الاعتصام: مشتق من الفعل: عَصَمَ، وهو لمعنى الإمساك والملازمة والمنع.
قال ابن فارس رحمه الله: «عصم: العين والصاد والميم أصلٌ واحدٌ صحيحٌ يدلُّ على إمساكٍ ومنْع وملازمة. والمعنى في ذلك كلِّه معنىً واحد، من ذلك العِصْمة: أن يعصم الله تعالى عَبْدَه من سوءٍ يقع فيه. واعتصم العبدُ بالله تعالى، إذا امتنع. واستَعْصَم: التجأ»[1].
واعتصم فلان بالله إذا امتنع به، والعصمة بمعنى الحفظ، ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] ؛ أي: يحفظك ويحميك[2].
[1] مقاييس اللغة (4/331)، [دار الجيل، ط2، 1420هـ].
[2] انظر: لسان العرب (12/404) [دار صادر، ط1].
الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة؛ يعني: التمسُّك بهما، والاهتداء بهديهما، اعتقادًا بما فيهما من أخبار، وعملاً بما فيهما من أحكام، مع الردِّ إليهما عند الاختلاف، وعدم تقديم العقول الفاسدة والآراء الضالة عليهما. قال الشوكاني: «الاعتصام بالله التمسك بدينه وطاعته والوثوق بوعده»[1].
والرد إلى الله تعالى هو الرد إلى كتابه. والرد إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو الرد إليه نفسه في حياته، والرد إلى سُنَّته بعد وفاته. وهذا التفسير مجمع عليه بين أهل العلم[2].
العلاقة بين المعنى اللغوي والشرعي:
المعنى الشرعي للاعتصام بالكتاب والسُّنَّة لا يخرج عن عموم المعنى اللغوي للاعتصام.
فمن معاني الاعتصام في اللغة: الإمساك والمنع، وكذا المعتصم بالكتاب والسُّنَّة، فإنه مستمسك بهديهما، وملازم لهما، تلاوة وتعلمًا، وتفكرًا وتدبرًا، وقولاً وعملاً، كما قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [الزخرف] .
ومن معاني العصمة أيضًا: المنع والحفظ، وكذا المعتصم بالله، فإنه ممتنع به، فهو يرجو باعتصامه أن يمنعه الله من الزيغ والضلال، وأن يحفظه في دينه ودنياه، والعصمة من معانيها الحفظ[3].
[1] فتح القدير (1/530) [دار الفكر].
[2] حكى هذا الإجماع ابن القيم كما في: إعلام الموقعين (1/49، 227) [دار الجيل]، وانظر: تفسير الطبري (8/505) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وجامع بيان العلم وفضله (2/187) [دار الكتب العلمية، 1398هـ]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (35/6)، وأضواء البيان للشنقيطي (4/200) [دار الفكر، 1415هـ].
[3] انظر: لسان العرب (12/404).
لقد اتفق أهل السُّنَّة والجماعة على وجوب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، والرد إليهما عند النزاع، وأنه لا يسوغ لأحد أن يتبع ما ورد على عقله وقلبه من غير اعتبار بالكتاب والسُّنَّة، وخصوصًا في أبواب الاعتقاد[1].
قال الشوكاني رحمه الله: «اعلم أنه إذا وقع الخلاف بين المسلمين في أن هذا الشيء بدعة أو غير بدعة، أو مكروه أو غير مكروه، أو محرم أو غير محرم، أو غير ذلك، فقد اتفق المسلمون ـ سلفهم وخلفهم ـ من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا ـ وهو القرن الثالث عشر منذ البعثة المحمدية ـ أن الواجب عند الاختلاف في أي أمر من أمور الدين بين الأئمة المجتهدين هو الرد إلى كتاب الله سبحانه، وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، الناطق بذلك الكتاب العزيز: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ، ومعنى الرد إلى الله سبحانه: الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم: الرد إلى سُنَّتِهِ بعد وفاته، وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين»[2].
وأما من ترك هذا الأصل، فإنه على خطر عظيم، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: «من رد حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو على شفا هلكة»[3].
يقول ابن حزم رحمه الله: «فلم يسع مسلمًا يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن والخبر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا أن يأبى عَمَّا وجد فيهما، فإن فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق، وأما من فعله مستحلًّا للخروج عن أمرهما، وموجبًا لطاعة أحد دونهما فهو كافر، لا شك عندنا في ذلك، وقد ذكر محمد بن نصر المروزي أن إسحاق بن راهويه كان يقول: من بلغه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر»[4].
[1] انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (11/209) [مكتبة ابن تيمية، ط2].
[2] شرح الصدور بتحريم رفع القبور، ضمن الجامع الفريد للشوكاني (593) [مطبعة العبيكان، ط3، 1408هـ].
[3] سير أعلام النبلاء (11/297) [مؤسسة الرسالة، ط9، 1413هـ].
[4] الإحكام (1/95) [دار الحديث، ط1، 1404هـ].
بيَّن ابن القيم حقيقة هذا الأصل الأصيل من أصول العبودية لله بقوله: «وحقيقتها ـ يعني: طريق العبودية ـ التأدب بآداب رسول الله باطنًا وظاهرًا، وتحكيمه باطنًا وظاهرًا، والوقوف معه حيث وقف بك، والمسير معه حيث سار بك، بحيث تجعله بمنزلة شيخك الذي قد ألقيت إليه أمرك كله، سره وظاهره، واقتديت به في جميع أحوالك، ووقفت مع ما يأمرك به، فلا تخالفه البتة، فتجعل رسول الله لك شيخًا وإمامًا وقدوةً وحاكمًا، وتعلق قلبك بقلبه الكريم، وروحانيتك بروحانيته، كما يعلق المريد روحانيته بروحانية شيخه، فتجيبه إذا دعاك، وتقف معه إذا استوقفك، وتسير إذا سار بك، وتقيل إذا قال، وتنزل إذا نزل، وتغضب لغضبه، وترضى لرضاه، وإذا أخبرك عن شيء أنزلته منزلة ما تراه بعينك، وإذا أخبرك عن الله بخبر أنزلته منزله ما تسمعه من الله بإذنك، وبالجملة فتجعل الرسول شيخك وأستاذك ومعلمك ومربيك ومؤدبك، وتسقط الوسائط بينك وبينه إلا في التبليغ، كما تسقط الوسائل بينك وبين المرسل في العبودية، ولا تثبت وساطة إلا في وصول أمره ونهيه ورسالته إليك، وهذان التجريدان هما حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، والله وحده هو المعبود المألوه الذي لا يستحق العبادة سواه، ورسوله المطاع المتبع المهتدى به، الذي لا يستحق الطاعة سواه، ومن سواه فإنما يطاع إذا أمر الرسول بطاعته، فيطاع تبعًا للأصل، وبالجملة فالطريق مسدودة إلا على من اقتفى آثار الرسول، واقتدى به في ظاهره وباطنه»[1].
والرد إلى الكتاب والسُّنَّة والاعتصام بهما يتضمن أمورًا عدّة، من أهمها ما يلي:
1 ـ الاعتقاد الجازم بأنه لا يتحقق إسلام المرء إلا بالإيمان اليقيني التام بما جاء في القرآن وصح في السُّنَّة (المتواترة أو الآحاد)، والقطع التام بصدق ما فيهما، وأن الباطل لا يتطرق إليهما بحال.
2 ـ الوقفُ في الاستدلال في أبواب الاعتقاد على ما جاء في الكتاب وصح في السُّنَّة.
قال الإمام أحمد رحمه الله: «ولا يوصف الله تعالى بأكثر مما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلّى الله عليه وسلّم... ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك، نؤمن بالقرآن كله، محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شُنِّعث»[2].
وقال السجزي رحمه الله: «وقد اتفقت الأئمة على أن الصفات لا تؤخذ إلا توقيفًا، وكذلك شرحها لا يجوز إلا بتوقيف... ولا يجوز أن يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلّى الله عليه وسلّم»[3].
وقال ابن القيم رحمه الله: «فقد استدل النبي صلّى الله عليه وسلّم على مسائل أصول الدين بالقرآن، وأرشد الصحابة لاستنباطها منه، خلافًا لمن زعم أن كلام الله ورسوله لا يفيد العلم بشيء من أصول الدين، ولا يجوز أن تستفاد معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله منه، وعبَّر عن ذلك بقوله: الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين!»[4].
3 ـ الانقياد والالتزام بما ورد فيهما من أوامر ونواه؛ أي: أن يعتقد المسلم أنه مخاطب بتلك الأوامر والنواهي، داخل تحت خطاب الشارع.
4 ـ أن يكون المرجع عند التنازع إلى ما جاء فيهما.
5 ـ عدم الاحتكام في شيء من أمور الدين إلى ما سواهما، من الآراء الفاسدة، أو الكتب السابقة المنسوخة المحرفة.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: «حرام على العقول أن تمثل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تَحُدَّه، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تعمَّق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم»[5].
6 ـ أن ما عارض الكتاب والسُّنَّة من الآراء أو الحجج فإنه يجزم ببطلانه، حتى وإن لم يتبين للناظر الرد التفصيلي على ذلك المعارض، بل مجرد تحقق المعارضة كافٍ في الحكم عليه بالبطلان.
قال ابن تيمية رحمه الله: «وأما خبر الله ورسوله فهو صدق موافق لما الأمر عليه في نفسه، لا يجوز أن يكون شيء من أخباره باطلاً ولا مخالفًا لما هو الأمر عليه في نفسه، ويعلم من حيث الجملة أن كل ما عارض شيئًا من أخباره وناقضه فإنه باطل، من جنس حجج السوفسطائية، وإن كان العالِم بذلك قد لا يعلم وجه بطلان تلك الحجج المعارضة لأخباره، وهذه حال المؤمنين للرسول الذين علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به، يعلمون من حيث الجملة أن ما ناقض خبره فهو باطل، وأنه لا يجوز أن يُعارض خبرَه دليلٌ صحيح، لا عقلي ولا سمعي»[6].
7 ـ وحتى لو وجد الإنسان من عقله ـ القاصر ـ منازعة لشيء مما جاء في الكتاب وصح في السُّنَّة، فإنه لا يلتفت إليه، بل يقطع ببطلان هذا الوارد العقلي، ويقطع بصدق الكلام الشرعي.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فإذا علم الإنسان بالعقل أن هذا رسول الله، وعلم أنه أخبر بشيء، ووجد في عقله ما ينازعه في خبره، كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه، وأن لا يقدم رأيه على قوله، ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه، وأنه أعلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته واليوم الآخر منه، وأن التفاوت الذي بينهما في العلم بذلك أعظم من التفاوت الذي بين العامة وأهل العلم بالطب»[7].
8 ـ ومن تمام الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة: مراعاة الألفاظ الواردة في الكتاب والسُّنَّة، وخصوصًا ما يتعلق بأمور الغيب، وعدم استعمال الألفاظ والمصطلحات المحدثة في ذلك، خصوصًا إذا كانت محتملة لمعنى غير صحيح، فـ«أهل السُّنَّة والحديث فيهم رعاية لألفاظ النصوص وألفاظ السلف»[8].
قال ابن تيمية: «وباب الأسماء والصفات يتبع فيها الألفاظ الشرعية، فلا نطلق إلا ما يرد به الأثر»[9].
[1] مدارج السالكين لابن القيم (3/143 ـ 144) [دار الكتاب العربي، ط2، 1393هـ].
[2] ذم التأويل لابن قدامة (22) [الدار السلفية، ط1].
[3] الرد على من أنكر الحرف والصوت (121) [دار الراية، ط1، 1414هـ].
[4] التبيان في أقسام القرآن (41) [دار الفكر] بتصرف يسير.
[5] ذم التأويل لابن قدامة (23).
[6] درء التعارض (5/255) [طبعة جامعة الإمام، ط1، 1403هـ].
[7] درء التعارض (1/141).
[8] بيان تلبيس الجهمية (2/110) [مطبعة الحكومة، ط1، 1392هـ].
[9] قاعدة في المحبة (53) [دار ابن حزم، ط1، 1420هـ].
لا شكَّ أن الردَّ إلى الكتاب والسُّنَّة والاعتصام بهما من أعلى مقتضيات الإيمان وموجباته، بل هو أساس دين الإسلام، إذ هو لازم الإقرار بالشهادتين، وهو معنى أن يكون الإنسان قد رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ صلّى الله عليه وسلّم نبيًّا ورسولاً.
قال الطحاوي في عقيدته: «إنه ما سَلِمَ في دينه إلا من سَلَّم لله عزّ وجل ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه»[1]. وقال ابن أبي العز في شرحه: «أي: سلَّم لنصوص الكتاب والسُّنَّة، ولم يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة... فالواجب كمال التسليم للرسول صلّى الله عليه وسلّم، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن نعارضه بخيال باطل نسميه معقولاً، أو نحمله شبهةً أو شكًّا، أو نقدم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم، فنوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما نوحد المرسل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما، توحيد المرسِل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا نحاكم إلى غيره، ولا نرضى بحكم غيره، ولا نوقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه، وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه... بل إذا بلغه الحديث الصحيح يعد نفسه كأنه سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهل يسوغ أن يؤخر قبوله والعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وكلامه ومذهبه، بل كان الفرض المبادرة إلى امتثاله من غير التفات إلى سواه، ولا يستشكل قوله لمخالفته رأي فلان، بل يستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نَصَّه بقياس، بل نهدر الأقيسة ونتلقى نصوصه، ولا نحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولاً»[2].
[1] الطحاوية مع شرح ابن أبي العز (204) [المكتب الإسلامي، ط4، 1391هـ].
[2] المرجع السابق (216 ـ 218).
لقد تكاثرت وتواترت الأدلة من الكتاب والسُّنَّة في الأمر بالاعتصام بكتاب الله، وسُنَّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، تصديقًا لأخبارهما، وطاعة لأوامرهما، وكفًّا عن نواهيهما، وردًّا عند التنازع إليهما، ومن ذلك:
1 ـ قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران] .
2 ـ وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا *} [النساء] .
3 ـ وقوله: {فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ *} [الحج]
4 ـ وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *} [النساء] .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي: إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله».
وهذا أمر من الله عزّ وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسُّنَّة، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] ، فما حكم به كتاب الله وسُنَّة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ}؛ أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *}.
5 ـ وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ *وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ *} [الأنفال] .
6 ـ وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً *} [الأحزاب] .
7 ـ ولقد وصف الله المؤمنين بتمام استجابتهم وسمعهم وطاعتهم عندما يُدعَون إلى الرد لله وللرسول صلّى الله عليه وسلّم، فقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ *} [النور] .
8 ـ وقد ذمَّ الله المنافقين بتركهم لهذا الأصل، وصدودهم عن الرد إلى الله والرسول، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا *وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا *} [التوبة] ... إلى قوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [التوبة] .
9 ـ وروى مالك في «الموطأ»؛ أنه بلغه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسُنَّة نبيّه»[1].
قال ابن عبد البر عن هذا الحديث: «وهذا أيضًا محفوظ معروف مشهور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عند أهل العلم شهرةً يكاد يستغني بها عن الإسناد، وروي في ذلك من أخبار الآحاد أحاديث من أحاديث أبي هريرة وعمرو بن عوف...» ثم روى بسنده حديثًا «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني قد خلفت فيكم اثنتين لن تضلوا بعدهما أبدًا: كتاب الله وسُنَّتي»»[2].
كما أن إجماع الأمة قد دلَّ على هذا الأصل، وقد سبق تقرير ذلك، وقد أشار الإمام الشافعي رحمه الله إلى هذا الإجماع، حيث قال: «ولا أعلم من الصحابة ولا من التابعين أحدًا أُخبِر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا قَبِلَ خبرَه، وانتهى إليه، وأَثْبَتَ ذلك سُنَّةً»[3].
إلى أن قال: «وصنع ذلك الذين بعد التابعين، والذين لقيناهم، كلهم يثبت الأخبار ويجعلها سُنَّة، يُحمَد من تبعها ويُعاب من خالفها، فمن فارق هذا المذهب كان عندنا مفارق سبيل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وأهل العلم بعدهم إلى اليوم، وكان من أهل الجهالة» انتهى.
[1] الموطأ (كتاب القدر، رقم 3338) [مؤسسة زايد بن سلطان، ط1]، وفي سنده انقطاع، لكن له شاهد من حديث ابن عباس عند الحاكم (كتاب العلم، رقم 318)، وقد قوَّاه به الألباني في السلسلة الصحيحة (4/10).
[2] التمهيد (24/331) [طبعة وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، 1387هـ]. وأخرجه أيضا البزار في مسنده (15 / 385) [مكتبة العلوم والحكم، ط1]، والحاكم (كتاب العلم، رقم 319). قال الهيثمي: فيه صالح بن موسى الطلحي، وهو ضعيف. مجمع الزوائد (9 / 163) [مكتبة القدسي].
[3] الأم للشافعي (2/151)، وانظر: مفتاح الجنة للسيوطي (54) [تحقيق: أشرف عبد المقصود].
قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: «السُّنَّة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق»[1].
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: «آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله»[2].
وقال ابن عبد البر رحمه الله: «ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصًا في كتاب الله، أو صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له، ولا يناظر فيه»[3].
قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: «إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسُّنَّة»[4].
وقال أبو القاسم الجنيد رحمه الله: «عِلْمنا هذا مقيد بالكتاب والسُّنَّة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا» أو قال: «لا يقتدى به»[5].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «على كل مسلم أن ينظر فيما أمر الله به ورسوله فيفعله، وما نهى الله عنه ورسوله فيتركه، هذا هو طريق الله وسبيله ودينه، الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين»[6].
وقال رحمه الله حاكيًا الإجماع على هذا الأصل: «بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء، أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله، وموافقته لأمره ونهيه»[7].
وقال: «فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشايخ السلف... فهم لا يسوغون للسالك ـ ولو طار في الهواء أو مشى على الماء ـ أن يخرج عن الأمر والنهى الشرعيين، بل عليه أن يفعل المأمور، ويدع المحظور إلى أن يموت، وهذا هو الحق الذي دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة وإجماع السلف»[8].
[1] ذكره الزواوي في مناقب مالك (148) [مكتبة طيبة، ط1، 1411هـ]، والسيوطي في مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسُّنَّة (129) [دار الهدي النبوي، الكويت].
[2] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (4/2) (6/354).
[3] جامع بيان العلم وفضله (2/96).
[4] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (11/210)، والصفدية (1/253) [دار الفضيلة، 1421هـ]، ومدارج السالكين لابن القيم (3/142).
[5] مجموع الفتاوى (11/210)، والصفدية (1/254)، ومدارج السالكين (3/142).
[6] مجموع الفتاوى (11/26).
[7] المصدر السابق (11/214)
[8] المصدر السابق (10/516 ـ 517).
الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة والردُّ إليهما يثمر ثمرات عظيمة، ومنها:
1 ـ تحقيق الإيمان التام بالله واليوم الآخر.
2 ـ الاهتداء التام إلى الحق التام، والعصمة من الضلال، قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ *} [النور] . وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] .
قال ابن القيم رحمه الله: «ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه ولم يكن كافيًا = لم يأمر بالرد إليه؛ إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فضل النزاع»[1].
3 ـ نيل الخيرية المطلقة، والعاقبة الحسنة.
4 ـ الفوز برحمة الله.
5 ـ الفوز العظيم بثواب الله وجناته، والنجاة من أليم عقابه، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا *} [الأحزاب] ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا *} [النساء] .
6 ـ السلامة من الاختلاف والنزاع والشقاق، وتحقيق الجماعة والألفة، ونبذ الفرقة والاختلاف، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ *} [الأنفال] ، وذلك أن الناس «متى تركوا الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة فلا بد أن يختلفوا، فإن الناس لا يفصل بينهم إلا كتاب منزل من السماء، كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [البقرة] »[2].
7 ـ السلامة من الفتنة والعذاب الأليم، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *} [النور] .
8 ـ أن الرجوع فيما تنازع فيه الأئمة الأعلام إلى الكتاب والسُّنَّة، وجعلهما الميزان لصحيح الأقوال وسقيمها، ونبذ التعصب لما سواهما يحقق أمرين:
أ ـ معرفة الحق في المسائل المختلف فيها.
ب ـ تحقيق الاقتداء الصحيح بأئمة الإسلام، حيث إنهم قد أوصوا أتباعهم وتلاميذهم بمتابعة الدليل، وطرح أقوالهم إذا دلَّ الدليل على خلافها[3].
[1] إعلام الموقعين (1/49).
[2] درء التعارض (5/284).
[3] انظر: منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السُّنَّة والجماعة (1/309) [مكتبة الرشد، ط4].
لقد كان تمسك أهل السُّنَّة والجماعة بالكتاب والسُّنَّة، والرد إليهما من أعظم مِنَن الله عليهم، وقد أثمر لديهم ذلك سلامة منهجهم، واستقامة طريقهم، واجتماع كلمتهم على الحق والهدى
قال قوام السُّنَّة الأصبهاني: «السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسُّنَّة، وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدعة أخذوا الدين من المعقولات والآراء، فأورثهم الافتراق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما يختلف، وإن اختلف في لفظ أو كلمة فذلك اختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه، وأما دلائل العقل فقلما تتفق، بل عقل كل واحد يري صاحبه غير ما يرى الآخر، وهذا بيِّن والحمد لله»[1].
وقال ابن تيمية: «وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم ـ يعني: أهل السُّنَّة ـ: اعتصامُهم بالكتاب والسُّنَّة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يُقبل من أحد قطُّ أن يعارض القرآن، لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق وأن القرآن يهدى للتي هي أقوم»[2].
[1] الحجة في بيان المحجة (2/241).
[2] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (13/28).
1 ـ «الإحكام في أصول الأحكام»، لابن حزم.
2 ـ «الاعتصام بحبل الله بين الواقع والمبشرات»، لمحمود هاشم عنبر.
3 ـ «إعلام الموقعين»، لابن القيم.
4 ـ «جامع بيان العلم وفضله»، لابن عبد البر.
5 ـ «الحجة في بيان المحجة»، لقوام السُّنَّة.
6 ـ «درء تعارض العقل والنقل»، لابن تيمية.
7 ـ «ذم التأويل»، لابن قدامة.
8 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز.
9 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
10 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيم.
11 ـ «مفتاح الجنة في الاعتصام بالسُّنَّة»، للسيوطي.
12 ـ «منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السُّنَّة والجماعة»، لعثمان بن علي حسن.