القبول هو : تلقي الشيء ومواجهته والإقبال عليه ولزومه والأخذ به راضيًا به مستحسنًا له.
قال ابن فارس: «القاف والباء واللام: أصل واحد صحيح تدل كَلِمُه كلها على مواجهة الشيء للشيء، ويتفرع بعد ذلك... والقِبلة سميت قِبلة؛ لإقبال الناس عليها في صلاتهم، وهي مقبلة عليهم أيضًا... والقبيل: الكفيل؛ يقال: قبل به قَبالة، وذلك أنه يقبل على الشيء يضمنه»[1].
والقَبول : التلقي. قال الجوهري: «والقابلة من النساء معروفة. يقال: قبلت القابلة المرأة تقبلها قبالة؛ إذا قبلت الولد؛ أي: تلقته عند الولادة، وكذلك قبل الرجل الدلو من المستقي قبولاً، فهو قابل. والقبيل والقبول: القابلة»[2].
وقال الفيروزآبادي: «وقَبَل على الشيء وأقبل: لزمه وأخذ فيه...والقبول: الحُسن والشارة»[3].
[1] مقاييس اللغة (5/51، 52) [دار الجيل، 1420هـ]. وانظر: تهذيب اللغة (9/162) [الدار المصرية للتأليف والترجمة، ط، 1384هـ].
[2] الصحاح (5/1796) [دار العلم للملايين، ط4].
[3] القاموس المحيط (1045، 1046) [مؤسسة الرسالة، ط7، 1424هـ].
قبول دين الإسلام وما جاء فيه من أخبار وأحكام فرض واجب على جميع الثقلين الإنس والجن؛ لأنه الدين الذي ارتضاه الله لخلقه دينًا، وخلقهم لأجل تحقيقه والسير على منهاجه كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *} [الذاريات] ، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ *} [آل عمران] . فمن لم يقبل دين الله وما جاء فيه فإنه كافر بالله العظيم، وهو في الآخرة من الخاسرين، كما أوضح الله ذلك في كتابه وسُنَّة نبيِّه الكريم، فقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} [آل عمران] ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلاَّ كان من أصحاب النار»[1].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 153).
حقيقة القَبول هو: حقيقة الالتزام والتدين بالإسلام والإيمان الصادق، فإن الإيمان الصادق هو الذي يستلزم الإذعان التام والقبول والتسليم لحكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، والإيمان الكاذب بخلاف ذلك[1].
وضد القَبول: الرد، والإباء، وترك الالتزام، والامتناع. ولذلك أسباب متعددة، مثل: التكذيب، الاستكبار، الحسد وغيرها[2].
[1] انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد (484) [دار ابن الجوزي، ط2، 1424هـ].
[2] انظر: شرح العمدة لابن تيمية (2/52)، والدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/360).
القَبول لدين الإسلام والانقياد له والرضا به «هو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان؛ فيجب على العبد أن يكون راضيًا به بلا حرج ولا منازعة ولا معارضة ولا اعتراض. قال الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [النساء] ، فأقسم: أنهم لا يؤمنون حتى يحكِّموا رسوله، وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليمًا. وهذا حقيقة الرضا بحكمه. فالتحكيم: في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج: في مقام الإيمان، والتسليم: في مقام الإحسان.
ومتى خالط القلب بشاشة الإيمان، واكتحلت بصيرته بحقيقة اليقين، وحيي بروح الوحي، وتمهدت طبيعته، وانقلبت النفس الأمارة مطمئنة راضية وادعة، وتلقَّى أحكام الرب تعالى بصدر واسع منشرح مسلم: فقد رضي كل الرضا بهذا القضاء الديني المحبوب لله ولرسوله»[1].
[1] مدارج السالكين (2/241، 242) [مكتبة الرشد، ط1، 1426هـ].
قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ *وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ *} [الصافات] .
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ *} [الروم] .
وقال عزّ وجل: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ *وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ *وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ *أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ *} [النور] .
ومن السُّنَّة حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن مثل ما بعثني الله به عزّ وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»[1].
وعن عثمان رضي الله عنه قال: توفى الله عزّ وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم قبل أن نسأله عن نجاة هذا الأمر. قال أبو بكر: قد سألته عن ذلك. قال: فقمت إليه فقلت له: بأبي أنت وأمي أنت أحق بها. قال أبو بكر: قلت يا رسول الله ما نجاة هذا الأمر؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قبل مني الكلمة التي عرضت على عمِّي فردَّها عليَّ فهي له نجاة»[2].
[1] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 79)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2282).
[2] أخرجه أحمد (1/201) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1416هـ]، والبزار (1/56) [مكتبة العلوم والحكم، ط1]، قال الهيثمي: وفيه رجل لم يُسَمَّ. مجمع الزوائد (1/14) [مكتبة القدسي]، لكن المرفوع منه له شواهد، كما ذكر محققو المسند. والله أعلم.
قال ابن شهاب الزهري رحمه الله: «من الله الرسالة، وعلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البلاغ، وعلينا التسليم»[1].
وقال الشافعي رحمه الله: «وإذا ثبت عن رسول الله الشيء فهو اللازم لجميع من عرفه، لا يقويه ولا يوهنه شيء غيره؛ بل الفرض الذي على الناس اتباعه، ولم يجعل الله لأحد معه أمرًا يخالف أمره»[2].
وقال ابن بطة العكبري رحمه الله: «اعلموا رحمكم الله أن من صفات المؤمنين من أهل الحق تصديق الآثار الصحيحة، وتلقيها بالقبول، وترك الاعتراض عليها بالقياس ومواضعة القول بالآراء والأهواء، فإن الإيمان تصديق والمؤمن هو المصدق. قال الله عزّ وجل: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [النساء] . فمن علامات المؤمنين أن يصفوا الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلّى الله عليه وسلّم مما نقلته العلماء ورواه الثقات من أهل النقل الذين هم الحجة فيما رووه من الحلال والحرام والسُّنن والآثار، ولا يقال فيما صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف؟ ولمَ لا؟ بل يتبعون ولا يبتدعون، ويسلِّمون ولا يعارضون، ويتيقّنون ولا يشكُّون ولا يرتابون»[3].
[1] أخرجه البخاري تعليقًا (كتاب التوحيد، ص1438). وقال: «قال الزهري»، وما جزم به البخاري في صحيحه من الموقوفات فهو صحيح عنده ولو لم يكن على شرطه في الصحيح. انظر: هدي الساري (24)، وقد وصله الحافظ في تغليق التعليق (5/365).
[2] الرسالة (360) [دار التراث، ط3، 1426هـ].
[3] الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (3/91) [دار الراية، ط1، 1418هـ].
ـ قَبول الله تعالى لأعمال عباده:
القَبول يكون من العبد، فيقبل دين الله سبحانه ويستقيم عليه حتى يلقاه، وجزاء قبوله هذا قبول الله له ولعمله؛ كما قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ *} [التوبة] .
قال العلاَّمة عبد الرزاق عفيفي رحمه الله: «القَبول: قبول الله تعالى للعبادة، وقبول العبد الدين وهو الانقياد»[1].
وإذا لم يحقق العبد قبول الإيمان بشروطه من الإخلاص والصدق والرضا والانقياد والطاعة لم يتحقق له قبول الرب سبحانه لعمله، كما في قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ *} [التوبة] .
[1] فتاوى ورسائل الشيخ عبد الرزاق عفيفي ـ قسم العقيدة (1/358).
الفرق بين شرط القبول وشرط الانقياد:
«الانقياد هو الاتباع بالأفعال، والقبول إظهار صحة معنى ذلك بالقول، ويلزم منهما جميعًا الاتّباع، ولكن الانقياد هو الاستسلام والإذعان، وعدم التعقب لشيء من أحكام الله»[1].
وكلمة (الرضا) تجمع بين هذين الشرطين (القبول والانقياد) لشهادة أن (لا إله إلا الله)، بل الرضا أعلى منهما وأشمل[2].
[1] الشهادتان معناهما وما تستلزمه كل منهما لابن جبرين (81) [دار طيبة، ط1، 1410هـ].
[2] انظر: ظاهرة الإرجاء (2/562).
من ثمرات القبول لدين الله سبحانه وأحكامه:
1 ـ الإتيان بلازم هذا القبول من الانقياد والعمل والتمسك بشعائر الإسلام وأحكامه، وبالتالي الترقي إلى مرتبة الإيمان ثم مرتبة الإحسان.
2 ـ الفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة؛ لأن من يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
3 ـ قبول الله للعبد ولعمله ورضاه عنه وإثابته له أحسن الثواب وأعظم الجزاء.
4 ـ محبة الله عزّ وجل لعبده المثمرة محبة أهل السماء وأهل الأرض له، ووضع القبول له كما جاء في الحديث: عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض»[1].
5 ـ القَبول لكل شيء من أحكام الدين ثابت في القرآن والسُّنَّة وعدم تقديم آراء الرجال عليها تحقيق لكمال الانقياد والتعظيم والأدب مع الله جلّ جلاله، ومع رسوله صلّى الله عليه وسلّم ومع كتابه العظيم القرآن الكريم[2].
[1] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3209)، ومسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2637).
[2] انظر: مدارج السالكين (2/488).
المخالفون في القبول للدين الحق صنفان:
الصنف الأول: المخالفون مخالفة كلية. وهؤلاء هم: جميع الكفار والمشركين ممن لم يقبلوا دين الإسلام ولم يدخلوا فيه، أو دخلوا فيه ثم نقضوه وارتدوا عنه.
الصنف الثاني: المخالفون مخالفة جزئية لا تخرجهم عن أصل الإسلام. وهؤلاء قسمان:
الأول: أتباع الشبهات، وهم: أهل الأهواء والبدع غير المكفرة؛ المقدِّمون لأهوائهم وعقولهم أو آراء متبوعيهم على نصوص القرآن والسُّنَّة، الخارجون بذلك عن طريقة الفرقة الناجية والطائفة المنصورة أهل السُّنَّة والجماعة.
الثاني: أتباع الشهوات، من العصاة أهل الكبائر الذين تغلبهم شهواتهم ونزغات نفوسهم على محاب الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
وأدلة القرآن والسُّنَّة متكاثرة في دعوة هؤلاء وهؤلاء إلى قبول الحق والانقياد له والثبات عليه، وقد تقدم بعضها.
1 ـ «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية» (ج3)، لابن بطة.
2 ـ «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (ج2).
3 ـ «شروط لا إله إلا الله»، لعواد المعتق.
4 ـ «الشهادتان معناهما وما تستلزمه كل منهما»، لابن جبرين.
5 ـ «عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها من الشرك الأكبر والأصغر والتعطيل والبدع وغير ذلك»، للفوزان.
6 ـ «فتح المجيد»، لعبد الرحمن بن حسن.
7 ـ «القول المفيد على كتاب التوحيد»، لابن عثيمين.
8 ـ «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» (ج7)، لابن باز.
9 ـ «مدارج السالكين» (ج2)، لابن القيم.
10 ـ «معارج القبول» (ج2)، لحافظ الحكمي.