياة الأمم صور متعددة، سواء في ذلك ما كان قبل الإسلام، أو بعد الإسلام مما وُجِد عند بعض الفرق المنحرفة، فمن أمثلة ذلك ما يلي:
أ ـ غلو أهل الكتاب من اليهود والنصارى، حيث زعم اليهود أن عزيرًا ابن الله، وزعم النصارى أن عيسى عليه السلام ابن الله، وعبادتهم له من دون الله، وقد وصف الله النصارى بالغلو وحذر من التشبه بهم في ذلك[2].
ب ـ الغلو عند الفرق المنحرفة في تاريخ المسلمين:
تعددت أنواع الغلو عند الفرق المنتسبة إلى الإسلام، ومن أمثلة ذلك:
1 ـ غلو فرقة الخوارج في تكفير صاحب الكبيرة، والقول بخروجه من الإسلام[3].
2 ـ غلو فرقة الرافضة في أئمتهم، حيث بلغ بهم الغلو فيهم إلى وصفهم بصفات الربوبية، من علم الغيب، والتصرف في الكون، والتحليل والتحريم، وغير ذلك من أنواع الغلو، بل بلغ بهم الأمر إلى قولهم بحلول الجزء الإلهي فيهم، وعبادتهم من دون الله تعالى[4].
والأمثلة على صور غلو الفرق الإسلامية كثيرة ومتنوعة، وقد ذكر ذلك أصحاب كتب المقالات، كالأشعري وابن حزم وغيرهما.
ج ـ الغلو لدى بعض الجماعات المعاصرة:
امتد الغلو إلى بعض الجماعات المعاصرة، حيث ظهر عندهم الغلو في بعض المعتقدات، ومن أشهر تلك الجماعات الغالية، جماعة تُعرف بجماعة المسلمين، واشتهرت بجماعة التكفير والهجرة، ومن أبرز معتقداتهم الغالية:
ـ القول بتكفير صاحب الكبيرة إذا أصرَّ على فعلها، ولم يتب.
ـ القول بتكفير من لم يكفر الكفار ـ بزعمهم ـ من العلماء وغيرهم.
ـ ترك صلاة الجمعة والجماعة في المساجد؛ لكفر أئمتها عندهم.
إلى غير ذلك من عقائدهم المنحرفة وأقوالهم الغالية[5].


[1] انظر: مجلة البحوث الإسلامية الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (74/253 ـ 266)، ومشكلة الغلو في الدين في العصر الحاضر لعبد الرحمن اللويحق (7 ـ 430) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1420هـ].
[2] انظر: تفسير الطبري (9/417) [مكتبة ابن تيمية، ط2].
[3] انظر: الملل والنحل للشهرستاني (115) [مكتبة الرياض الحديثة].
[4] أصول مذهب الشيعة الإمامية للقفاري (2/520) [ط1، 1414هـ].
[5] انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب (1/332 ـ 339)، والغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة (193 ـ 330).


الفرق بين الغلو والتطرف:
لا تلازم بين الغلو والتطرف، فإن الغلو في الواقع أخص من التطرف في الزيادة والنقصان، والتطرف انحياز إلى طرفي الأمر، فيشمل الغلو وغيره، فبين الغلو والتطرف عموم وخصوص، فكل غلو تطرف، وليس كل تطرف غلوًّا[1].


[1] انظر: مجلة البحوث الإسلامية الصادرة عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (74/266).


1 ـ الانحراف عن المعتقد الصحيح إلى بعض المعتقدات المبتدعة، والتي أدَّت ببعض الفرق إلى الكفر، والخروج من ملة الإسلام.
2 ـ رفع بعض البشر فوق منزلتهم، وصرف شيء من العبادة لهم، كما وقع من الرافضة مع أئمتهم، وكما يقع من بعض الصوفية مع جناب النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث نسبوا إليه في مدائحهم الخلق والرزق، وغير ذلك من صفات الرب تعالى.
3 ـ تعطيل الرب سبحانه وتعالى عن أسمائه وصفاته التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه به رسوله صلّى الله عليه وسلّم في سُنَّته.
4 ـ استحلال دماء المسلمين وأموالهم، بشبهات منحرفة أوقعت أتباعها في الغلو، كما فعل الخوارج وغيرهم.
5 ـ الإفساد في الأرض وترويع الآمنين في بلاد المسلمين، كما حدث من القرامطة في بعض الأزمان المتقدمة، وكما يحدث اليوم من بعض الفرق الغالية في بعض بلدان المسلمين.
إلى غير ذلك من الآثار الكثيرة، والتي يصعب حصرها في مثل هذا المقام.



1 ـ «أحكام القرآن الكريم»، للقرطبي.
2 ـ «اقتضاء الصراط المستقيم»، لابن تيمية.
3 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
4 ـ «الدين الخالص»، لمحمد صديق حسن.
5 ـ «سنن النسائي بشرح السيوطي».
6 ـ «شرح صحيح مسلم»، للنووي.
7 ـ «الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة»، لعبد الرحمن اللويحق.
8 ـ «الغلو في الدين»، لعلي الشبل.
9 ـ «القول المفيد على كتاب التوحيد»، لابن عثيمين.
10 ـ «المجموع شرح المهذب»، للنووي.