الفرقة من مادة (ف ـ ر ـ ق)، و«الفاء والراء والقاف أُصيل صحيح يدل على تمييز وتزييل بين شيئين، والفرقان: كتاب الله تعالى فَرَقَ به بين الحق والباطل، والفرقان: الصبح، سُمي بذلك؛ لأنه به يُفرق بين الليل والنهار»[1].
ويقال: فَرَقتُ بين الشيئين أفرْق فرْقًا وفرْقانًا، وفرَّقت الشيء تفريقًا وتفرِقةً فانفرق وافترق وتفرَّق.
والفِرْق: طائفة من الناس، والفريق: الطائفة من الناس، وهم أكثر من الفِرْق، والفُرقة: مصدر الافتراق[2].
والناجية من مادّة (ن ـ ج ـ و)، يقال: نجا نجوًا ونجاءً ونَجَاةً ونَجَايَةً: خَلَصَ. والناجية والنجاة: الناقة السريعة تنجو بمن يركبها، والنجْوَ والنَّجَاة: المكان المرتفع الذي تظن أنه نجاؤُك، لا يعلوه السيل[3].
[1] مقاييس اللغة (4/493) [دار الجيل].
[2] ينظر: تهذيب اللغة (9/96) [دار إحياء التراث العربي، 1421هـ]، والصحاح (4/1267) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 1419هـ]، والقاموس المحيط (3/371) [دار الكتب العلمية، ط1، 1415هـ].
[3] ينظر: الصحاح للجوهري (54/1986)، وتهذيب اللغة (11/135)، والقاموس المحيط (4/452).
الفرقة الناجية: هي التي تسير على ما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمها، وأكثرهم معرفة بمعانيها، وأشدهم اتباعًا لها؛ تصديقًا وعملاً[1].
[1] ينظر: مجموع الفتاوى (3/347)، والدين الخالص للقنوجي (3/44) [دار الكتب العلمية، ط1، 1415هـ].
عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: ألا إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام فينا فقال: «ألا إن مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة»[1] . فأخبر أن هناك فرقة ناجية من بين هذه الفرق الثلاث وسبعين.
وفي رواية للترمذي: قال: «وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة» ، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»[2].
[1] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، 4597)، وأحمد (28/134) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والدارمي (كتاب السير، رقم 2560)، وابن أبي عاصم في السُّنَّة (1/76) [المكتب الإسلامي، ط1]، وحسَّنه الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف (63)، وصحح ابن تيمية المتنَ في مجموع الفتاوى (3/345)، وله عدة شواهد أشار إليها الألباني في السلسلة الصحيحة (1/405) [مكتبة المعارف، ط1].
[2] أخرجه الترمذي (أبواب الإيمان، رقم 2641)، والحاكم (كتاب العلم، رقم 444)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/334، رقم 2129) [المكتب الإسلامي، ط 1، 1408هـ].
ساق الخطيب البغدادي بسنده عن الإمام أحمد ـ وذكر حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تفترق الأمة على نيف وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة» ـ فقال: «إن لم يكونوا أصحاب الحديث، فلا أدري من هم»[1] . ومراده بأهل الحديث: أهل السُّنَّة والجماعة.
قال ابن تيمية: «وفيهم الصدِّيقون، والشهداء، والصالحون، ومنهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، أولو المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال، وفيهم أئمة الدين، الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهم الطائفة المنصورة»[2].
وقال الصنعاني: «كل فرقة تزعم أنها الفرقة الناجية، ثم قد تُقيم بعض الفِرَق على دعواها برهانًا أوهى من بيت العنكبوت.
وبالجملة:
فكلٌ يدَّعي وصلاً لليلى
وليلى لا تقرُّ لهم بذاكا
وكان الأحسن بالناظر في الحديث أن يكتفي بالتفسير النبوي لتلك الفرقة، فقد كفاه صلّى الله عليه وسلّم ـ معلِّم الشرائع الهادي إلى كل خير صلّى الله عليه وسلّم ـ المؤنة، وعيَّن له الفرقة الناجية، بأنها: من كان على ما هو عليه صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وقد عَرف بحمد الله من له أدنى همة في الدين ما كان عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه»[3].
وقال عبد الرحمن بن حسن: «الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين، هي التي تمسكت بكتاب الله، وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وعملوا بما في كتاب الله، وأخلصوا له العبادة، واتبعوا رسوله صلّى الله عليه وسلّم»[4].
[1] شرف أصحاب الحديث (25) [دار إحياء السُّنَّة].
[2] العقيدة الواسطية بشرح هراس (261) [دار الهجرة، ط3، 1415هـ].
[3] حديث افتراق الأمة (78، 79) [دار العاصمة، ط1، 1415هـ].
[4] الدرر السنية (11/402) [ط6، 1413هـ]. وينظر: (11/352).
ـ ليس كل الفرق الثنتين والسبعين خارجة عن الملة:
فهم لا يزالون من أهل الإسلام، لم يخرجوا منه إلى الكفر: فالنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يخرجهم من الإسلام، بل جعلهم من أمته ـ أمة الإجابة ـ وقال: «كلها في النار» ولم يقل: إنهم مخلدون في النار، فهو وعيد في حقهم كسائر نصوص الوعيد الواردة في مرتكبي بعض الكبائر، كقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث ابن عباس رضي الله عنه: «كل مصوِّر في النار يجعل له بكل صورة صوَّرها نفسًا فتعذبه في جهنم» [1]، ولم يقل أحد من أهل السُّنَّة: إن المصور خارج من ملة الإسلام بمقتضى هذا الحديث.
ومن باب أولى عدم الحكم على معين ممن انتسب لفرقة من هذه الفرق بالكفر، ما لم يقع في مكفر، وتتوفر فيه شروط التكفير، وتنتفي عنه موانعه.
قال ابن تيمية: «ومن قال: إن الثنتين وسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفرًا ينقل عن الملة، فقد خالف الكتاب والسُّنَّة وإجماع الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم من كفَّر كل واحد من الثنتين وسبعين فرقة، وإنما يكفِّر بعضهم بعضًا ببعض المقالات»[2]
وقال أيضًا: «ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارًا، بل مؤمنين، فيهم ضلال وذنب، يستحقون به الوعيد، كما يستحقه عصاة المؤمنين، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يخرجهم من الإسلام، بل جعلهم من أمته، ولم يقل: إنهم يخلدون في النار، فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته، فإن كثيرًا من المنتسبين إلى السُّنَّة فيهم بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج، وأصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم ـ علي ابن أبي طالب وغيره ـ لم يكفِّروا الخوارج الذين قاتلوهم»[3].
وقال: «وليس قوله: «اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة» بأعظم من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا *} [النساء] ، وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا *} [النساء] وأمثال ذلك من النصوص الصريحة بدخول من فعل ذلك النار»[4]
وجدير بالتنبيه هنا: أن هذه الفرق ليست على درجة واحدة، بل هم متفاوتون، كما أن من الفرق من صرح أئمة الإسلام بكفرهم، بل نص بعضهم على أنهم خارجون عن الفرق الثنتين والسبعين، كالجهمية مثلاً، لكونهم قالوا بمقالات توجب ذلك.
[1] أخرجه مسلم (كتاب اللباس والزينة، رقم 2110).
[2] مجموع الفتاوى (7/217).
[3] منهاج السُّنَّة (5/241) [جامعة الإمام، ط2].
[4] منهاج السُّنَّة (5/249).
1 ـ «شرف أصحاب الحديث»، للخطيب البغدادي.
2 ـ «العقيدة الواسطية»، لابن تيمية [بشرح هراس].
3 ـ «حديث افتراق الأمة»، للصنعاني.
4 ـ «المباحث العقدية في حديث افتراق الأمم»، لأحمد سردار محمد مهر الدين شيخ.
5 ـ «درء التعارض»، لابن تيمية.
6 ـ «فضل علم السلف على الخلف»، لابن رجب.
7 ـ «التحف في مذاهب السلف»، للشوكاني.
8 ـ «لوامع الأنوار»، للسفاريني.
9 ـ «وسطية أهل السُّنَّة بين الفرق»، لمحمد باكريم.