الفتن: جمع فتنة، والفتنة في كلام العرب: الابتلاء والامتحان والاختبار، وأصلها مأخوذ من قولك: فتنت الفضة والذهب؛ إذا أذبتهما بالنار ليتميز الرديء من الجيد[1]. ثم كثر استعمالها فيما أخرجته المحنة والاختبار إلى المكروه، ثم أطلقت على كل مكروه أو آيل إليه كالكفر والإثم والتحريق والفضيحة والفجور، وغير ذلك من الأمور المكروهة[2].
[1] انظر: تهذيب اللغة (14/211) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م]، ومقاييس اللغة (4/472، 473) [دار الفكر، ط 1399هـ]، والصحاح (2/478، 479) [دار العلم للملايين، ط4]، ولسان العرب (13/317 ـ 321) [دار صادر، ط3].
[2] انظر: النهاية في غريب الحديث (3/411) [المكتبة العلمية، 1399هـ]، ومفردات ألفاظ القرآن (2/175 ـ 176) [دار القلم]، وفتح الباري لابن حجر (13/3) [دار المعرفة، 1379هـ].
الفتنة: هي كل أمر يكشفه الامتحان عن سوء، وتكون في الخير والشر[1].
وقيل: هي «ما يتبين به حال الإنسان من الخير والشر»[2].
وقيل: هي كل ما يبث في المجتمع ويؤثِّر في حياة أبنائه: أمنًا ومعيشة وخُلقًا وعقيدة[3].
[1] انظر: فتح الباري لابن حجر (2/8).
[2] التعريفات للجرجاني (165) [دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ].
[3] مجلة البحوث الإسلامية (278 ـ العدد 74 ـ لسنة 1425هـ 1426هـ).
تتضح العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي للفتنة في كون الفتنة تُظهر المؤمن الصادق من الدَّعي، وتُنبئ عن سوء طويَّة من لم يستقر الإيمان في قلبه. وتُخرج الدَّغل من قلوب المؤمنين، فيخرجوا بعد البلاء بقلوب صافية، وأفئدة مؤمنة، كما يحصل عند إدخال الذهب أو الفضة في النار، فيذهب الخَبَث، ويبقى الجيد[1].
[1] موقف المسلم من الفتن في ضوء الكتاب والسُّنَّة لحسين الحازمي (44) [أضواء السلف، ط1، 1420هـ].
لقد حذَّر النبي صلّى الله عليه وسلّم أمته من الفتن، وأمر بالتعوذ منها، وأخبر أن آخر هذه الأمة سيصيبها بلاء وفتن عظيمة، وليس هنالك عاصم منها إلا الإيمان بالله، واليوم الآخر، ولزوم جماعة المسلمين، وهم أهل السُّنَّة وإن قلُّوا، والابتعاد عن الفتن والتعوذ منها، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن»[1].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2867).
أصل الفتنة : الاختبار، ثمّ استعملت فيما أخرجته المحنة والاختبار إلى المكروه، ثمّ أطلقت على كل مكروه أو آيل إليه، كالكفر والإثم والتّحريق والفضيحة والفجور وغير ذلك.
وضابطها : كل ما صدّ عن طاعة الله[1].
والمؤمنون يُفتنون أيضًا، وليس القصد من ذلك رمي المؤمنين في الفتنة، وإنما الغاية أن يمحِّص الله المؤمنين بالتجربة والاختبار، فيعلم ـ وهو العليم الخبير ـ الصادقَ منهم والكاذب، حيث يسقط الأدعياء ويبقى الأولياء[2].
وتطلق الفتنة أيضًا على الكفر والغلو في التأويل البعيد، وعلى الفضيحة والبلية والعذاب والقتال والتحول من الحسن إلى القبيح والميل إلى الشيء والإعجاب به، وتكون في الخير والشر كقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] [3].
[1] انظر: الاعتصام للشاطبي (1/438) [دار ابن عفان، ط1، 1412هـ].
[2] انظر: دراسة في سورة العنكبوت لأحمد القطان ومحمد الزين (14) [مكتبة السندس، ط2، 1409هـ]، وتفسير الطبري (18/357) [دار هجر، ط1، 1422هـ].
[3] انظر: فتح الباري لابن حجر (2/8).
قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25] ، وقال : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ *وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ *} [العنكبوت] ، وقال سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *} [يونس] .
وأما من السُّنَّة النبوية فقد جاءت أحاديث كثيرة في وصف الفتن وشدتها وحث المؤمنين على البعد عنها والاستعاذة من شرورها، ومن هذه الأحاديث: حديث حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند عمر رضي الله عنه، فقال: أيكم سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل، قال: تلك تكفِّرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع النبي رضي الله عنه يذكر التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا، قال: أنت؟ لله أبوك! قال حذيفة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرْبادًّا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، إلا ما أُشرب من هواه»[1].
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن بين يدي الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فكسِّروا قِسِّيكم، وقطِّعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم الحجارة، فإن دُخل على أحدكم فليكن كخير ابنَي آدم»[2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا»[3].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 144).
[2] أخرجه أبو داود (كتاب الفتن والملاحم، رقم 4259)، وابن ماجه (كتاب الفتن، رقم 3961)، وأحمد في المسند (32/504) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب الفتن والملاحم، رقم 8360) وصححه، وصححه الألباني في الإرواء (8/102) [المكتب الإسلامي، ط2].
[3] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 118).
قال ابن الجوزي رحمه الله: «من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة، ومن ادَّعى الصبر وُكل إلى نفسه، فإيَّاك إيَّاك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى، مع مقاربة الفتنة، فإن الهوى مكايد! وكم من شجاع في صف الحرب اغتيل، فأتاه ما لم يحتسب»[1].
وقال ابن دقيق العيد ـ عند شرحه لحديث: «اللَّهُمَّ إني أعوذ من فتنة المحيا، وفتنة الممات» [2] ـ: «فتنة المحيا ما يُعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأعظمها ـ والعياذ بالله ـ أمر الخاتمة عند الموت، وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إليه لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قبل ذلك، ويجوز أن يراد بها فتنة القبر»[3].
وقال ابن القيم رحمه الله: «فالعبد في هذه الدار مفتون بشهواته ونفسه الأمارة، وشيطانه المغوي المزين، وقرنائه وما يراه، ويشاهده، مما يعجز صبره عنه، ويتفق مع ذلك ضعف الإيمان واليقين وضعف القلب ومرارة الصبر، وذوق حلاوة العاجل، وميل النفس إلى زهرة الحياة الدنيا، وكون العوض مؤجلاً في دار أخرى غير هذه الدار التي خلق فيها، وفيها نشأ، فهو مكلفٌ بأن يترك شهوته الحاضرة المشاهدة لغيبٍ طُلب منه الإيمان به»[4].
[1] صيد الخاطر (26) [دار القلم، ط1، 1425هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب الأذان، رقم 832)، ومسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 589).
[3] فتح الباري لابن حجر (2/319).
[4] إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (2/164).
تنقسم الفتنة إلى قسمين:
الأول: فتنة الشبهات وتنشأ عن ضعف البصيرة، وقلة العلم، ولا سيَّما إذا اقترن بذلك فساد القصد، وحصول الهوى، فهنالك الفتنة العظمى، والمصيبة الكبرى.
وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع، على حسب مراتب بدعهم. فجميعهم إنما ابتدعوا بسبب فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل، والهدى بالضلال. ولا ينجي من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وتحكيمه في دِقِّ الدين وجِلِّه، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه.
الثاني: فتنة الشهوات، وهي فسق الأعمال، والواقع فيها صاحب دنيا أعمته دنياه.
وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين في قوله: {كالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاَقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ} [التوبة: 69] ؛ أي: تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخلاق هو النصيب المقدر، ثم قال: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} فهذا الخوض بالباطل، وهو الشبهات[1].
ـ وهناك من يقسم الفتنة إلى خاصة وعامة:
1 ـ فالفتنة الخاصة : هي فتنة الرجلِ في خاصة نفسه من خير أو شر، كفتنته في أهلهِ ومالهِ وولدهِ وجارهِ، وهذه تكفِّرُها الصلاةُ والصومُ والصدقةُ والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر[2].
2 ـ والفتنة العامة : هي التي تصيب عامة الأمة فتعمُّ الصالحَ والطالحَ، والذكرَ والأنثى، والكبيرَ والصغيرَ. فيصبح الإسلام وأهله في بلاءٍ عظيم، وتتداعى الأمم عليهم كما تتداعى الأكلة على قصعتها.
[1] انظر: إغاثة اللهفان (2/165، 166).
[2] انظر: البخاري (كتاب الفتن رقم 7096)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 144).
الفرق بين الفتنة والابتلاء والاختبار:
الفرق بين الفتنة والاختبار: هو «أن الفتنة أشد الاختبار وأبلغه، ويكون في الخير والشر ألا تسمع قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] ، وقوله: {...لأََسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن] ، فجعل النعمة فتنة لأنه قصد بها المبالغة في اختبار المنعم عليه بها كالذهب إذا أريد المبالغة في تعرف حاله أدخل النار، والله تعالى لا يختبر العبد لتغيير حاله في الخير والشر، وإنما المراد بذلك شدة التكليف.
أما الفرق بين الاختبار والابتلاء: فهو أن الابتلاء عادة لا يكون إلا بتحميل المكاره والمشاق. والاختبار يكون بذلك وبفعل المحبوب، ألا ترى أنه يقال اختبره بالإنعام عليه، ولا يقال: ابتلاه بذلك، ولا هو مبتلى بالنعمة، كما قد يقال: إنه مختبر بها. ويجوز أن يقال: إن الابتلاء يقتضي استخراج ما عند المبتلى من الطاعة والمعصية، والاختبار يقتضي وقوع الخبر بحاله في ذلك، والخبر العلم الذي يقع بكنه الشيء وحقيقته فالفرق بينهما بيّن»[1].
[1] الفروق اللغوية للعسكري (216، 217) [مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، 1412هـ]، بتصرف.
من ثمرات الفتن والحكم الإلهية فيها: تميز الصفوف، وتبين الصادق من الكاذب، وفضح المنافقين، وكشف أستارهم، كذلك امتحان الخلق، واختبار صبرهم، وعبوديتهم في السراء والضراء، وتقوية الإيمان في قلوب المؤمنين، وتثبيتهم، وتبيَّن الحق للسالكين، وحصول الهدى والرحمة لمن سلم منها، وغير ذلك من الثمرات والفوائد[1].
[1] انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (2/162).
من آثار الفتن وعواقبها:
ـ انصراف الناس عن العبادة.
ـ صرف الناس عن العلم والعلماء.
ـ تصدُّر السُّفهاء.
ـ الانتهاء إلى العواقب الْمُردية والمآلات السيئة.
ـ من دخل في الفتن انحط قدره.
ـ اشتباه الأمور واختلاط الحق بالباطل.
ـ التغرير بالناشئة والشباب.
ـ إضعاف الأخوَّة الإيمانية والرابطة الدينية.
ـ الجرأة على القتل وسفك الدماء.
ـ إخلال الأمن.
ـ تجرُّؤ أهل الانحلال على نشر باطلهم.
ـ تسلط الأعداء[1].
[1] آثار الفتن للبدر (12 ـ 50) [ط1، 1431هـ].
1 ـ «إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة»، لحمود التويجري.
2 ـ «إتحاف أهل الإيمان بما يعصم من فتن هذا الزمان»، لعبد الله آل جار الله.
3 ـ «إغاثة اللهفان» (ج2)، لابن قيم الجوزية.
4 ـ «السنن الواردة في الفتن وغوائلها»، لأبي عمرو الداني.
5 ـ «الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن»، لصالح بن عبد العزيز آل الشيخ.
6 ـ «القتال في الفتنة: دراسة تأصيلية عقدية»، لعبد الله بن عبد العزيز السويد.
7 ـ «منهاج أهل السُّنَّة والجماعة في التعامل مع الفتن العامة»، لعبد الله بن عمر الدميجي.
8 ـ «منهج أهل السُّنَّة والجماعة في التعامل مع الفتن»، لعبد الرحمن القرشي.
9 ـ «موقف المسلم من الفتن في ضوء الكتاب والسُّنَّة»، للحازمي.
10 ـ «النهاية في الفتن والملاحم»، لابن كثير.