قال الخليل بن أحمد: «فطَر الله الخلق؛ أي: خَلَقهم، وابتدأ صِنعة الأشياء، وهو فَاطِر السماوات والأرض، والفِطْرة التي طبعت عليها الخليقة من الدين، فَطرهم الله على معرفته بربوبيته، وانْفطر الثوب وتَفَطر؛ أي: انشق، وتَفَطرت الجبال والأرض: انصدعت»[1].
وقال الجوهري: «والفِطْرة بالكسر: الخلقة، وقد فَطره يفْطُرُه بالضم فطرًا؛ أي: خلقه. والفَطْر أيضًا: الشق، يقال: فَطَرته فانفطر، وتفَطَّر الشيء: تشقق، والفَطْر: الابتداء والاختراع، قال ابن عباس رضي الله عنه: كنت لا أدري ما فاطر السماوات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي: أنا ابتدأتها»[2][3].
وعلى هذا فلفظ (فطر) يدور معناه على الشق والابتداء والخلق.
[1] العين (7/418) [مكتبة الهلال].
[2] أخرجه الطبري في تفسيره (11/283) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ]، وفي سنده ضعف. وهو عند البيهقي قي الأسماء والصفات (1/78) [مكتبة السوادي، ط1]، وفيه: «أنا فطرتها؛ يريد: استحدثت حفرها».
[3] الصحاح (2/781) [دار العلم للملايين، ط3]. وانظر: العين (7/417، 418)، ولسان العرب (5/55 ـ 58) [دار صادر]، والمصباح المنير (2/476، 477) [دار القلم].
القول الراجح في تعريف الفطرة أنها الإسلام، وليس معنى هذا أن الإنسان لما يولد يعرف الإسلام بتفاصيله، بل الفطرة هي القوة العلمية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع، وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة والقَبول للعقائد الصحيحة[1]. والقول بأن الفطرة هي الإسلام هو قول عامة السلف[2].
[1] انظر: مجموع الفتاوى (4/245 ـ 247) [مكتبة النهضة الحديثة، 1404هـ].
[2] انظر: التمهيد لابن عبد البر (18/72) [وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، 1387هـ]، ودرء التعارض (8/373) [مكتبة ابن تيمية]، وشفاء العليل (285) [مكتبة الرياض الحديثة، ط1، 1323هـ]، وأحكام أهل الذمة (2/535) [دار العلم للملايين، ط3، 1983م]، وفتح الباري (3/248) [دار الفكر].
أدلة القول بأن الفطرة هي الإسلام كثيرة؛ منها[1]:
1 ـ حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء ، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية [الروم] »[2]، وذكروا عن عكرمة، ومجاهد، والحسن، وإبراهيم، والضحاك، وقتادة، في قول الله عزّ وجل: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] ، قالوا: فطرة الله، دين الله الإسلام.
2 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خمس من الفطرة» [3]؛ يعني: فطرة الإسلام.
3 ـ ألفاظ الحديث التي في الصحيح مثل قوله: «على الملة»، و«على هذه الملة»[4].
4 ـ قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث عياض بن حمار رضي الله عنه: «خلقت عبادي حنفاء كلهم»[5].
[1] انظر: التمهيد لابن عبد البر (18/72)، ودرء التعارض (8/367 ـ 371)، وشفاء العليل (285).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الجنائز، رقم 1358)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2658).
[3] أخرجه البخاري (كتاب اللباس، رقم 5889)، ومسلم (كتاب الطهارة، رقم 257).
[4] الروايتان أخرجهما مسلم (كتاب القدر، رقم 2658).
[5] جزء من حديث أخرجه مسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2865).
اختلف العلماء في معنى الفطرة على عدة أقوال، وقد سبق ذكر القول الراجح، ومن هذه الأقوال:
القول الأول: أن الفطرة هي الإقرار بمعرفة الله تعالى، وهي العهد الذي أخذه عليهم في أصلاب آبائهم، حين مسح ظهر آدم فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم، قالوا بلى، فليس أحد إلا وهو يقر بأن له صانعًا ومدبرًا وإن سمَّاه بغير اسمه، قال عزّ وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] فكل مولود يولد على ذلك الإقرار[1].
القول الثاني: أن الله فطرهم على الإنكار والمعرفة، وعلى الكفر والإيمان[2].
القول الثالث: أن الفطرة هي الإسلام لكنها خاصة بالمؤمنين؛ لأنه لو فطر الناس جميعًا على الإسلام لما كفر أحد منهم، وهذا خلاف ما دلَّت عليه النصوص من أنه عزّ وجل خلق أقوامًا للنار، وأن غلام الخضر طبع كافرًا[3].
القول الرابع: أن الفطرة هي الخلقة التي خلق عليها المولود، من المعرفة بربه، فكأنه قال: كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه، إذا بلغ مبلغ المعرفة، يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم، التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك، ومثل هذا القول من قال: المراد بالفطرة، أن كل مولود يولد على السلامة خلقة، وطبعًا، وبنية، ليس معها كفر ولا إيمان، ولا معرفة ولا إنكار، ثم يعتقد الكفر أو الإيمان بعد البلوغ[4].
القول الخامس: الفطرة؛ يعني: البدأة التي ابتدأهم عليها، من أنه ابتدأهم للحياة والموت، والسعادة والشقاء، وإلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم عن آبائهم اعتقادهم[5].
[1] انظر: تأويل مختلف الحديث (73 ـ 95) [مؤسسة الكتب الثقافية، ط1]، والتمهيد لابن عبد البر (18/90 ـ 91)، ودرء التعارض (8/359 ـ 360)، شفاء العليل (283)
[2] انظر: التمهيد لابن عبد البر (18/88)، وشفاء العليل (293)، أحكام أهل الذمة (2/575 ـ 576).
[3] انظر: تفسير القرطبي (14/26) [دار الكاتب العربي، 1387هـ].
[4] انظر: التمهيد لابن عبد البر (18/68 ـ 70)، ودرء التعارض (8/442)، وشفاء العليل (289 ـ 299)، وأحكام أهل الذمة (2/568 ـ 569).
[5] انظر: التمهيد (18/78)، درء التعارض (8/386)، وشفاء العليل (284)، أحكام أهل الذمة (2/569).
ـ دليل الفطرة:
الفطرة دليل من أدلة التوحيد التي غرسها الله عزّ وجل في بني آدم وخلقهم عليها، فهي توجه العبد إلى إفراد الرب عزّ وجل بالربوبية والألوهية، إلا أن هذه الفطرة قد تتغير بما يؤثر عليها من التنشئة على الشرك، وما يحيط بها من الشبهات والشهوات.
مذهب المخالفين:
ذهب المعتزلة ونحوهم من المتكلمين إلى أنه لم يولد أحد على الإسلام أصلاً، ولا جعل الله أحدًا مسلمًا ولا كافرًا، ولكن هذا أحدث لنفسه الكفر، وهذا أحدث لنفسه الإسلام؛ بلا نزاع بين القدرية، ولكن هو دعاهما إلى الإسلام، وأزاح علتهما، وأعطاهما قدرة متماثلة فيهما، تصلح للإيمان والكفر، ولم يختص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان، فإن ذلك عندهم غير مقدور، ولو كان مقدورًا لكان ظلمًا، وهذا قول عامة المعتزلة.
الثاني: أنهم يقولون: إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل، فيستحيل أن تكون المعرفة عندهم ضرورية، أو تكون من فعل الله عزّ وجل[1].
الرد عليهم:
يرد عليهم بحديث الفطرة السابق، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه...» [2]. والروايات التي وضَّحت معناه. ويرد عليهم بحديث عياض بن حمار: «خلقت عبادي حنفاء كلهم...»[3]. وفيه تصريح بأن الله فطرهم على الحنيفية وهي الإسلام.
فيقال لهم أنتم تقولون إنه لا يقدر لا الله، ولا أحد من مخلوقاته على أن يجعلهما يهوديين، أو نصرانيين، أو مجوسيين، بل هما فَعَلا بأنفسهما ذلك بلا قدرة من غيرهما[4]، وحديث الفطرة يبطل قولكم، ويبين أثر الوالدين، كما أنه يدل على أن معنى الفطرة هي الإسلام.
وأهل السُّنَّة متفقون على أن غير الله لا يقدر على جعل الهدى أو الضلال في قلب أحد، فقد اتفقت الأمة على أن المراد في حديث الفطرة دعوة الأبوين ابنهما إلى عقيدتهما، وتربيتهما عليه، ونحو ذلك مما يفعل المعلم، والمربي مع من يعلمه ويربيه، وذكر الأبوين بناء على الغالب[5].
وأما قولهم: إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل، فهو قول لا دليل عليه من النقل أو العقل، بل الأدلة الشرعية السابقة تبطله، والنظر المقصود هو النظر في طريقة الأعراض، والتركيب، ونحو ذلك من الطرق المبتدعة وهو طريق باطل، غير موصل للمقصود. فالرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر أحدًا بهذه الطرق، ولا علق إيمانه، ومعرفته بالله، بهذه الطرق، بل القرآن وصف بالعلم، والإيمان، من لم يسلك هذه الطرق، ولما ابتدع بعض هذه الطرق من ابتدعها، أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها، ووسموا هؤلاء بالبدعة والضلالة[6].
[1] انظر: درء التعارض (8/378)، شفاء العليل (288).
[2] سبق تخريجه.
[3] سبق تخريجه.
[4] انظر: درء تعارض العقل والنقل (8/379).
[5] انظر: المرجع السابق (8/379).
[6] انظر: المرجع السابق (8/12) بتصرف.
1 ـ «أحكام أهل الذمة» (ج2)، لابن القيم.
2 ـ «الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بتوحيد الربوبية، جمع ودراسة»، لآمال العمرو [رسالة د كتوراه].
3 ـ «إيثار الحق على الخلق»، لابن الوزير.
4 ـ «التمهيد» (ج18)، لابن عبد البر.
5 ـ «جامع البيان» (ج20)، لابن جرير الطبري.
6 ـ «درء تعارض العقل والنقل» (ج8)، لابن تيمية.
7 ـ «شفاء العليل»، لابن القيم.
8 ـ «العقيدة والفطرة في الإسلام»، لصابر طعيمة.
9 ـ «الفطرة: حقيقتها ومذاهب الناس فيها»، لعلي القرني.
10 ـ «الفطرة والعقيدة الإسلامية»، لحافظ الجعبري، [رسالة ماجستير].