الغَيْرة مصدر من الفعل غار، وهي: الحَمِيّة والأَنَفَة، يقال رجل غَيور وامرأَة غَيُور بلا هاء؛ لأَنّ فَعُولاً يشترِك فيه الذكر والأُنثى، والمِغْيارُ الشديد الغَيْرة[1]، قال ابن فارس: «الغين والياء والراء أصلانِ صحيحان، يدلُّ أحدُهما على صلاحٍ وإصلاحٍ ومنفعة، والآخر على اختلافِ شيئين. فالأوَّل: الغِيرَة، وهي الميرَة بها صلاحُ العِيال. يقال: غِرْتُ أهلي غِيرَةً وغِيارًا؛ أي: مِرْتُهُم. وغَارَهم الله تعالى بالغيث يَغِيرهم ويَغُورهم؛ أي: أصلَح شأنَهم ونَفَعهم. ويقال: ما يَغِيرك كذا؛ أي: ما ينفعُك. ومن هذا الباب: الغَيْرة؛ غَيرةُ الرَّجُل على أهله، تقول: غِرْتُ على أهلي غَيْرَةً. وهذا عندنا من الباب؛ لأنَّها صلاح ومنفعة. والأصل الآخر: قولُنا: هذا الشَّيءُ غيرُ ذاك؛ أي: هو سِواه وخلافه. ومن الباب: الاستثناءُ بغَير، تقول: عَشرة غير واحدٍ، ليس هو من العَشَرة»[2].
[1] لسان العرب (5/34) [دار صادر، بيروت، ط1].
[2] مقاييس اللغة (4/403) [دار الجيل، ط1، 1411هـ] وانظر: لسان العرب (5/34)، والقاموس المحيط (2/167) [دار الكتب العلمية، ط1، 1415هـ].
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني؛ ومن أجل غيرة الله حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله؛ ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين، ولا أحد أحب إليه المِدحة من الله؛ ومن أجل ذلك وعد الله الجنة»[1].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا أحد أغير من الله فلذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله فلذلك مدح نفسه»[2].
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أُمَّة محمد: ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني، يا أُمَّة محمد: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا»[3].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله»[4].
[1] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7416)، ومسلم (كتاب اللعان، رقم 1499).
[2] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4637)، ومسلم (كتاب التوبة، رقم 2760).
[3] أخرجه البخاري (كتاب النكاح، رقم 5221)، ومسلم (كتاب الكسوف، رقم 901).
[4] أخرجه البخاري (كتاب النكاح، رقم 5223)، ومسلم (كتاب التوبة، رقم 2761).
بوّب البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه: «باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا شخص أغير من الله» »[1]. قاصدًا بذلك أن الغيرة وصف ثابت لله تعالى.
وفي أبواب صحيح مسلم: «باب غيرة الله تعالى، وتحريم الفواحش» ومروي تحته ثلاثة أحاديث في إثبات غيرة الله تعالى[2].
وقال قوام السُّنَّة الأصبهاني: «وجميع آيات الصفات التي في القرآن، والأخبار الصحاح واجب على المسلمين أن يؤمنوا بها مثل: النفس، والبدن، وغيرة الله تعالى...»[3].
قال أبو يعلى الفراء رحمه الله بعد أن روى حديث أبي هريرة وسعد بن عبادة رضي الله عنهما السابقين: «اعلم أن الكلام في هذا الخبر في فصلين:
أحدهما: إطلاق صفة الغيرة عليه.
والثاني: في إطلاق الشخص.
أما الغيرة فغير ممتنع إطلاقها عليه سبحانه؛ لأنه ليس في ذلك ما يحيل صفاته ولا يخرجها عمَّا تستحقه؛ لأن الغيرة هي الكراهية للشيء، وذلك جائز في صفاته، قال تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة: 46] »[4].
وقال ابن تيمية: «وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الله يوصف بالغيرة، وهي مشتقة من التغير»[5].
وقال ابن القيم رحمه الله: «والغيرة من صفات الرب جلّ جلاله والأصل فيها قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] ومن غيرته تعالى لعبده وعليه يحميه مما يضره في آخرته»[6].
[1] صحيح البخاري (4/387) [المكتبة السلفية، ط1].
[2] صحيح مسلم (4/2113) [دار الكتب العلمية، 1413هـ].
[3] الحجة في بيان المحجة (2/468 ـ 470) [دار الراية، ط1، 1411].
[4] إبطال التأويلات لأخبار الصفات (1/165) [دار إيلاف الدولية].
[5] رسالة في الصفات الاختيارية لابن تيمية، ضمن مجموع الرسائل (2/48) [دار العطاء، ط1، 1422هـ].
[6] روضة المحبين (295) [دار الكتب العلمية، 1412هـ].
لا يجوز تسمية الله بالغيور؛ لأنه لم يرد دليل لا من الكتاب ولا من السُّنَّة يدل عليه؛ وأسماء الله توقيفية، وعلى هذا فلا يأخذ أحكام أسماء الله الحسنى، وقد توسَّع بعض أهل العلم وأثبت لله اسم الغيور، ومعناه كما قال ابن العربي: «غَيُورٌ، وَهُوَ الَّذِي لاَ يُحَرِّمُ سِوَاهُ»[1].
ولم يذكره في أسماء الله إلا ابن الـعـربـي رحمه الله مستدلًّا بأدلة صفة الغيرة، وأسقطه كل من ألَّف في الأسماء والصفات[2].
وقد قال ابن القيم رحمه الله مبيّنًا خطأ أن يُشتق من كل فعل اسمٌ لله تبارك وتعالى : «من هنا يعلم غلط بعض المتأخرين وزلقه الفاحش في اشتقاقه له سبحانه من كل فعل أخبر به عن نفسه اسمًا مطلقًا، فأدخله في أسمائه الحسنى، فاشتق له اسم الماكر والخادع والفاتن والمضل والكاتب ونحوها من قوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال: 30] ، ومن قوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] ، ومن قوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 17] ، ومن قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 27] ، وقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] . وهذا خطأ من وجوه»[3]، ثم ذكرها.
وقال رحمه الله أيضًا: «فإن الفعل أوسع من الاسم، ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالاً لم يتَّسم منها بأسماء الفاعل، كأراد وشاء وأحدث، ولم يسمَّ بالمريد والشائي والمحدث، كما لم يسمِّ نفسه بالصانع والفاعل والمتقن، وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه، فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء. وقد أخطأ أقبح خطأ من اشتق له من كل فعل اسمًا وبلغ بأسمائه زيادة على الألف، فسمَّاه الماكر والمخادع والفاتن والكائد ونحو ذلك، وكذلك باب الإخبار عنه بالاسم أوسع من تسميته به؛ فإنه يخبر عنه بأنه شيء وموجود ومذكور ومعلوم ومراد ولا يسمَّى بذلك»[4].
وقال رحمه الله: «أنه لا يلزم من الإخبار عنه بالفعل مقيدًا أن يشتق له منه اسم مطلق، كما غلط فيه بعض المتأخرين فجعل من أسمائه الحسنى: المضل الفاتن الماكر، تعالى الله عن قوله؛ فإن هذه الأسماء لم يطلق عليه سبحانه منها إلا أفعال مخصوصة معينة، فلا يجوز أن يسمى بأسمائها»[5].
[1] أحكام القرآن لابن العربي (2/347) [دار الكتب العلمية، ط3، 1424هـ].
[2] انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/347)، ومعتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى للتميمي (295) [دار إيلاف، ط1، 1417هـ].
[3] طريق الهجرتين (486 ـ 487) [دار ابن القيم، ط2، 1414هـ].
[4] مدارج السالكين (3/415) [دار الكتاب العربي، 1393هـ].
[5] بدائع الفوائد (1/169) [مكتبة مصطفى نزار الباز، ط1، 1416هـ].
1 ـ تعبُّد المؤمن لربه تعالى بتركه كل ما حرم عليه؛ إذ إن غيرة الله تعالى تقتضي أن يكون كذلك.
2 ـ تجنب الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
3 ـ غيرة المؤمن لانتهاك محارم الله عزّ وجل، وتلك الغيرة الممدوحة في الشرع، كما امتدح النبي صلّى الله عليه وسلّم غيرة سعد رضي الله عنه بقوله: «أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني» الحديث[1].
[1] تقدم تخريجه.
1 ـ ما فطر الله تعالى العباد عليه من بغض الفواحش.
2 ـ شرع الله تعالى الحكيم المشتمل على تقرير كل خُلُق كريم، والنهي عن كل فاحشة أو سبيل مفضية إليها.
3 ـ العقوبات الواقعة على الأمم التي تظهر فيها الفواحش وتقر، كما حصل لقوم لوط صلّى الله عليه وسلّم، وكما يدل عليه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا»[1].
[1] أخرجه ابن ماجه (كتاب الفتن، رقم 4019)، والحاكم (كتاب الفتن والملاحم، رقم 8623) وصححه، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 106).
خالف في هذه الصفة عموم المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فنفوها عن الله تعالى؛ بحجة استلزامها للتشبيه وإضافة النقص إلى الله تعالى؛ لأنها انفعالات نفسية لا تكون إلا للمخلوق، ولذلك أوَّلوها إلى معنى الزجر عن المعاصي، أو ما يغير من حال العاصي بالانتقام منه في الدنيا والآخرة، ونحو ذلك من التأويلات.
قال ابن فورك ـ في معنى غيرة الله عزّ وجل ـ: «المعنى ما أحد أكثر زجرًا عن الفواحش من الله»[1].
[1] نقلاً عن فتح الباري لابن حجر (2/351) [دار المعرفة، 1379هـ].
الرد بنفي هذا اللازم الذي ذكروه في إثبات الصفة، فأهل السُّنَّة يثبتونها لله تعالى على وجه الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجه، ولا مماثلة فيه لشيء من صفات المخلوقين.
وما هذه الإلزامات التي يوردونها على الإثبات إلا تدليس وتلبيس لرد الحق؛ فإنهم أخذوا في مسمى الصفة خصائص المخلوق ثم نفوها جملة عن الخالق، وهذا في غاية التلبيس والإضلال، فإن الخاصية التي أخذوها في الصفة لم تثبت لها لذاتها، وإنما تثبت لها بإضافتها إلى المخلوق، ومعلوم أن نفي خصائص صفات المخلوقين عن الخالق لا يقتضي نفي أصل الصفة عنه سبحانه، ولا إثبات أصل الصفة له يقتضي إثبات خصائص المخلوق له، كما أن ما نفي عن صفات الرب تعالى من النقائص والتشبيه لا يقتضي نفيه عن صفة المخلوق، ولا ما ثبت لها من الوجوب والقدم والكمال يقتضي ثبوته للمخلوق لإطلاق الصفة على الخالق والمخلوق، فالصفة الثابتة لله مضافة إليه لا يتوهم فيها شيء من خصائص المخلوقين لا في لفظها ولا في ثبوت معناها، وكل من نفى عن الرب تعالى صفة من صفاته لهذا الخيال الباطل لزمه نفي جميع صفات كماله؛ لأنه لا يعقل منها إلا صفة المخلوق، بل ويلزمه نفي ذاته؛ لأنه لا يعقل من الذوات إلا الذوات المخلوقة، ومعلوم أن الرب سبحانه وتعالى لا يشبهه شيء منها[1].
ومن قال: إنَّ الغيرة انفعالات نفسانية؛ يقال له: كل ما سوى الله مخلوق منفعل ونحن وذواتنا منفعلة فكونها انفعالات فينا لغيرنا نعجز عن دفعها: لا يوجب أن يكون الله منفعلاً لها عاجزًا عن دفعها، وكان كل ما يجري في الوجود فإنه بمشيئته وقدرته لا يكون إلا ما يشاء ولا يشاء إلا ما يكون، له الملك وله الحمد. فصفة الغيرة ثابتة لله على وجه الكمال الذي ليس فيه أي معنى من معاني النقص، ولا مماثلة لشيء من المخلوقين[2].
[1] انظر: جلاء الأفهام لابن القيم (85) [عالم الكتب]، والرسالة الأكملية ضمن مجموع الفتاوى (6/119).
[2] الرسالة الأكملية ضمن مجموع الفتاوى (6/120).
1 ـ «الاستقامة» (ج2)، لابن تيمية.
2 ـ «الحجة في بيان المحجة» (ج2)، لقوام السُّنَّة.
3 ـ «رسالة في الصفات الاختيارية»، لابن تيمية، [ضمن مجموع الرسائل (ج2)].
4 ـ «شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري»، لعبد الله الغنيمان.
5 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي السقاف.
6 ـ «صفة الغيرة لله تعالى: دراسة عقدية في ضوء عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة»، لمحمد العلي.
7 ـ «مجموع الفتاوى» (ج6)، لابن تيمية.
8 ـ «مدارج السالكين» (ج3)، لابن القيم.
9 ـ «معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى»، للتميمي.
10 ـ «إبطال التأويلات لأخبار الصفات» (ج1)، لأبي يعلى.