الإعجاز: مصدر الفِعل الثلاثي المزيد (أعجزَ)، والعين والجيم والزاي أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على الضَّعْف؛ يُقال: عَجَزَ عن الشيء يعجِز عَجْزًا فهو عاجز؛ أي: ضعيف، ويُقال: أعجزني فلانٌ؛ إذا عَجزتُ عن طلبه وإدراكه، والمُعْجزِة: ما أُعْجِزَ به الخصم عند التَّحدِّي، والهاء للمُبالغة[1].
القرآن: مصدر الفِعل (قرأ) يقرأ قراءةً وقرآنًا؛ أي: تلا وجمعَ وضمَّ بعضَه إلى بعضٍ، سُمّي القرآن بذلك لأنه يجمع السور فيضمها[2].
[1] انظر: الصحاح (3/883) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، ومقاييس اللغة (4/232) [دار الفكر، بيروت، ط2، 1418هـ]، والقاموس المحيط (663) [مؤسسة الرسالة ببيروت، ط5، 1416هـ].
[2] انظر: الصحاح (1/66)، والقاموس المحيط (62).
إعجاز القرآن: هو «إثبات القرآن عجز الخلق عن الإتيان بما تحداهم به»[1]، أو: «ارتقاؤه إلى أن يخرج عن طوق البشر ويعجزهم عن معارضته»[2]؛ بغرض الدلالة على نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم وصدقه وصحة الرسالة واتباعها.
[1] مناهل العرفان للزرقاني (2/331) [مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر، ط3].
[2] الكليات للكفوي (149) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1419هـ]، بتصرف يسير. وانظر: التعريفات للجرجاني (112) [دار الكتاب العربي ببيروت، ط1، 1405هـ]، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (270) [دار الفكر ببيروت، ط1، 1410هـ].
يدور المعنى اللغوي للإعجاز حول: الضعف وعدم القدرة على طلب الشيء وإدراكه، وهذه حقيقة إعجاز القرآن في اصطلاح الشرع؛ فالمقصود من إثباته: إثبات عجز الخلق وضعفهم عن الإتيان بمثله أو ما يقاربه، أو معارضته؛ للدلالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم والرسالة واتباعهما. فيظهر بهذا أن بين المعنى اللغوي والشرعي تناسبًا وتوافقًا واضحًا.
حقيقة الإيمان بإعجاز القرآن: أنه يجب على المسلم أن يعتقد أن محمدًا صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين والمرسلين، ورسول ربّ العالمين إلى جميع الثقلين، أرسله الله عزّ وجل لدعوة الناس جميعًا إلى توحيده ودينه، وأيده ـ بعلمه وقدرته وغناه ـ بما لم يؤيد به نبيًّا قبله من دلائل النبوة الكثيرة المتنوعة؛ الدَّالة على صدق نبوته وصحة رسالته، ومن هذه الدلائل: الآيات والبينات والبراهين، والتي اصطلح المتأخرون على تسميتها بالمعجزات.
وأن القرآن الكريم هو أعظم معجزاته صلّى الله عليه وسلّم، وأبهر آياته، وأَبْين الحجج الواضحات وأدلها على نبوته وصدقه وصحة رسالته، مع أن هذا الكتاب هو رسالته ومضمون دعوته. ويدل على هذا أن المشركين لما تعنتوا وطلبوا آيات حسية تدل على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يجبهم الله تعالى إلى ذلك، وأنكر عليهم عدم اكتفاءهم بأعظم آياته، وهو: القرآن الكريم؛ فقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ *أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ *} [العنكبوت] ؛ فدل هذا على أن القرآن أعظم الآيات، وأبين المعجزات والحجج الواضحات.
فهو الحجة الباقية على الآباد، الذي لا تنقضي عجائبه، «ولا يدرك غاية إعجازه ولا يندرس بمرور الأعصار، ولا يمل مع التكرار؛ بل يجلى مع ذلك ويتجلى، ويعلو على غيره ولا يعلى، وكل معجزة قبله انقضت بانقضاء زمانها ولم يبق إلا تذكارها، وهو كل يوم براهينه في مزيد، ومعجزاته في تجديد، و{لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ *} [فصلت] »[1]، وهو كالبدر يهدي الناس في ظلمات الليل، وكالشمس ضوؤها يغشى مشارق البلاد ومغاربها!
ويعتقد المسلم أيضًا: أن وجه دلالة القرآن على نبوة نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وصحة رسالته: أنه ليس في مقدور أحد ـ كائنًا من كان ـ أن يأتي بهذا القرآن إلا ربُّ العالمين جلّ جلاله؛ فهو كلامه سبحانه، وهو لا يشبهه شيء من خلقه، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله؛ فأنى يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق؟! قال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 37] ؛ والمعنى: لا يكون هذا القرآن إلا من عند الله تعالى، فما كان لأن يفترى من قبل أحد من البشر، «فلم ينف مجرد فعله؛ بل نفى احتمال فعله، وأخبر بأن مثل هذا لا يقع؛ بل يمتنع وقوعه. فيكون المعنى: ما يمكن ولا يحتمل ولا يجوز أن يفترى هذا القرآن من دون الله؛ فإن الذي يفتريه من دون الله مخلوق، والمخلوق لا يقدر على ذلك!»[2].
ولذا، تحدى الله تعالى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله، فقال سبحانه: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *} [الإسراء] ، وقال: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاَ يُؤْمِنُونَ *فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ *} [الطور] ؛ فعجزوا عن ذلك، مع توافر دواعي أعداء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفصحاء البلغاء على معارضته وإبطال قوله، وشدة عدواتهم للدعوة ونبيِّها صلّى الله عليه وسلّم! ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فعجزوا! قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *} [هود] ، ثم تنازل إلى التحدي بسورة من مثله فعجزوا عنه! قال جلّ جلاله: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ *أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [يونس] ، وقطع عليهم أنهم عاجزون ـ ولو تظاهروا وتعاونوا ـ عن معارضته والإتيان بمثله في الحال والاستقبال؛ فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ *} [البقرة] .
وهكذا وقع؛ فإنه من لدن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى زماننا هذا لم ولن يستطيع أحد أن يأتي بنظيره ولا نظير سورة منه! وهم يعلمون عجزهم وتقصيرهم عن ذلك، وأن هذا ما لا سبيل لأحد إليه أبدًا! فالفصاحة كانت من سجاياهم، وكانوا أعلم الخلق بالبلاغة والشعر وقريض الكلام وضروبه؛ فأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب، لكن جاءهم من الله ما لا قبل لأحد من البشرية به! ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته وجزالته؛ «فكانوا أعلم الناس به وأفهمهم له، وأتبعهم له، وأشدهم له انقيادًا، كما عرف السحرة ـ لعلمهم بفنون السحر ـ أن هذا الذي فعله موسى عليه السلام لا يصدر إلا عن مؤيد مسدد مرسل من الله، وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله! وكذلك عيسى عليه السلام؛ بعث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى؛ فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه؛ فعرف من عرف منهم أنه عبد الله ورسوله»[3].
ويدل على هذا: ما ثبت في «الصحيحين»، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحًيا أوحاه الله إلي؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» [4]، والمعنى: «ما من نبي إلا أعطى من المعجزات ما آمن عليه البشر؛ أي: ما كان دليلاً على تصديقه فيما جاءهم به، واتبعه من اتبعه من البشر، ثم لما مات الأنبياء لم يبق لهم معجزة بعدهم إلا ما يحكيه أتباعهم عما شاهده في زمانه، فأما الرسول الخاتم للرسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم فإنما كان معظم ما آتاه الله وحيًا منه إليه، منقولاً إلى الناس بالتواتر؛ ففي كل حين هو كما أنزل؛ فلهذا قال: «فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا»، وكذلك وقع؛ فإن أتباعه أكثر من أتباع الأنبياء؛ لعموم رسالته ودوامها إلى قيام الساعة، واستمرار معجزته»[5].
ومن دلائل عجزهم عن هذا التحدي أيضًا: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بقي يطالبهم بهذا التحدي مدة عشرين سنة، مظهرًا لهم النكير، حتى نابذوه وناصبوه الحروب، فهلكت في ذلك النفوس، وأريقت المهج، وقطعت الأرحام، ويتم الأولاد، وذهبت الأموال؛ فعلم بذلك أنه لو كان في وسعهم وتحت أقدارهم معارضته والإتيان بمثله ـ أو بأقل سورة من مثله ـ لم يتكلفوا هذه الأمور الخطيرة، مع اتصافهم بالرزانة وكمال العقل! وإلا فلو كانوا صادقين في زعمهم أن هذا القرآن مفترى على الله من قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ وحاشاه ـ فهو بشر مثلكم، وأنتم فصحاء بلغاء مثله؛ فلتفتروا كما افترى ولتأتوا بمثل ما أتى به؛ فيظهر بذلك كذبه وتسقط الكلفة عنكم في معاناة تكذيبه وتسفيهه والخصومه معه! فدل هذا بوضوح على إعجاز القرآن وإثباته عجز الخلق عن الإتيان بما تحداهم به، بحيلة وبغير حيلة! والحمد لله.
ويعتقد أيضًا: أن القرآن معجز في نفسه، لا يستطيع أحد ـ كائنًا من كان ـ الإتيان بمثله ولا يقوى على معارضته؛ فليس إعجاز القرآن بأمر خارج عنه ـ كما تقوله المعتزلة فيما يعرف بالصرفة[6] ـ وأن الله صرف همم العرب ودواعيهم عن معارضته وسلبهم القدرة على ذلك، مع إمكانهم معارضته والإتيان بمثله في حقيقة الأمر! بل الحق أن القرآن في نفسه معجز وهم عاجزون حقيقة وفي نفس الأمر عن معارضته والإتيان بمثله، «ولو تعاضدوا وتناصروا على ذلك، بل لا تقدر الرسل ـ الذين هم أفصح الخلق وأعظم الخلق وأكملهم ـ أن يتكلموا بمثل كلام الله، وهذا القرآن ـ الذي يبلغه الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن الله ـ أسلوب كلامه لا يشبه أساليب كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأساليب كلامه عليه السلام ـ المحفوظة عنه بالسند الصحيح إليه ـ لا يقدر أحد من الصحابة ولا من بعدهم أن يتكلم بمثل أساليبه في فصاحته وبلاغته ـ فيما يرويه من المعاني بألفاظه الشريفة ـ؛ بل وأسلوب كلام الصحابة أعلى من أساليب كلام التابعين، وهلمّ جرًّا إلى زماننا. وعلماء السلف أفصح وأعلم، وأقل تكلفًا ـ فيما يروونه من المعاني بألفاظهم ـ من علماء الخلف، وهذا يشهده من له ذوق بكلام الناس، كما يدرك تفاوت ما بين أشعار العرب في زمن الجاهلية وبين أشعار المولدين الذين كانوا بعد ذلك!»[7].
ولو تنزلنا مع الخصم ـ على سبيل المجادلة والمنافحة عن الحق ـ فالقول بالصرفة يقرر إعجاز القرآن أيضًا بوضوح؛ لأنه لو كان في إمكان العرب معارضته والإتيان بمثله، ولم يفعلوا ذلك جميعًا ـ مع قيام الدواعي العظيمة وشدة عدواتهم وتكذيبهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم ـ لصرف الله لهم؛ كان ذلك دليلاً من أبلغ الآيات الخارقة للعادات على أن هذا القرآن من عند الله تعالى! لكن القول بالصرفة قول باطل غير مرضي عند أهل السُّنَّة والجماعة.
ويعتقد المسلم أيضًا: أن القرآن في نفسه معجز ولو لم يتحد به ـ كسائر المعجزات ـ؛ فهو دالّ على وجود الله تعالى، وربوبيته ووحدانيته سبحانه، والمبدإ والمعاد، وإثبات حياته وقدرته وإرادته، وعلمه بالكليات والجزئيات، وعلى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصدقه وصحة رسالته، وعلى كمال الشرع وإحكامه وعدله وصدق أخباره.
ويعتقد أيضًا: أن وجوه إعجاز القرآن ـ التي لأجلها كان القرآن معجزًا للثقلين ـ كثيرة متنوعة لا تحصى، «وكل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجازه هو حجة على إعجازه! ولا تناقض في ذلك؛ بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له»[8]؛ فمن هذه الوجوه: فصاحته وبلاغته ووجازته وجزالته وحلاوته وطلاوته ـ التي لا تجارى ولا تدانى ـ في دلالة اللفظ على المعنى، ونظمه وأسلوبه، واشتماله على العلوم الكثيرة والمعاني العزيزة النافعة في الدنيا والآخرة ـ التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على نبي مرسل ـ، وإخباره بالغيبيات الماضية والآتية، وعدم تناقضه، وغير ذلك كثير؛ «فلفظه آية، ونظمه آية، وإخباره بالغيوب آية، وأمره ونهيه آية، ووعده ووعيده آية، وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية، واذا ترجم بغير العربي كانت معانيه آية! كل ذلك لا يوجد له نظير في العالم»[9]، والإعجاز واقع بجميع هذه الوجوه وغيرها، لا بكل واحد على انفراده؛ فهو مشتمل على الجميع وزيادة!
ويمكن جمع وجوه إعجاز القرآن في أربعة أوجه: الإعجاز البياني (الفصاحة والبلاغة والنظم والأسلوب)، والإعجاز العلمي (الآيات الكونية)، والإعجاز التشريعي (العقيدة والشريعة والأخلاق)، والإعجاز الغيبي (الماضي والحاضر والمستقبل). والله أعلم.
ويعتقد المسلم أيضًا: أن الإعجاز والتحدي بالنظم والبلاغة والفصاحة والأسلوب خاص بالقرآن الكريم دون غيره من الكتب السماوية السابقة؛ فالكتب السابقة لم تنزل على أنها معجزة للأنبياء السابقين تبرهن على صدقهم وصحة رسالتهم، ولم يقع بها التحدي، وإن كانت لا تخلو من بعض وجوه الإعجاز ـ كالإخبار بالغيبيات، واشتمالها على التشريعات المحكمة العادلة ـ، والله أعلم[10].
[1] معارج القبول (3/1121) [دار ابن القيم، ط1].
[2] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (5/425) [دار العاصمة، ط1، 1414هـ].
[3] تفسير ابن كثير (4/269).
[4] أخرجه البخاري (كتاب فضائل القرآن، برقم 4981)، ومسلم (كتاب الإيمان، برقم 152).
[5] تفسير ابن كثير (1/20)، وانظر منه: (1/201، 4/461)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس القرطبي (6/50) [دار ابن كثير ودار الكلم الطيب بدمشق، ط1]، وشرح النووي على صحيح مسلم (2/188) [دار إحياء التراث العربي، ط2]، وفتح الباري لابن حجر (9/6) [دار المعرفة، 1379هـ].
[6] انظر: مذهب المخالفين.
[7] البداية والنهاية لابن كثير (6/77) [دار إحياء التراث العربي، ط2، 1408هـ].
[8] الجواب الصحيح لابن تيمية (5/429)، بتصرف يسير، وانظر منه: (5/411).
[9] النبوات لابن تيمية (120) [المطبعة السلفية بالقاهرة، ط1، 1386هـ].
[10] انظر: تفسير الطبري (12/343) [دار هجر، ط1]، وبيان إعجاز القرآن للخطابي (21) [ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، دار المعارف بمصر، ط3]، والشفا للقاضي عياض (1/358) [طبعة عيسى البابي الحلبي]، وتفسير القرطبي (1/72) [دار إحياء التراث العربي، 1405هـ]، والإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام له (325) [دار التراث العربي بالقاهرة، 1398هـ]، والجواب الصحيح لابن تيمية (1/427، 5/409، 423، 429)، وشرح العقيدة الأصفهانية له (208) [مكتبة الرشد بالرياض، ط1]، وبدائع الفوائد لابن القيم (4/1547) [دار عالم الفوائد، ط1]، وتفسير ابن كثير (1/20، 160، 198، 201، 203، 3/535، 4/268، 310، 461، 603، 6/286) [دار طيبة، ط2]، والبداية والنهاية (2/99، 6/77، 288)، والفصول في سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم كلاهما له (228، 287) [مؤسسة علوم القرآن بدمشق ومكتبة دار التراث بالمدينة المنورة، ط3]، وفتح الباري لابن حجر (6/582، 9/6)، والإتقان في علوم القرآن (5/1873) [طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، ط1]، ومعترك الأقران (1/3) [دار الكتب العلمية، ط1]، ومعارج القبول (3/1099)، والنبأ العظيم لمحمد دراز (76، 80، 86) [دار الثقافة بالدوحة، 1405هـ]، والتحرير والتنوير (1/101، 346) [دار سحنون بتونس، 1997م]، ومباحث في إعجاز القرآن لمصطفى مسلم (121) [دار المسلم بالرياض، ط2]، والأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد لسعود العريفي (522) [دار عالم الفوائد، ط1]، والقرآن الكريم ومنزلته بين السلف ومخالفيهم لمحمد هشام طاهري (1/389، 395، 407، 645، 650) [دار التوحيد بالرياض، ط1]، وفضائل القرآن الكريم لعبد السلام الجار الله (329) [دار التدمرية، ط1].
قال سبحانه وتعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *} [الإسراء] ، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاَ يُؤْمِنُونَ *فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ *} [الطور] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إليّ؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة»[1].
[1] تقدم تخريجه قريبًا.
قال ابن جرير الطبري: «من أشرف تلك المعاني التي فضل بها كتابنا سائر الكتب قبله: نظمه العجيب، ورصفه الغريب، وتأليفه البديع، الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سورة منه الخطباء، وكلَّت عن وصف شكل بعضه البلغاء، وتحيرت في تأليفه الشعراء، وتبلدت ـ قصورًا عن أن تأتي بمثله ـ لديه أفهام الفهماء؛ فلم يجدوا له إلا التسليم والإقرار بأنه من عند الواحد القهار، مع ما يحوي ـ مع ذلك ـ من المعاني التي هي: ترغيب وترهيب، وأمر وزجر، وقصص وجدل ومثل، وما أشبه ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنزل إلى الأرض من السماء!»[1].
وقال ابن تيمية: «والقرآن مما يعلم الناس ـ عربهم وعجمهم ـ أنه لم يوجد له نظير، مع حرص العرب وغير العرب على معارضته؛ فلفظه آية، ونظمه آية، وإخباره بالغيوب آية، وأمره ونهيه آية، ووعده ووعيده آية، وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية، واذا ترجم بغير العربي كانت معانيه آية! كل ذلك لا يوجد له نظير في العالم»[2].
وقال ابن كثير: «ومن تدبَّر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية، من حيث اللفظ ومن جهة المعنى... فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة، عند من يعرف ذلك تفصيلاً وإجمالاً ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير؛ فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكرر حلا وعلا! لا يخلق عن كثرة الرد، ولا يمل منه العلماء! وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات؛ فما ظنك بالقلوب الفاهمات؟! وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن... وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي؛ اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء... وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال، وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم؛ بشرت به وحذرت وأنذرت، ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى، وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم»[3].
[1] تفسير الطبري (1/2).
[2] النبوات (120).
[3] تفسير ابن كثير (1/198).
المسألة الأولى: استعمال لفظ (المعجزة):
لفظ: (المعجزة) لا يعرف في الكتاب والسُّنَّة؛ وإنما في القرآن لفظ: الآية، والبيِّنة، والبرهان، وهذه الأسماء تدل على مقصود آيات الأنبياء، وتختص بها ولا تقع على غيرها، بخلاف: (المعجزة) و(خرق العادة)، وإن كان ذلك من بعض صفاتها؛ فهي لا تكون آية وبرهانًا حتى تكون قد خرقت العادة وعجز الناس عن الإتيان بمثلها[1].
المسألة الثانية: اختلاف المفسرين في معنى الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور:
وقيل في معناها أقوال كثيرة، ورجح كثير من المحققين أن الحكمة في ذكر هذه الحروف في أوائل بعض السور: بيان إعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته والإتيان بمثله؛ هذا مع أنه تركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها! ويدل على هذا الترجيح: أن كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد ـ كما هو معلوم باستقرائها ـ أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته. والله أعلم[2].
[1] انظر: الجواب الصحيح (5/412)، والنبوات (220).
[2] انظر: الكشاف للزمخشري (1/136) [مكتبة العبيكان، ط1]، وتفسير الرازي (2/249) [دار إحياء التراث العربي ببيروت]، وتفسير ابن كثير (1/256) [مكتبة أولاد الشيخ للتراث بمصر، ط1]، وأضواء البيان للشنقيطي (3/7).
من أبرز الثمرات المترتبة على الإيمان بإعجاز القرآن: إثبات وجود الله تعالى، وربوبيته ووحدانيته سبحانه، وإثبات حياته وقدرته وإرادته، وعلمه بالكليات والجزئيات، وصدق رسالة الرسل الكرام، والمبدأ والمعاد.
ومن الثمرات أيضًا: بيان عظمة القرآن الكريم وكماله وكبير فضله وشرفه، وهيمنته على الكتب السماوية السابقة، وتقدمه عليها؛ فهو كلام الله تعالى وأعظم كتبه، أنزله على خير خلقه صلّى الله عليه وسلّم بواسطة خير رسله من الملائكة جبريل عليه السلام، لخير أمة أخرجت للناس، في أشرف ليلة وأشرف شهر. والحمد لله ربِّ العالمين.
ذهب المعتزلة إلى القول بالصرفة[1]؛ بمعنى: أن الله تعالى صرف همم العرب ودواعيهم عن معارضته وسلبهم القدرة على ذلك، مع قدرتهم على معارضته والإتيان بمثله في حقيقة الأمر!
فحقيقة قولهم: نفي إعجاز القرآن، وأنه ليس معجزًا في نفسه؛ إذ جعلوا الإعجاز لشيء خارج عن نفس القرآن! وهذا باطل؛ بل القرآن في نفسه معجز، والعرب عاجزون حقيقة وفي نفس الأمر عن معارضته والإتيان بمثله، ولو تعاضدوا وتناصروا على ذلك.
وهذا القول في حقيقته متفرع على قول المعتزلة بخلق القرآن[2]، وأن الله ـ تعالى عما يقولون ـ خلقه في غيره، فلا فرق عندهم ـ إذن ـ بين مخلوق ومخلوق (يعني: لا فرق بين القرآن وكلام البشر؛ فكلاهما مخلوقان عندهم).
ومن العجب أن المعتزلة وقعوا بسبب هذه المسألة في تناقض عجيب؛ فالقول بالصرفة على مذهبهم مستحيل! لأن أفعال العباد لا تدخل في مقدورات الله عندهم ـ تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا ـ؛ فكيف صرف الله العباد وأعجزهم عن المعارضة والكلام والكتابة، وهذه مفعولات للعبد غير مخلوقة لله ـ بزعمهم ـ؟! فيلزمهم إما أن يتركوا القول بالصرفة وإما القول بعدم خلق أفعال العباد[3]!
وادعى الحلاج من غلاة الصوفية أنه يمكنه أن يأتي بمثل هذا القرآن[4]! نعوذ بالله من الضلال.
واشترط المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وقوع التحدي لثبوت إعجاز القرآن ـ بناء على اشتراطهم التحدي في جنس المعجزات عمومًا ـ؛ ويلزم على هذا: أن القرآن ليس معجزًا في نفسه عندهم!
[1] انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (225) [دار إحياء التراث العربي ببيروت، ط3].
[2] انظر: البداية والنهاية لابن كثير (6/77).
[3] انظر: مقالات الإسلاميين (227)، والفرق بين الفرق (95) [دار الآفاق الجديدة ببيروت، ط2]، والقرآن الكريم ومنزلته بين السلف ومخالفيهم (1/648).
[4] انظر: الفرق بين الفرق (247).
1 ـ «بيان إعجاز القرآن»، للخطابي.
2 ـ «الشفا» (ج1)، للقاضي عياض.
3 ـ «الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام»، للقرطبي.
4 ـ «الجواب الصحيح» (ج1، 5)، لابن تيمية.
5 ـ «شرح العقيدة الأصفهانية»، لابن تيمية.
6 ـ «بدائع الفوائد» (ج4)، لابن القيم.
7 ـ «تفسير القرآن العظيم» (ج1، 3)، لابن كثير.
8 ـ «معترك الأقران»، للسيوطي.
9 ـ «مباحث في إعجاز القرآن»، لمصطفى مسلم.
10 ـ «الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد»، لسعود العريفي.