حرف القاف / القبر

           

قال ابن فارس: «القاف والباء والراء أصل صحيح يدل على غموض في شيء وتطامن»[1]. والقبر: مدفن الإنسان، يقال: قبَر الميت إذا دفنه، والقبر: حفرة في الأرض يوارى فيها الميت، وجمعه: قبور، والمقبرة، بفتح الباء وضمها: موضع القبور[2].


[1] مقاييس اللغة (5/47) [دار الفكر، ط 1399هـ].
[2] انظر: تهذيب اللغة (9/119) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م]، والقاموس المحيط (458) [مؤسسة الرسالة، ط8، 1426هـ]، ولسان العرب (5/68) [دار صادر، ط3، 1414هـ].


القبر : هو مكان دفن الأموات في الأرض، وأول منازل الآخرة، وفيه الحياة البرزخية، والميت فيه إما معذب وإمّا مُنعَّم[1].


[1] انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (4/4) [المكتبة العلمية، 1399هـ]، وفتح الباري لابن حجر (11/451) [دار المعرفة، 1379هـ].


من الأسماء التي تطلق على القبر:
الضريح، ومنها: الرَّمْس، ومنها: الكُدى، ومنها: اللَّحد، ومنها: التربة، ومنها: الجَدَث[1].


[1] انظر: المخصص لابن سيده (2/78) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 1417هـ]، والنهاية في غريب الحديث (4/156)، والمصباح المنير (1/73) [المكتبة العلمية].


أجمع العلماء على وجوب إيجاد المقابر في بلاد المسلمين ودفن أمواتهم فيها، قال ابن المنذر: «لم يختلف من أحفظ عنه من أهل العلم أن دفن الموتى واجب لازم على الناس، لا يسعهم ترك ذلك عند الإمكان، ووجود السبيل إليه، ومن قام به سقط فرض ذلك عن سائر المسلمين»[1].


[1] الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (5/450) [دار طيبة، ط1، 1405هـ].


قال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ *} [عبس] ، وقال تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] ، وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ *} [يس] .
ومن السُّنَّة: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الذي لدغته الحية، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: «اذهبوا فادفنوا صاحبكم»[1].
وحديث هشام بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال يوم أحد: «احفروا، وأوسعوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في القبر، وقدموا أكثرهم قرآنًا» [2]. وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار، ولا تبكي، وتبكي من هذا؟ قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه، فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه، فما بعده أشد منه» . قال: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما رأيت منظرًا قط إلا والقبر أفظع منه»[3].


[1] أخرجه مسلم (كتاب السلام، رقم 2236).
[2] أخرجه أبو داود (كتاب الجنائز، رقم 3215)، والترمذي (أبواب الجهاد، رقم 1713) وقال: حسن صحيح، والنسائي (كتاب الجنائز، رقم 2010)، وأحمد (26/183) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1421هـ]، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (142 ـ 143) [المكتب الإسلامي، ط4، 1406هـ].
[3] أخرجه الترمذي (أبواب الزهد، رقم 2308) وحسنه، وابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4267)، وعبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (1/503) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب الرقاق، رقم 7942) وصححه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (رقم 1684) [المكتب الإسلامي].


قال الإمام مالك: «لم يبلغني في عمق قبر الميت شيء موقوف عليه، وأحب إليّ أن لا يكون عميقًا جدًّا، ولا قريبًا من أعلى الأرض جدًّا»[1].
وقال الإمام الشافعي: «وأحب أن لا يزاد في القبر تراب من غيره، وليس بأن يكون فيه تراب من غيره بأس، إذا زيد فيه تراب من غيره ارتفع جدًّا، وإنما أحب أن يشخص على وجه الأرض شبرًا أو نحوه»[2].
وقال ابن القيم: «وكانت قبور أصحابه لا مشرفة، ولا لاطئة، وهكذا كان قبره الكريم، وقبر صاحبيه، فقبره صلّى الله عليه وسلّم مُسنَّم مبطوح ببطحاء العرصة الحمراء لا مبني ولا مطيّن، وهكذا كان قبر صاحبَيه»[3].


[1] الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (5/454).
[2] الأم للشافعي (1/316) [دار المعرفة، ط 1410هـ].
[3] زاد المعاد في هدي خير العباد (1/505).


المسألة الأولى: الدعاء عند القبر:
إن الدعاء عند القبور غير مشروع سواء كان القبر قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أو غيره، وليست محلًّا للإجابة، وإنما المشروع زيارتها والسلام على الموتى والدعاء لهم، وذكر الآخرة والموت، كما دلَّت النصوص على ذلك.
ولم يكن في الصحابة والتابعين والأئمة من يقول: إن الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والصالحين، ولا إن دعاء الإنسان عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل من دعائه في غير تلك البقعة[1].
والأمور المبتدعة عند القبور مراتب:
المرتبة الأولى: أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به ـ كما يفعله كثير من الناس ـ فهو من جنس عباد الأصنام، وشرك أكبر يخرج صاحبه من الإسلام.
المرتبة الثانية: أن يسأل الله عزّ وجل به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين وهو بدعة باتفاق المسلمين.
الثالثة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد؛ فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه، فهذا أيضًا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعًا بين أئمة المسلمين[2].
المسألة الثانية: البناء على القبر:
لقد جاءت الشريعة الغراء بسد كل طريق موصل إلى الشرك والغلو في الصالحين والأموات، ومن ذلك أنها نهت عن رفع القبور، وتجصيصها، والبناء عليها، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أعيادًا وغير ذلك من صور تعظيم القبور؛ لأن هذه الأمور تعد ذريعة من ذرائع الشرك ووسيلة من وسائله؛ ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بالتحذير والنهي عن فعلها؛ لكونها وسيلة مفضية إلى عبادة المقبورين من دون الله تعالى. وقد أمر الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبا الهياج الأسدي بإزالة كل قبر شاهق، فقال: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ «أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبًرا مشرفًا إلا سويته»[3]. قال الشوكاني: «اعلم أنه قد اتفق الناس، سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضوان الله عنهم إلى هذا الوقت: أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لفاعلها، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين»[4].
المسألة الثالثة: الكتابة على القبر[5]:
الكتابة على القبر منهي عنها، سواء كتابة الآيات أو الأسماء أو تاريخ الوفاة ونحو ذلك؛ لما جاء عن جابر رضي الله عنه قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ»[6]. وفي رواية قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكتب على القبر شيء»[7]. فالكتابة على القبر من الأمور المحدثة التي لم يكن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يفعلوها، بل هي من الوسائل والذرائع التي يستدرج بها الشيطان الناسَ لتعظيم القبور واتخاذها أوثانًا تُعبد من دون الله تعالى.
وأما تعليم القبر بعلامة من حجر ونحوه، فجائز عند جمهور العلماء؛ لحديث المطلب عن بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: لما مات عثمان بن مظعون، أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بحجر فوضعه عند رأسه، وقال: «أتعلَّم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي»[8].
المسألة الرابعة: دفن الميت في المسجد:
لا يجوز أن تُجعل المساجد أماكنَ دفنٍ للأموات، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»[9].
قال الزين العراقي: «فلو بنى مسجدًا بقصد أن يدفن في بعضه دخل في اللعنة، بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه لم يصح الشرط لمخالفته لمقتضى وقفه مسجدًا»[10]. وإذا دُفن المسلم في المسجد فإنه ينبش ويدفن في المقبرة.
قال ابن تيمية: «لا يجوز دفن ميت في مسجد، فإن كان المسجد قبل الدفن غُيّر؛ إما بتسوية القبر وإما بنبشه إن كان جديدًا. وإن كان المسجد بني بعد القبر: فإما أن يزال المسجد وإما أن تزال صورة القبر فالمسجد الذي على القبر لا يصلى فيه فرض ولا نفل فإنه منهي عنه»[11].
المسألة الخامسة: الصلاة عند القبر:
أجمع الأئمة من أهل السُّنَّة والجماعة على أن الصلاة عند القبور منهي عنها[12]، وقد لعن النبي صلّى الله عليه وسلّم من اتخذ القبور مساجد. فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها. وقد تواترت النصوص عن النبي عليه الصلاة والسلام بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه.
وإذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركًا بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دينٍ لم يأذن به الله تعالى. ولم يكن في الصحابة والتابعين والأئمة من يتحرى الصلاة عند القبر، ولم يقل أحدٌ منهم: إن الصلاة عند القبر أفضل من الصلاة في غيرها[13].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (27/115 ـ 117) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، ط 1416هـ].
[2] انظر: المستدرك على مجموع الفتاوى (1/22) [ط1، 1418هـ]. وانظر: إغاثة اللهفان (1/217، 218) [دار المعرفة، ط2، 1395هـ].
[3] أخرجه مسلم (كتاب الجنائز، رقم 969).
[4] شرح الصدور بتحريم رفع القبور (8) [الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط4، 1408هـ]. وانظر: المدونة (1/263) [دار الكتب العلمية، ط1، 1415هـ]، والمغني (2/378)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (2/626، 627) [دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، ط1، 1417هـ].
[5] انظر: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل للرُّعيني المالكي [دار الفكر، ط3، 1412هـ]، والمجموع شرح المهذب (5/282، 298)، والمغني (2/376)، وإغاثة اللهفان (1/196)، ونيل الأوطار (4/104) [دار الحديث، ط1، 1413هـ]، والمدخل (مدخل الشرع الشريف على المذاهب) (3/272) [دار التراث، القاهرة]، والدرر السنية في الأجوبة النجدية (5/136 ـ 137) [ط6، 1417هـ]، ومجموع فتاوى ابن باز (4/337).
[6] أخرجه أبو داود (كتاب الجنائز، رقم 3226)، والترمذي (أبواب الجنائز، رقم 1052) وقال: حسن صحيح، والنسائي (كتاب الجنائز، رقم 2027)، والحاكم (كتاب الجنائز، رقم 1369) وصححه، وصححه الألباني أيضًا في الإرواء (3/208) [المكتب الإسلامي، ط2].
[7] أخرجه ابن ماجه (كتاب الجنائز، رقم 1563)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 6843).
[8] أخرجه أبو داود (كتاب الجنائز، رقم 3206)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (كتاب الجنائز، رقم 6744)، وحسنه النووي في الخلاصة (2/1010) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 3060) [مكتبة المعارف، ط1، 1415هـ].
[9] أخرجه البخاري (كتاب الصلاة، رقم 435)، ومسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 531).
[10] ذكره المناوي في فيض القدير (5/274).
[11] مجموع الفتاوى (22/195).
[12] انظر: الأوسط لابن المنذر (2/184، 185).
[13] انظر: مجموع الفتاوى (27/115 ـ 117)، وإغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (1/185).


1 ـ «الأحاديث الواردة في القبور أحاديث الدفن وتوابعه جمعًا وتخريجًا ودراسة»، لصلاح العيسى.
2 ـ «أحكام المقابر في الشريعة الإسلامية»، لعبد الله السحيباني.
3 ـ «اقتضاء الصراط المستقيم»، لابن تيمية.
4 ـ «بدع القبور: أنواعها وأحكامها»، لصالح بن مقبل العصيمي.
5 ـ «بدع القبور وحكمها»، لمحمد درامن.
6 ـ «شرح الصدور ببيان بدع الجنائز والقبور»، لعبد الله بن محمد الحمادي.
7 ـ «شرح الصدور بتحريم رفع القبور»، للشوكاني.
8 ـ «شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور»، لمرعي الكرمي.
9 ـ «عمارة القبور»، لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي.
10 ـ «من بدع القبور»، لمحمد بن عبد الله الحميدي.