حرف الغين / الغير

           

قال ابن فارس: «الغين والياء والراء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على صلاح وإصلاح ومنفعة، والآخر على اختلاف شيئين. فالأول: الغيرة، وهي الميرة: بها صلاح العيال. يقال: غرت أهلي غيرة وغيارًا؛ أي: مِرتُهم، والأصل الآخر: قولنا: هذا الشيء غير ذاك؛ أي هو سواه وخلافه. ومن الباب: الاستثناء بغير، تقول: عشرة غير واحد، ليس هو من العشرة، ومنه قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *} [الفاتحة] »[1].
وقال الفيروزآبادي: «الغيرة بالكسر: الميرة. وغير بمعنى: سوى، وتكون بمعنى لا، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ} [النحل: 115] ؛ أي: جائعًا لا باغيًا، وبمعنى (إلا). وتغيَّر عن حاله: تحوَّل. وغيَّره: جعله غير ما كان، وحوله، وبدله. والاسم: الغير»[2].


[1] مقاييس اللغة (4/403 ـ 404) [دار الجيل، ط2].
[2] القاموس المحيط (453) [مؤسسة الرسالة، ط8].


إن الغير في اصطلاح المعتزلة والكرَّامية: «هما الشيئان، أو هما ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر»[1].
وأما عند الأشعرية فـ«حد الغيرين ما يجوز مفارقة أحدهما الآخر؛ إما بزمان أو بمكان»[2].


[1] بغية المرتاد (426) [ط3، 14015هـ]. وانظر: جامع العلوم لأحمد نكري (3/8) [دار الكتب العلمية، ط1].
[2] الإنصاف فيما يجب اعتقاده للباقلاني (37) [عالم الكتب، لبنان، ط1، 1407هـ].


لفظ الغير من الألفاظ المجملة التي لا تطلق على الله إثباتًا أو نفيًا، وإنما يسأل عن المراد بها، فإن قُصِد بها حقٌّ قُبل المعنى وعُبِّر عنه باللفظ الشرعي، ويتوقف في اللفظ، وإن أريد به باطلٌ يتوقف في اللفظ ويرد المعنى.



حقيقة لفظ الغير اللغوية هي كما تقدمت في التعريف اللغوي تحوّل الشيء وصيرورته خلاف ما كان عليه. وأما عند المعتزلة والكرامية فالغيران: «هما الشيئان، أو هما ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر»[1]. وأما عند أكثر الصفاتية من الأشعرية فـ«حقيقة الغيرين ما يجوز مفارقة أحدهما الآخر بالزمان، والمكان، والوجود والعدم»[2].


[1] بغية المرتاد (426).
[2] الإنصاف للباقلاني (25). وانظر: بغية المرتاد (426).


أكد العلماء على أن لفظ الغير من الألفاظ المجملة التي تحتمل حقًّا وباطلاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإن للناس في لفظ الغير اصطلاحين مشهورين:
أحدهما: اصطلاح المعتزلة والكرَّامية ونحوهم ممن يقول: الصفة غير الموصوف، وهؤلاء فيهم من ينفي الصفات كالمعتزلة، ومنهم من يثبتها كالكرامية، وهم يقولون: إن الغيرين هما الشيئان، أو هما ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر.
والثاني: اصطلاح أكثر الصفاتية من الأشعرية وغيرهم أن الغيرين ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بوجود زمان أو مكان، ومن هؤلاء من يقول ما جاز مفارقة أحدهما الآخر، ولهذا يقولون: إن الصفات لا هي الموصوف ولا هي غيره، وكذلك جزء الجملة كالواحد من العشرة واليد من الإنسان قد يقولون فيها ذلك والأولون يقولون الصفة غير الموصوف.
وأما حذاق الصفاتية من الكُلاَّبية وغيرهم، فهم على منهاج الأئمة، كما ذكر الإمام أحمد في الرد على الجهمية، لما سألوه عن القرآن: أهو الله أم غير الله؟ لا يقولون الصفة لا هي الموصوف ولا هي غيره، بل لا يقولون الصفة هي الموصوف، ولا يقولون: هي غيره، فيمتنعون عن الإطلاقين ولا ينفون الإطلاقين وهذا سديد، فإن لفظ الغير لما كان فيه إجمال لم يطلق نفيه حتى يتبين المراد، فإن أريد بأنه غير مباين له، فليس هو غيره، وإن أريد أنه ليس هو إيَّاه، أو أنه يمكن العلم به دونه، فنعم هو غيره، وإذا فصِّل المقال زال الإشكال، فإذا قيل: إن الصفة أو الجزء غيره بأحد الاصطلاحين كان باطلاً، وإذا قيل: إنها غيره بالاصطلاح الآخر، لم يمتنع أن يكون لازمًا»[1].
وقال ابن القيم: «وكذلك لفظ الغير فيه إجمال، يراد بالغيرين: ما مفارق أحدهما للآخر ذاتًا أو مكانًا أو زمانًا، فصفات القديم سبحانه ليست غيًرا له بهذا الاعتبار، ويراد بالغيرين: ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر، وهذا المعنى حق في ذاته وصفاته سبحانه، وإن سمَّاها هؤلاء أغيارًا»[2].
قال ابن أبي العز الحنفي: «لفظ الغير، فيه إجمال، فقد يراد به ما ليس هو إياه، وقد يراد به ما جاز مفارقته له. ولهذا كان أئمة السُّنَّة رحمهم الله لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره، ولا أنه ليس غيره؛ لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو، إذا كان لفظ الغير فيه إجمال، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل: فإن أريد به أن هناك ذاتًا مجردة قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها = فهذا غير صحيح، وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة = فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها، وإنما يفرض الذهن ذاتًا وصفة؛ كُلًّا وحده، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة، فإن هذا محال. ولو لم يكن إلا صفة الوجود، فإنها لا تنفك عن الموجود، وإن كان الذهن يفرض ذاتًا ووجودًا، يتصور هذا وحده، وهذا وحده، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج»[3].


[1] بغية المرتاد (426).
[2] الصواعق المرسلة (3/982) [دار العاصمة، ط1].
[3] شرح العقيدة الطحاوية (1/98) [مؤسسة الرسالة، ط10، 1417هـ].


المسألة الأولى: استعمال (التغيّر) في حق الله سبحانه وتعالى:
التغيّر لم يرد في الكتاب والسُّنَّة، ولم ينطق به السلف الصالح، وإنما أحدثه أهل الأهواء، وهو لفظ مجمل يحتمل حقًّا وباطلاً، ولكن من أطلقه أراد به باطلاً وهو نفي قيام الصفات الاختيارية بالله كالمجيء والاستواء على العرش والنزول والرضا والغضب وسائر الصفات المتعلقة بمشيئته.
فقد اعتبر الأشاعرة قيام الصفات الاختيارية بالله تغيرًا في ذاته سبحانه فنفوها، واحتج الفلاسفة بلفظ التغير لنفي علم الله[1].
الرد عليهم:
تعلُّقُ المخالفين بلفظ التغير لنفي الصفات الاختيارية عن الله هو تعلّق فاسد قائم على التمويه والتلبيس؛ لما يلي:
أولاً: أن الله أعلم بنفسه وبما يليق به من الصفات من غيره، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ *} [البقرة] . وأعلمُ الخلق به هم رسله عليهم السلام، فما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسله عليهم السلام من الأسماء والصفات، يجب الإيمان به، وعدم الاعتراض عليه بالأهواء والآراء؛ لا سيَّما أن هذه أمور غيبية لا مجال للعقول فيها.
ثانيًا: أن إطلاق التغير على اتصاف الله بالصفات الاختيارية من الاستواء والنزول والمجيء ونحوها هو مجرد تلبيس؛ لأن هذا لا يصدق عليه معنى التغير لا لغة ولا شرعًا.
أما لغة فإن التغير هو الاستحالة والتبدل، وذلك بأن يكون الشيء طاهرًا نظيفًا كالماء مثلاً، فتدخل فيه النجاسة فتغيره عمَّا كان عليه من النظافة والطهارة فيصير فاسدًا كاسدًا.
وأما شرعًا فقد جاءت النصوص العديدة بإثبات اتصاف الله بالرضا والمغفرة والغضب وسائر الصفات الاختيارية، كما قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] ، وقال تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *} [الفتح] ، وقال تعالى: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93] ، وغير ذلك من صفات الله تعالى.
ونفيُ هذه الصفات بالعقول المجردة، والأهواء المضلة هو في غاية البطلان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والغَيْر والتغيّر من مادة واحدة، فإذا تغير الشيء صار الثاني غير ما كان، فما لم يزل على صفة واحدة لم يتغير ولا تكون صفاته مغايرة له.
والناس إذا قيل لهم: التغير على الله ممتنع، فهموا من ذلك: الاستحالة والفساد، مثل انقلاب صفات الكمال إلى صفات نقص، أو تفرق الذات ونحو ذلك مما يجب تنزيه الله عنه.
وأما كونه سبحانه يتصرف بقدرته، فيخلق ويستوي ويفعل ما يشاء بنفسه، ويتكلم إذا شاء ونحو هذا، فهذا لا يسمونه تغيرًا.
ولكن حجج النفاة مبناها على ألفاظ مجملة موهمة، كما قال الإمام أحمد: يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويلبسون على جهال الناس بما يشبِّهون عليهم، حتى يتوهم الجاهل إنهم يعظمون الله، وهم إنما يقودون قولهم إلى فرية على الله»[2].
المسألة الثانية: هل الصفات غير الذات؟
هذه المسألة لم يتكلم بها السلف، ولم يطلقوها على صفات الله تعالى، وإنما أحدثها المتكلمون، وهي لفظ مجمل يحتمل معنى صحيحًا ومعنى باطلاً، ولذا يُستفسر عن مراد قائله؛ فإن أراد به وجود ذات مجردة عن الصفات فهذا باطل، وهو مقصود من يستعمل هذا اللفظ. وإن أراد به أن معنى الذات يختلف عن معنى الصفة فهذا صحيح، ولكن يعبر عنه باللفظ الشرعي.
وعليه فمن سأل: هل الصفة غير الذات؟ يقال له: إن أُريد بالغير: المباين المنفصل فليست الصفة غير الموصوف. وإن أُريد به ما ليس هو عين الشيء، أو ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر فالصفة غير الموصوف. قال ابن تيمية: «ومذهب السلف والأئمة؛ أنهم لا يطلقون لفظ الغير على الصفات، لا نفيًا ولا إثباتًا، فلا يطلقون القول بأنها غيره، ولا بأنها ليست غيره، إذ اللفظ مجمل، فإن أراد المطلق بالغير المباين فليست غيرًا، وإن أراد بالغير ما قد يعلم أحدهما دون الآخر، فهي غير»[3].
المسألة الثالثة: الغير عند الصوفية:
ينفي غلاة الصوفية الكثرة والغيرية عن الوجود، ويرون أن جميع الوجود حقيقة واحدة، فالذات الإلهية وذوات الخلق كلها حقيقة واحدة عندهم، وأن المغايرة بين الحق والخلق هي مغايرة وهمية[4].
فمما جاء في أورادهم: «يا من ليس كمثله شيء، أفنِ عني كل شيء غيرك، وخفف عني ثقل كثائف الموجودات، وامحُ عني نقطة الغيرية لأشاهدك ولا أدري غيرك، يا هو يا هو يا هو، لا سواك موجود، لا سواك مقصود، يا وجود الوجود»[5].
قال الغزالي: «لا إله إلا الله توحيد العوام! ولا هو إلا هو توحيد الخواص»[6].
قال الشيخ عبد الرحمن الوكيل موضحًا هذا الكلام: «فكلمته (لا هو إلا هو)؛ لأنها تثبت وجودًا واحدًا، وتنفي الغيرية والكثرة والتعدد، تثبت موجودًا واحدًا تنوعت مظاهره، فسميت خلقًا، وتنفي المغايرة بين من نسميهم الخلق وبين من نسميه الخلاق! وتثبت أن وجود الأول عين وجود الثاني، فكما أنه لا وجود إلا وجوده، فكذلك لا ذات إلا ذاته، أما تلك الكثرة الوهمية في الذوات، فيؤمن بها عمي القلوب»[7].
الرد عليهم:
لا شك أن اعتبار الوجود حقيقة واحدة هو إلحاد بيّن، في دين الله تعالى، ومكابرة مكشوفة لكل ذي بصيرة، لا تحتاج إلى حشد الأدلة وجمع أقوال الأئمة لبيان فسادها؛ لأن تقسيم الوجود إلى خالق ومخلوق أمر مستقر في الفطر ولا ينكره إلا شواذ البشر، ولذا أكتفي بالإشارة إلى بطلان هذا المعتقد من خلال الآتي:
أولاً: أن هذه العقيدة مصادمة لدعوة الرسل القائمة على الدعوة إلى تحقيق التوحيد لله تعالى، وإفراده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وجميع خصائصه سبحانه.
ثانيًا: أن القول بوحدة الوجود هو إبطال صريح للخطاب الشرعي الذي لا يكون إلا بين المخاطِب والمخاطَب وبين الآمر والمأمور ونحو ذلك. قال الله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] ، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] ، فهل الآمر والمأمور والناهي والمنهي، المخاطِب والمخاطَب في تلك النصوص واحد؟ هذا لا يقوله عاقل، فالقول بنفي الغيرية عن الوجود هو إلغاء للشرع بأكمله.
ثالثًا: دلالات النصوص الكثيرة الصريحة على تقسيم الوجود إلى خالق ومخلوق كقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ *} [البقرة] ، وما ثبت من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه: عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سيد الاستغفار أن تقول: اللَّهُمَّ أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك»[8].
ففي هذه النصوص: ربٌّ ومربوب، وخالق ومخلوق، ومعبود وعابد، وهذا يبطل القول بنفي الغيرية عن الوجود.
رابعًا: أن أصحاب هذه العقيدة الفاسدة متناقضون مكابرون للحقيقة، ومعاندون في ادِّعاء تلك العقيدة؛ لأنهم يفرقون في واقعهم بين أنفسهم وبين ذويهم من أب وأم، وزوجة وولد وغير ذلك.


[1] انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود (3/1056) [مكتبة الرشد، ط1، 1415هـ].
[2] درء تعارض العقل والنقل (4/75) [جامعة الإمام محمد بن سعود، ط2، 1411هـ].
[3] درء تعارض العقل والنقل (2/187). وانظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة للمحمود (3/1094).
[4] انظر: مصرع التصوف لبرهان الدين البقاعي (247) [دار الكتب العلمية].
[5] الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية (16) بواسطة كتاب الكشف عن حقيقة الصوفية لمحمود القاسم (242) [دار الصحابة، ط1، 1408هـ].
[6] هذه هي الصوفية لعبد الرحمن الوكيل (54، 55) [دار الكتب العلمية، بيروت، ط4، 1984م].
[7] المرجع السابق (55).
[8] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6306).


يتخذ المتكلمون الألفاظ المجملة قناعًا لتمرير عقائدهم التي خالفوا بها الكتاب والسُّنَّة كلفظ الغير؛ لأن بعض السامعين لها يتبادر إلى أذهانهم أن هؤلاء المتكلمين ينزهون الله عما لا يليق به من النقائص والعيوب، كنفي التعدد والتكثر عن ذات الله، والواقع أنهم يقصدون بها نفي الثابت من صفات الله عزّ وجل بأهوائهم المنحرفة، وآرائهم الضالَّة، ويموِّهون على العامة وأشباههم بأن إثباتها لله يلزم الغير، وهو يحتمل حقًّا وباطلاً؛ فقد يطلق لفظ الغير ويراد به المباين المنفصل، وهذا هو مقصودهم به، وقد يطلق ويراد به ما ليس هو عين الشيء، أو ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر[1].


[1] انظر: الإنصاف للباقلاني (25)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (3/336) وبغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية (426).


لفظ الغير لفظ مبتدع مجمل يحتمل صوابًا وباطلاً، والواجب الابتعاد عن الألفاظ المجملة المبتدعة التي تحتمل معاني فاسدة، ولزوم الألفاظ الشرعية كما كان يفعل السلف.
فقائل هذا اللفظ المجمل يُسأل عن مراده فيقال له: ماذا تقصد به؟ فإن كنت تقصد أن الصفات هي بائنة عن الله ومنفصلة عنه؛ فهذا باطل لأن صفات الله ليست منفصلة عنه ولا مباينة، وإن كنت تقصد أن ذات الله هي ذات مجردة عن أي صفة ثبوتية، فإن هذا غاية في إنكار وجود الله، وليس من ورائه إلا عدم محض وهو ظاهر البطلان.
وإن كنت تقصد بلفظ الغير: أن الصفات لها معانٍ غير معنى الذات، فهذا صحيح ونفيه عن الله باطل؛ لمصادمته الكتاب والسُّنَّة، قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ *} [الزمر] ، فالله عَلَم للذات المقدسة المسمَّاة بعدة أسماء؛ منها: (الواحد والقهَّار)، وكل منهما دال على صفة من صفات الكمال؛ وهما: الوحدانية والقهر. ومعنى الواحد يختلف عن معنى القهَّار، ومعنى القهَّار يختلف عن معنى الذات وهكذا، وكلها أسماء وأوصاف لذات واحدة.
قال ابن أبي العز الحنفي: «وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها، فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها: فإن كان معنًى صحيحا قُبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص، دون الألفاظ المجملة، إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها، ونحو ذلك»[1].
والخلاصة : أن تسمية المتكلمين إثبات الصفات الاختيارية أو غيرها بالتغير والغير للتنفير عنها لا يلتفت إليه، بل الواجب إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم ونفي ما نفاه الله سبحانه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلّى الله عليه وسلّم من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل.
وأن ما اصطلحوا عليه من تسمية ذلك بالغير ما هو إلا تدليس قادهم إليه انحرافهم في باب الصفات عن الجادة السوية، وليس عليه أثارة من علم، وما كان كذلك فهو ساقط لا قيمة له.


[1] شرح الطحاوية لابن أبي العز (1/261).


1 ـ «بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية»، لابن تيمية.
2 ـ «تنبيه ذوي الألباب السليمة عن الوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة»، لسليمان بن سحمان.
3 ـ «درء تعارض العقل والنقل» (ج2، 4)، لابن تيمية.
4 ـ «شرح العقيدة الطحاوية» (ج1)، لابن أبي العز.
5 ـ «الصفات الإلهية في الكتاب والسُّنَّة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه»، لمحمد أمان الجامي.
6 ـ «الصفدية» (ج1)، لابن تيمية.
7 ـ «الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة» (ج3)، لابن القيم.
8 ـ «موقف ابن تيمية من الأشاعرة» (ج3)، لعبد الرحمن بن صالح المحمود.
9 ـ «موقف شيخ الإسلام ابن تيمية والعلاَّمة ابن القيم من الألفاظ المجملة المتعلقة بأبواب التوحيد والقضاء والقدر»، لعبد السميع بن عبد الأول.