الفاء والراء والحاء يدل على خلاف الحزن[1]. وقد استعمل الفرح: بمعنى الرضا والسرور، تقول: فرح به: سُرّ، وهو خلاف الحزن، تقول: فرح يفرح فرحًا[2].
[1] انظر: مقاييس اللغة (4/499) [دار الفكر، 1399]، ولسان العرب (25/541) [دار صادر، ط1، 1374هـ].
[2] الصحاح (1/313) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، ولسان العرب (25/541) [دار صادر، ط1، 1374هـ]، والمصباح المنير للفيومي (2/466).
العلاقة ظاهرة بين المعنيين من حيث الدلالة على الرضا والمحبة، لكن المعنى في حق الله تعالى على غاية الكمال والجلال؛ ففرحه سبحانه عن غنى ورحمة وإحسان، بخلاف الفرح الذي يطلق على المخلوق، فإنه لا ينفك عنه معنى الضعف والاحتياج الملازم للمخلوقات عمومًا، كما أن ما يستوعبه المعنى اللغوي في هذه الصفة كالبطر والطرب ونحوه من معاني النقص؛ فإنه لا يدخل في المعنى الشرعي هنا.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «للهُ أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن، من رجل في أرض دوية مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده»[1]
[1] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6308)، ومسلم (كتاب التوبة، رقم 2744)، واللفظ له.
قال أبو إسماعيل الصابوني: «وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع والبصر والعين والفرح والضحك وغيرها»[1].
وقال البغوي ـ في كلامه على صفة الأصابع لله تعالى ـ: «والإصبع المذكورة في الحديث صفة من صفات الله عزّ وجل، وكذلك كل ما جاء في الكتاب والسُّنَّة من هذا القبيل من صفات الله تعالى؛ كالنفس والوجه والعين والضحك والفرح»[2].
وقال ابن تيمية: «بل هو سبحانه يفرح بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا وجدها بعد اليأس، فالله أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته»[3].
[1] عقيدة السلف أصحاب الحديث (165) [دار العاصمة، ط2، 1419].
[2] شرح السُّنَّة (1/155) [دار الكتب العلمية، ط1، 1412هـ].
[3] ثبوت الكمال لله لابن تيمية ـ ضمن مجموع الفتاوى (5/66).
1 ـ الإقبال على الله عزّ وجل بكثرة التوبة والإنابة والاستغفار؛ فما من تائب إلا يفرح ربه بتوبته، ويعطيه عليها أضعاف أضعاف ما رجا بتوبته، ولئن كان الغض والسكوت عن خطأ التائب وستره فضلاً عظيمًا ومنَّة كبيرة، فكيف بفرح بتلك التوبة وشكره عليها! فسبحان ربنا ما أرحمه وأكرمه!
2 ـ فرح المؤمن بما يفرح به ربه ، فيفرح بتوبته هو، ويفرح بتوبة غيره، ويفرح بعموم أسباب الخير والفلاح، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ *} [يونس] ، وكما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يفرح بالتائبين والداخلين في دين الله تعالى.
3 ـ كثرة التائبين بما يفتحه الله تعالى عليهم بفرحه بهم من الهدى والخير.
4 ـ التوفيق والسداد الذي يجده كل تائب إلى ربه؛ وهو أثر فرح الله تعالى به.
5 ـ الحياة الطيبة التي يعيشها كل مؤمن كثير التوبة والإنابة.
6 ـ رحمة الله تعالى بعباده بما يسَّره لهم من كسب الدرجات العلا، وفتح باب الرجوع والاستدراك لكل خطأ وذنب يحول دونها أو يضعف الوصول إليها.
خالف عموم المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة في هذه الصفة، فلم يثبتوها؛ بناء على أصلهم في رد أحاديث الآحاد في باب الاعتقاد، وكذلك دعوى التشبيه والتجسيم وحلول الحوادث التي يجعلونها لازم الصفات الفعلية، وزعموا أن الفرح لذة تقع في القلب بإرادة المحبوب ونيل المشتهى، والله تعالى منزه عن ذلك، ولذلك منهم من أوَّل هذه الصفة إلى لازمها وهو الرضا[1]، ومنهم من أوَّلها بما يفعله بغيره من الفرح، وهو الثمرة الحاصلة[2].
والرد عليهم:
بنفي هذا اللازم الذي ذكروه في إثبات الصفة، فأهل السُّنَّة يثبتونها لله تعالى على وجه الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجه، ولا مماثلة فيه لشيء من صفات المخلوقين، ويجرونها على ظاهرها دون الخوض في الكيفيات.
وأما هذه الإلزامات التي يوردها المعطلة على الإثبات فما هي إلا تدليس وتلبيس لرد الحق؛ فإنهم أخذوا في مسمى الصفة خصائص المخلوق ثم نفوها جملة عن الخالق، وهذا في غاية التلبيس والإضلال، فإن الخاصية التي أخذوها في الصفة لم تثبت لها لذاتها، وإنما تثبت لها بإضافتها إلى المخلوق، ومعلوم أن نفي خصائص صفات المخلوقين عن الخالق لا يقتضي نفي أصل الصفة عنه سبحانه، ولا إثبات أصل الصفة له يقتضي إثبات خصائص المخلوق له، كما أن ما نفي عن صفات الرب تعالى من النقائص والتشبيه لا يقتضي نفيه عن صفة المخلوق، ولا ما ثبت لها من الوجوب والقدم والكمال يقتضي ثبوته للمخلوق لإطلاق الصفة على الخالق والمخلوق، فالصفة الثابتة لله مضافة إليه لا يتوهم فيها شيء من خصائص المخلوقين لا في لفظها ولا في ثبوت معناها، وكل من نفى عن الرب تعالى صفة من صفاته لهذا الخيال الباطل لزمه نفي جميع صفات كماله؛ لأنه لا يعقل منها إلا صفة المخلوق، بل ويلزمه نفي ذاته؛ لأنه لا يعقل من الذوات إلا الذوات المخلوقة، ومعلوم أن الرب سبحانه وتعالى لا يشبهه شيء منها[3].
وأما تفسير الصفة بلازمها وذكر ما تدل عليه من المحبة والرضا فليس هذا هو محل الإنكار، ولكن أن يجعل هذا التفسير ردًّا للصفة الثابتة، فهذا هو المردود.
[1] انظر: أساس التقديس (111) [مؤسسة الكتب الثقافية، ط1]. وانظر ما نقله ابن حجر في الفتح (11/109) [دار الريان، ط1، 1407هـ].
[2] انظر ما نقله ابن حجر في الفتح (11/109).
[3] انظر: جلاء الأفهام (85) [عالم الكتب، بيروت]، والرسالة الأكملية ـ ضمن مجموع الفتاوى (6/119).
1 ـ «ثبوت الكمال لله»، لابن تيمية.
2 ـ «الحجة في بيان المحجة»، لقوام السُّنَّة الأصبهاني.
3 ـ «شرح السُّنَّة»، للبغوي.
4 ـ «شرح العقيدة الواسطية»، لابن عثيمين.
5 ـ «شرح العقيدة الواسطية»، لمحمد خليل هراس.
6 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي السقاف.
7 ـ «الصفات الإلهية في الكتاب والسُّنَّة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه»، لمحمد أمان الجامي.
8 ـ «عقيدة السلف وأصحاب الحديث»، لأبي عثمان الصابوني.
9 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.