قال ابن فارس: «الفاء والتاء والنون أصل صحيح يدل على ابتلاء واختبار؛ من ذلك الفتنة»[1].
الفتنة : الامتحان والاختبار، يقال: فتنت أفتتن فتنًا، تقول: فتنت الذهب؛ إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته، وهو مفتون وفتين[2].
القَبْرُ : قال ابن فارس: «القاف والباء والراء أصل صحيح يدل على غموض في شيء وتطامن»[3].
والقبر : مدفن الإنسان، يقال: قبَر الميت؛ إذا دفنه، والقبر: حفرة في الأرض يوارى فيها الميت، وجمعه: قبور، والمقبرة، بفتح الباء وضمها: موضع القبور[4].
[1] مقاييس اللغة (4/472) [دار الجيل، ط 11420هـ].
[2] انظر: الصحاح (7/25) [دار العلم للملايين، ط4]، وتهذيب الغة (14/213) [دار إحياء التراث العربي، ط1]، ومقاييس اللغة (4/472).
[3] مقاييس اللغة (4/472).
[4] انظر: تهذيب اللغة (9/119)، والقاموس المحيط (1/590) [مؤسسة الرسالة، ط2]، ولسان العرب (5/68) [دار صادر، ط3، 1414هـ].
فتنة القبر: امتحان الميت واختباره بعد عود الروح إلى جسده وإقعاده؛ فيسأله الملكان عن ربه ودينه ونبيه، فإن كان صالحًا وفق للإجابة، ثم أُكرم وكوفئ بألوان من النعيم، وإن كان سيّئًا أُهين وجُوزي بألوان من العذاب[1].
[1] انظر: فتح الباري لابن حجر (11/177) [دار المعرفة]، ومعارج القبول (2/872) [دار ابن الجوزي، ط6، 1430هـ].
أصل التسمية وتفسيرها من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ إذ قال: «فأما فتنة القبر، فبي تفتنون، وعني تسألون»[1].
وقال أيضًا: «وإنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل ـ أو قريب من ـ فتنة المسيح الدجال، يؤتى أحدكم فيقال له: ما علمك بهذا الرجل...» [2]، وعند أحمد بلفظ: «وقد أُريتكم تفتنون في قبوركم، يسأل أحدكم: ما كنت تقول؟ وما كنت تعبد؟...»[3].
[1] أخرجه أحمد (9/269) [دار الكتاب العربي، 1407هـ]، وصحح إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (4/195) [دار الكتب العلمية، ط1].
[2] أخرجه البخاري (كتاب الجمعة، رقم 922)، ومسلم (كتاب الكسوف، رقم 905).
[3] مسند أحمد (44/543) [مؤسسة الرسالة، ط1].
حقيقة الإيمان بفتنة القبر أن يعتقد المسلم أنها حق، قُبر الإنسان أو لم يُقبر، وأن جميع الناس يفتنون إلا من جاء النص باستثنائه، من نحو موت المسلم ليلة الجمعة أو يومها[1]، وموته مرابطًا[2]، وكذا موته شهيدًا[3]، إلى غير ذلك مما دلَّت عليه النصوص الصحيحة.
[1] أخرجه الترمذي (أبواب الجنائز، رقم 1074)، وأحمد (11/627) [مؤسسة الرسالة، ط1]، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: (هذا حديث غريب... وليس إسناده بمتصل)، لكن له شواهد يرتقي بها إلى الحسن، كما ذكر الألباني في أحكام الجنائز (35) [المكتب الإسلامي، ط4].
[2] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 1913).
[3] أخرجه الترمذي (أبواب فضائل الجهاد، رقم 1663) وصححه، وابن ماجه (كتاب الجهاد، رقم 2799)، وأحمد (28/419) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 3213).
فتنة القبر ثابتة بنص الكتاب والسُّنَّة والإجماع.
قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ *} [إبراهيم] ، فهذه الآية نزلت في تثبيت المؤمن عند السؤال كما جاء في الصحيحين وغيرهما[1].
وفي حديث البراء بن عازب الطويل قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يُلْحَد، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» . مرتين أو ثلاثًا، زاد في حديث جرير ها هنا، وقال: «وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له: يا هذا، من ربك وما دينك ومن نبيك؟» . قال هناد: قال: «ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟». قال: «فيقول: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدَّقت» . زاد في حديث جرير: «فذلك قول الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ *} [إبراهيم] . ثم اتفقا، قال: «فينادي مناد من السماء: أن قد صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة». قال: «فيأتيه من رَوحها وطيبها». قال: «ويُفتح له فيها مد بصره». قال: «وإن الكافر». فذكر موته، قال: «وتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب، فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار». قال: «فيأتيه من حرّها وسمومها». قال: «ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه». زاد في حديث جرير قال: «ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد، لو ضرب بها جبل لصار ترابًا» . قال: «فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين، فيصير ترابًا» . قال: «ثم تعاد فيه الروح» [2].
وكان صلّى الله عليه وسلّم يتعوذ من فتنة القبر، يقول: «اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من فتنة النار، ومن عذاب النار، وأعوذ بك من فتنة القبر، وأعوذ بك من عذاب القبر...»[3].
ودعا صلّى الله عليه وسلّم لبعض الأموات فقال: «ألا إن فلان بن فلان في ذمتك وحبل جوارك فقِهِ فتنة القبر وعذاب النار، أنت أهل الوفاء والحق، اللَّهُمَّ فاغفر له وارحمه، فإنك أنت الغفور الرحيم»[4].
وأهل السُّنَّة يثبتون هذا المعتقد بالإجماع؛ لدلالة النقل عليه، وهو من العقائد الثابتة بالتواتر.
[1] انظر: صحيح البخاري (1/461) [دار ابن كثير، ط4، 1410هـ]، وصحيح مسلم (8/162) [المكتب الإسلامي، ط1، 1409هـ].
[2] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4753)، وابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4269) مختصرًا، وأحمد (30/499) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه ابن القيم في أعلام الموقعين (1/137) [دار الكتب العلمية، ط1]، والألباني في صحيح سنن أبي داود (2/619) و(3/901) [المكتب الإسلامي، 1409هـ].
[3] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6376).
[4] أخرجه أبو داود (كتاب الجنائز، رقم 3202)، وابن ماجه (كتاب الجنائز، رقم 1499)، وأحمد (25/399) [مؤسسة الرسالة، ط1] واللفظ له، وابن حبان (كتاب الجنائز، رقم 3074)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2/18).
قال أبو حاتم الرازي رحمه الله: «ونؤمن بعذاب القبر... ونؤمن بالمسألة في القبر وبالكرام الكاتبين»[1].
وقال ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله: «...وأن عذاب القبر حق، وأن المؤمنين يفتنون في قبورهم ويُضغطون، ويُسألون، ويثبِّت الله منطق من أحب تثبيته»[2].
وقال ابن عبد البر رحمه الله: «وأهل السُّنَّة والجماعة مصدِّقون بفتنة القبر وعذاب القبر؛ لتوافر الأخبار بذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم»[3].
[1] انظر: شرح اعتقاد أهل السُّنَّة للالكائي (1/181).
[2] انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية (85).
[3] الاستذكار (2/421) [دار الكتب العلمية، ط1، 1421هـ].
المسألة الأولى: سؤال الأنبياء وغير المكلَّفين:
اختلف العلماء في سؤال الأنبياء وغير المكلَّفين، والأظهر أن الأنبياء لا يُسألون؛ لأنهم المسؤول عنهم، وأما غير المكلفين؛ فلأن السؤال إنما يكون لمن عقل الرسول والمرسل[1].
ولا يصح ما ورد في استثناء من مات مخضوبًا من الفتنة[2]، ولا من صلى ركعتين ليلة الجمعة بكيفية معينة[3].
المسألة الثانية: عود الروح إلى الجسد عند السؤال:
مما يتعلق بفتنة القبر عود الروح إلى الجسد عند السؤال، وإجلاس الميت، ورجوع العقل إلى صاحبه، وبعثه على ما مات عليه من معتقد، وسماعه خفق نعال أصحابه إذا ولّوا، وسؤاله عقب تفرق الناس أو بعضهم، وأن السائل ملك أو اثنان حسب حاله، وأن الرجل الصالح يثبت وينعم، وأن الرجل السوء على الضد[4].
[1] انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (4/257) [دار عالم الكتب، 1412هـ]، والروح (141) [دار الكتاب العربي، ط4، 1410هـ]، والأسئلة المحيرة حول الدنيا والآخرة (59) [مكتبة ابن سينا]، وشرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور (210) [دار ابن كثير، ط2، 1413هـ].
[2] انظر: الموضوعات لابن الجوزي (3/56) [مكتبة ابن تيمية، ط2، 1407هـ].
[3] المصدر السابق (2/118).
[4] انظر: رسائل الآخرة (2/388 ـ 425).
من أبرز الآثار المترتبة على نوعية الإجابة عند الفتنة فيما يخص الرجل الصالح أنه يكافأ بألوان من النعيم، منها: أنه يُفرش له من الجنة، ويُلبس من الجنة، يفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من رَوحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه عمله الصالح على هيئة رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيبشره بالذي يسره ثم يثني عليه خيرًا، ويرى مقعده من الجنة، ومقعده من النار لو أنه عصى الله، ويعرض عليه مقعده من الجنة بالغداة والعشي حتى يبعثه الله.
وأما الرجل السوء فيكافأ بألوان من العذاب، منها: أنه يُفرش له من النار، ويفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه عمله الخبيث على هيئة رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيبشره بالذي يسوؤه ثم يوبخه، ويقيض له أعمى أصم أبكم فيضربه بمرزبَّة يصير بعدها ترابًا ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ويرى مقعده من النار، ومقعده من الجنة لو أنه أطاع الله، ويعرض عليه مقعده من النار بالغداة والعشي حتى يبعثه الله كما أفادت النصوص.
لعل الحكمة من فتة القبر وسؤال الملكين، تنبه الناس إلى ضرورة توحيد الدين في الإسلام، فإن الله لا يقبل غيره، وتوحيد الله في العبادة، فإن الله لا يقبل الشرك، وتوحيد الرسول في المتابعة، فإن الله لا يقبل غير طريقه.
وأما في الآخرة فدفع العقوبة ـ أو تخفيفها ـ عن مستحقها من المسلمين، قال ابن تيمية: «إن الذنوب مطلقًا من جميع المؤمنين هي سبب العذاب، لكن العقوبة بها في الآخرة في جهنم تندفع بنحو عشرة أسباب...السبب الثامن: ما يبتلى به المؤمن في قبره من الضغطة وفتنة الملكين»[1].
[1] منهاج السُّنَّة (6/205 ـ 238) [جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1، 1406هـ].
1 ـ «أحكام الجنائز»، للألباني.
2 ـ «الأسئلة المحيرة حول الدنيا والآخرة»، للزرقاني.
3 ـ «تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي» (ج4، 5)، للمباركفوري.
4 ـ «التمهيد» (ج22)، لابن عبد البر.
5 ـ «التيسير بشرح الجامع الصغير» (ج2)، للمناوي.
6 ـ «رسائل الآخرة» (ج2)، للعبيدي.
7 ـ «رسالة في أساس العقيدة»، للسعوي.
8 ـ «الروح»، لابن القيم.
9 ـ «شرح الصدور»، للسيوطي.
10 ـ «الفتح الرباني ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني» (ج1)، للساعاتي.
11 ـ «لوامع الأنوار البهية» (ج1»)، للسفاريني.
12 ـ «مجموع الفتاوى» (ج4)، لابن تيمية.
13ـ «مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد العثيمين».
14 ـ «معارج القبول» (ج2)، للحكمي.
15 ـ «نظم المتناثر من الحديث المتواتر»، للكتاني.