الفِراسَة : اسمٌ من (التفرُّس) في الشيء وإصابة النَّظر فيه، يُقال: تفرَّست في فلانٍ خيرًا، وهو يتفرَّس: يتثبَّت وينظُر ويُري الناس أنه فارِسٌ، ويُقال: إنَّ فلانًا لَفارِس بذلك الأمر: إذا كان عالمًا به[1].
[1] انظر: الصحاح للجوهري (3/958) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، وتهذيب اللغة (12/404) [الدار المصرية للتأليف]، ومقاييس اللغة (4/486) [دار الفكر، ط2، 1418هـ]، والقاموس المحيط (725) [مؤسسة الرسالة، بيروت، ط5، 1416هـ].
الفراسة الإيمانيَّة : هي خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضادّه، يَثِب على القلب كوثوب الأسد على الفريسة؛ فيعلم به صاحبه أحوال بعض النَّاس، بنوع من الكرامات وإصابة الظنّ والحدس.
وسببها : نور يقذفه الله في قلب عبده، يفرِّق به بين الحقِّ والباطِل، والحالي والعاطل، والصَّادق والكاذب[1].
أما فراسة أهل الدنيا التي تنال بالتعلم والتّجارب والخلق والأخلاق (الفراسة الخلقيّة، وفراسة الرِّياضة والجوع ونحوها) التي يشترك فيها المؤمِن وغيره؛ فهي: «علم يتعرف فيه أخلاق الإنسان من أحواله الظاهرة، من الألوان والأشكال والأعضاء. وبالجملة: الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن»[2].
وقيل: هي «الظنّ الصَّائب، الناشئ عن تثبيت النظر في الظاهر لإدراك الباطن»[3].
ومحلّ بحثنا هنا في الفراسة الإيمانيَّة لا غيرها.
[1] انظر: النِّهاية في غريب الحديث (3/428) [طبعة عيسى البابي الحلبي بمصر]، ومدارج السالكين (1/129، 2/484) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1393هـ].
[2] مفتاح السعادة لطاش كبري زاده (1/309) [دار الكتب العلمية، بيروت]، ونقله عنه صاحب أبجد العلوم (2/396) [دار الكتب العلمية]. وانظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/1131) [دار الفكر العربي، مصر].
[3] الموسوعة الفقهية الكويتية (1/247).
والفراسة وما يقع في الخواطر ليست حجّة شرعيّة تعارض بها نصوص الكتاب والسُّنَّة، أو تبنى عليها الشرائع والأحكام؛ وإنَّما هي صالحة للاستئناس والاستشهاد بها، لا أنّها عمدة وأصل؛ فهي يستدل لها بالكتاب والسُّنَّة لا بها.
فالمتفرِّس ـ وغيره من البشر ممن ليس بنبي ـ ليس معصومًا من الغلط، ولا يجب على المسلم قَبول توسّمه وتفرّسه إن لم يدل عليه الكتاب والسُّنَّة، بل هو لا يجوز له العمل بما يلقى في قلبه إن لم يعرضه على الكتاب والسُّنَّة، فإن وافق ذلك قبله، وإن خالف ذلك ردَّه؛ لأنه لا يتيقن أنه من عند الله تعالى، وقد يكون من دسيسة الشيطان!
الفراسة الإيمانيَّة نوع من إلهام الله تعالى لعباده المؤمنين، ومقام رفيع من مقامات السَّالكين، ونور يهبه الله لمن يشاء منهم، وهداية يهدي بها خواص عباده الطائعين؛ يميزون بها بين الحق والباطل، والصّدق والكذب، والإيمان والنّفاق، والمحقّ والمبطل، ويعرفون بها بعض أحوال النَّاس وما يدور في أنفسهم وخواطرهم.
والمتفرِّس إنَّما ينظر بنور الله الذي جعله في قلبه وقذفه في رُوعه؛ فلا تكون الفراسة صادقة إلا مع قلب تطهّر وتصفّى وتنزّه من الأدناس والذّنوب، وتعلّق بالله واتبع سبيله وما يحبّه ويرضاه، وتفكّر في آياته وخلقه؛ فهي من هذا الجانب قد تنال بنوع من الكسب الإيماني، بخلاف فراسة أهل الدنيا التي لا سبيل لتحصيلها إلا بالتعلم والتجارب والدلائل.
دلّ على ثبوت الفراسة قول الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ *} [الحِجر] ؛ وهم: أصحاب التوسُّم، بمعنى: التأمّل في السّمة؛ وهي: العلامة التي يستدل بها على غيرها[1]. قال مجاهد: «المتفرسين»، وقال ابن عباس رضي الله عنه والضحاك: «للناظرين»، وقال قتادة: «للمعتبرين»، وقال مقاتل وغيره: «للمتفكّرين» أو «للمتأمّلين»[2]. وكل هذه الأقوال تدور حول معنى واحد؛ فلا تنافي بينها؛ «فإن الناظر متى نظر في آثار ديار المكذبين ومنازلهم وما آل إليه أمرهم؛ أورثه فراسة وعبرة وفكرة»[3].
وقال الله عزّ وجل عن المنافِقين: {وَلَوْ نَشَاءُ لأََرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] ؛ ففي الآية دلالة على ثبوت الفراسة؛ وهي: التعرّف على ما يضمره المنافقون في قلوبهم من النفاق بما يظهر على وجوههم. وعلّق سبحانه معرفتهم بالسِّيما ـ الذي يدرك بالبصر ـ على مشيئته بقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ}[4].
وأخرج الطبري وغيره، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن لله عزّ وجل عبادًا يعرفون الناس بالتوسُّم»[5].
[1] انظر: تفسير (10/43) [دار إحياء التراث العربي، 1405هـ]، وتفسير البحر المحيط (5/444) [دار الكتب العلمية، ط1، 1422هـ]، ومجموع الفتاوى (17/118)، والتحرير والتنوير (14/69) [دار سحنون، 1997م].
[2] انظر: تفسير الطبري (14/94) [دار هجر، ط1، 1422هـ]، والنُّكَت والعُيون للماوردي (3/167) [دار الكتب العلمية، ط1]، وتفسير البغوي (4/388) [دار طيبة، ط4]، وتفسير ابن كثير (4/543) [دار طيبة، ط2].
[3] مدارج السالكين (2/483). وانظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (17/118).
[4] انظر: الاستقامة لابن تيميَّة (1/355) [جامعة الإمام، ط1، 1403هـ]، والجواب الصَّحيح (6/486) [دار العاصمة، ط1، 1414هـ]، والصَّارم المسلول (3/673) [دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1417هـ]، وشرح العقيدة الأصفهانيَّة (124) [مكتبة الرشد، ط1، 1415هـ]، ومجموع الفتاوى (14/110، 16/68، 17/118)، ومنهاج السُّنَّة النبوية (8/474) [جامعة الإمام، ط1، 1406هـ]، ومدارج السالكين (2/483).
[5] أخرجه البزار في مسنده (13/326) [مكتبة العلوم والحِكَم، المدينة المنوَّرة، ط1، 1426هـ]، والطبريّ في تفسيره (17/121) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والطبراني في المعجم الأوسط (3/207) [دار الحرمين، ط1]، وحسَّن إسنادَه الهيثميُّ في مجمع الزوائد (10/268) [دار الكتب العلمية، 1408هـ]، والألبانيُّ في السلسلة الصَّحيحة (رقم 1693).
قال أبو الدّرداء رضي الله عنه: «اتَّقوا فراسة العلماء؛ فإنَّهم ينظرون بنور الله، إنَّه شيء يقذفه الله في قلوبهم، وعلى ألسنتهم»[1].
وقال الشافعي: «خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفراسة، حتى كتبتها وجمعتها»[2].
وقال ابن القيّم: «الفراسة الإيمانية سببها نور يقذفه الله في قلب عبده، يفرق به بين الحق والباطل، والصادق والكاذب، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، وكان أبو بكر الصديق أعظم الأمة فراسة»[3].
[1] أخرجه العسكري، كما ذكر السخاوي في المقاصد الحسنة (59).
[2] آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم (96) [دار الكتب العلمية، ط1، 1424هـ].
[3] مدارج السالكين (2/455).
تنقسم الفراسة إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: فراسة «إيمانية: وسببها: نور يقذفه الله في قلب عبده، يفرق به بين الحق والباطل، والحالي والعاطل، والصَّادق والكاذب.
وحقيقتها: أنها خاطر يهجم على القلب، ينفي ما يضاده، يَثِب على القلب كوُثُوب الأسد على الفريسة
وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان. فمن كان أقوى إيمانًا فهو أحدُّ فراسة، وأصل هذا النوع من الفراسة: من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده، فيحيا القلب بذلك ويستنير، فلا تكاد فراسته تخطئ.
[الثاني:] فراسة الرياضة والجوع، والسهر والتخلي؛ فإن النفس إذا تجردت عن العوائق، صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها. وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا تدل على إيمان ولا على ولاية، وكثير من الجهال يغتر بها. وللرهبان فيها وقائع معلومة، وهي فراسة لا تكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم، بل كشفها جزئي من جنس فراسة الولاة، وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء ونحوهم.
وللأطباء فراسة معروفة من حذقهم في صناعتهم. ومن أحب الوقوف عليها فليطالع تاريخهم وأخبارهم، وقريب من نصف الطب فراسة صادقة، يقترن بها تجربة. والله سبحانه أعلم.
[الثالث:] الفراسة الخلقية: وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم، واستدلوا بالخلق على الخلق؛ لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل، وبكبره وبسعة الصدر، وبعد ما بين جانبيه على سعة خلق صاحبه، واحتماله وبسطته. وبضيقه على ضيقه، وبخمود العين وكلال نظرها على بلادة صاحبها، وضعف حرارة قلبه، وبشدَّة بياضها مع إشرابه بحمرة ـ وهو الشَّكَل ـ على شجاعته وإقدامه وفطنته، وبتدويرها مع حمرتها وكثرة تقلبها، على خيانته ومكره وخداعه.
ومعظم تعلق الفراسة بالعين؛ فإنها مرآة القلب، وعنوان ما فيه، ثم باللسان، فإنه رسوله وترجمانه. وأصل هذه الفراسة: أن اعتدال الخلقة والصّورة، هو من اعتدال المزاج والروح. وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال، وبحسب انحراف الخلقة والصورة عن الاعتدال، يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال»[1].
[1] مدارج السالكين (2/453 ـ 456) [دار الكتاب العربي، ط3، 1416هـ] بتصرف.
ـ بعض المصطلحات الحادثة التي يظن أنها من الفراسة:
الكهانة : فالكهانة ليست من الفراسة؛ لأن الفراسة غالبًا لا يدعي صاحبها الغيب، بخلاف الكاهن؛ فإنه يدعي الغيب، ويفتخر بادعائه، بل وربما كثر مريدوه بسبب هذا الادعاء، وهذا بخلاف المتفرس، لا يدعي الغيب، فضلاً أن يفتخر به.
الكهانة : لها مقدمات غالبًا غير مشروعة، وأما الفراسة فإنها تعتمد على مقدمات مشروعة[1].
الظنّ : ليس الظن من الفراسة في شيء؛ لأن الظنّ يخطئ ويصيب، ويكون مع ظلمة القلب ونوره، ولهذا أمر الله تعالى باجتناب كثير منه وأخبر أن بعضه إثم، وأما الفراسة فقد أثنى الله على أهلها ومدحهم، وهي لا تحدث إلا لقلب قد تطهر وتصفّى وتنزّه من الأدناس وقرب من الله تعالى فأصبح صاحبه ينظر بنور الله الذي جعله في قلبه[2].
الكشف : تقدم أن الفراسة هي أمر يقذفه الله في قلب المؤمن وهو خاطر يخطر للإنسان يميز فيه بين الحق والباطل، أما الكشف فيحصل بطريق الرياضة والجوع والسهر، وهذا قد يحصل للكافر كما يحصل للمؤمن[3].
الإلهام : الإلهام يختلف عن الفراسة في أنه موهبة مجردة، لا تنال بكسب البتة، أما الفراسة فهي متعلقة بنوع كسب وتحصيل[4].
البراسيكولوجي أو التلباثي : هذان المصطلحان يراد بهما: علم ما وراء الطبيعة أو الاتصال عن بعد أو التأثير على نفوس الآخرين، ويكون ذلك عن طريق انتقال الخواطر والوجدانيات وغيرهما من الخبرات الشعورية من عقل إلى عقل بغير الوسائل الحسية المعروفة؛ أي: اتصال عقلي بين بشريين واستقبال طاقة صادرة من العقل وتحليلها بعقل المرسل إليه، بحيث يدرك الفكرة ويعمل على توفيق حواسه على تلقي مجال كهرومغناطيسي صادر من الآخرين.
وهذه العملية هي نوع من أنواع التخاطر عن بعد، وبعضهم يسميها: الاستشعار عن بعد.
وبعضهم يرى أنه يمكن أن تكتسب هذه العملية عن طريق التدريب وتنمية الخبرات فيها. ثم تطورت هذه النظرية إلى أن أُدخل فيها ما يسمى اليوم بالتنويم المغناطيسي أو قراءة الأشياء أو معرفة الأخبار عن الإنسان من ملامسة بعض متعلقاته. وجميع ما تقدم هو في الحقيقة ضرب من ادِّعاء علم الغيب، فهي تكهن وإن سمِّيت بمسمَّ
يات حديثة وأُضفي عليها العلم التجريبي تمويهًا.
ولا يوجد علاقة بين الفراسة وهذه المصطلحات، فالفراسة نور من الله يقذفه في قلب المؤمن، أما هذه فهي من ظلمات الكهانة وهي مرادفة لها بالمعنى والمبنى وإن اختلفت المسميات[5].
[1] انظر: مغني المريد الجامع لشروح كتاب التوحيد (5/1866).
[2] انظر: الروح (238 ـ 240) [دار الكتب العلمية].
[3] انظر: مدارج السالكين (2/228، 484).
[4] انظر: مدارج السالكين (1/69).
[5] انظر: مجلة الدراسات العقدية (العدد السادس 342 ـ 353).
الفرق بين الفراسة الإيمانيَّة والإلهام والتحديث:
الفراسة الإيمانية قد تنال بنوع كسب وتحصيل، وأما الإلهام والتحديث (وهو إلهام خاصّ) فموهبة مجردة لا تنال بكسب ألبتة[1].
الفرق بين الفراسة والكرامة:
الكرامة : «أمر خارق للعادة، غير مقرون بدعوى النبوة، ولا هو مقدمة لها، يظهر على يد عبد ظاهر الصّلاح، ملتزم لمتابعة نبي كلّف بشريعته، مصحوب بصحيح الاعتقاد والعمل الصالح، علم بها ذلك العبد الصالح أم لم يعلم»[2]، فالكرامة أمر خارق للعادة. أما الفراسة فإلهام، وقد تنال بنوع كسب وتحصيل، وإذا كانت الفراسة إيمانية فهي حينئذٍ كرامة، بخلاف غيرها من أنواع الفراسة فليست كرامة.
[1] انظر: مدارج السالكين (1/44، 45).
[2] لوامع الأنوار البهيَّة للسَّفاريني (2/392) [المكتب الإسلامي، بيروت]. وانظر: التعريفات للجرجاني (235) [دار الكتاب العربي، ط1، 1405هـ]، والتوقيف على مهمات التعاريف (601) [دار الفكر، ط1، 1410هـ].
1 ـ «الاستقامة» (ج1)، لابن تيمية.
2 ـ «بدائع الفوائد» (ج3)، لابن القيم.
3 ـ «الجامع لأحكام القرآن» (ج10)، للقرطبي.
4 ـ «الجواب الصحيح (ج6»)، لابن تيمية.
5 ـ «شرح العقيدة الأصفهانية»، لابن تيمية.
6 ـ «الصارم المسلول» (ج3)، لابن تيمية.
7 ـ «الطرق الحكمية»، لابن القيم.
8 ـ «مجموع الفتاوى» (ج14، 16، 17)، لابن تيمية.
9 ـ «مدارج السالكين» (ج1، 2)، لابن القيم.
10 ـ «النهاية في غريب الحديث» (ج3)،لابن الأثير.