القدم هي الرِّجْل، وسمِّيت بذلك؛ لأنها تتقدم وتسبق[1].
قال ابن فارس: «الراء والجيم واللام معظم بابه يدلُّ على العضو الذي هو رِجْلُ كل ذي رِجْلٍ»[2].
وفي تهذيب اللغة: «الرِّجْلُ: القَدَم، وهو خلاف اليد، ورِجل القوس: سِيتها السفلى»[3].
قال الليث: «القدم من لدن الرسغ: ما يطأ عليه الإنسان»[4].
[1] مقاييس اللغة (5/66).
[2] مقاييس اللغة (2/492) [دار الجيل].
[3] تهذيب اللغة (11/23) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م].
[4] تهذيب اللغة (3/192).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم؟ قال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي. ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله، تقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدًا...»[1].
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يُلقى في النار، وتقول: هل من مزيد. حتى يضع قدمه فتقول قط قط»[2].
وعنه رضي الله عنه أيضًا أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها ربّ العزّة تبارك وتعالى قدمه، فتقول: قط قط وعزّتك، ويزوى بعضها إلى بعض»[3].
وروى ابن بطة بسنده عن إسحاق بن منصور الكوسج قال: قلت لأحمد ـ يعني: الإمام أحمد بن حنبل ـ اشتكت النار إلى ربها حتى يضع قدمه فيها، أليس تقول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: «صحيح»[4].
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «الكرسي موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرَّحْل»[5].
[1] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4850)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2846).
[2] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4848)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2848).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الأيمان والنذور، رقم 6661)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2848).
[4] الإبانة لابن بطة (3/330).
[5] أخرجه عبد الله بن أحمد في السُّنَّة (1/302) [دار ابن القيم، ط1]، وابن أبي شيبة في كتاب العرش (435) [مكتبة الرشد، ط1]، وابن جرير في التفسير (5/398) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه الألباني في مختصر العلو (124) [المكتب الإسلامي، ط2].
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: «هذه أحاديث صحاح، حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا شك فيها، ولكن إذا قيل: كيف وضع قدمه؟ وكيف ضحك؟ قلنا: لا يُفَسَّر هذا، ولا سمعنا أحدًا يفسره»[1]، أي: لا يُفسر تفسير الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وليس المقصود نفي المعنى.
وروى ابن بطة بسنده عن إسحاق بن منصور الكوسج قال: قلت لأحمد ـ يعني: الإمام أحمد بن حنبل ـ اشتكت النار إلى ربها حتى يضع قدمه فيها، أليس تقول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: «صحيح»[2].
وقال المروذي: سألت أبا عبد الله: «يضع قدمه»؟ فقال: «نمرها كما جاءت»[3].
وقال القاضي أبو يعلى الفراء: «اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره، وأن المراد به (قدم) هو صفة لله تعالى وكذلك (الرجل»)[4].
وقال ابن خزيمة: «باب ذكر إثبات الرِّجل لله عزّ وجل، وإن رغمت أنوف المعطلة الجهمية الذين يكفرون بصفات خالقنا عزّ وجل التي أثبتها لنفسه في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه المصطفى، قال الله عزّ وجل ـ يذكر ما يدعو بعض الكفار من دون الله ـ: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} [الأعراف: 195] . فأعلمنا ربنا أن من لا رجل له ولا يد ولا عين ولا سمع فهو كالأنعام بل هو أضل»[5].
وقال ابن عثيمين: «إن لله تعالى رجلاً وقدمًا حقيقية، لا تماثل أرجل المخلوقين، ويسمي أهل السُّنَّة مثل هذه الصفة: الصفة الذاتية الخبرية؛ لأنها لم تعلم إلا بالخبر»[6].
[1] كتاب الصفات للدارقطني (40) تحقيق: عبد الله الغنيمان [ط1، 1402هـ].
[2] الإبانة لابن بطة (3/330) تحقيق: د. عثمان عبد لله [ط2، 1418هـ].
[3] الإبانة لابن بطة (3/331).
[4] إبطال التأويلات للقاضي أبي يعلى (1/195) تحقيق: أبي عبد الله محمد الحمود [دار إيلاف، ط1، 1416هـ].
[5] كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عزّ وجل (1/202).
[6] شرح العقيدة الواسطية لابن العثيمين (2/32) [دار ابن الجوزي، ط4، 1424هـ].
المسألة الأولى: الرِّجل والقدم بمعنى واحد:
تقدمت الإشارة إلى أن صفة القدم وردت بلفظ الرِّجل، وهما بمعنى واحد. وفي القاموس المحيط: «الرِّجل بالكسر: القَدم، أو من أصل الفخذ إلى القدم»[1]. قال ابن العثيمين: «أما الرجل والقدم، فمعناهما واحد، وسميت رِجْل الإنسان قدمًا؛ لأنها تتقدم في المشي، فإن الإنسان لا يستطيع أن يمشي برجله إلا إذا قدّمها»[2].
وقال الغنيمان ـ بعد ذكر روايات صفة القدم والرِّجل ـ: «ففي مجموع هذه الروايات البيان الواضح بأن القدم والرجل ـ وكلاهما عبارة عن شيء واحد ـ صفة لله تعالى حقيقة على ما يليق بعظمته»[3].
المسألة الثانية: الكرسي موضع القدمين:
ورد في الآثار عن السلف أن الكرسي موضع القدمين لله تعالى، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدِّر أحد قدره»[4].
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «الكرسي موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل»[5].
وقال يحيى بن معين: «شهدت زكريا بن عدي، سأل وكيعًا، فقال: يا أبا سفيان، هذه الأحاديث يعني مثل: الكرسي موضع القدمين ونحو هذا؟ فقال وكيع: أدركنا إسماعيل بن أبي خالد، وسفيان، ومسعرًا يحدثون بهذه الأحاديث ولا يفسرون شيئًا»[6].
[1] القاموس المحيط للفيروزآبادي (1297) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 1417هـ].
[2] شرح العقيدة الواسطية لابن العثيمين (2/31).
[3] شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان (133) [ط1، 1402هـ].
[4] أخرجه الدارمي في النقض على المريسي (1/412) [مكتبة الرشد، ط1]، وعبد الله بن أحمد في السُّنَّة (1/301) [دار ابن القيم، ط1]، وابن أبي شيبة في كتاب العرش (438) [مكتبة الرشد، ط1]، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (1/248) [مكتبة الرشد، ط5]، وغيرهم، وقال الذهبي في كتاب العلو (76) [أضواء السلف، ط1]: «رجاله ثقات»، وصححه الألباني في مختصره (102) [المكتب الإسلامي، ط2].
[5] تقدم تخريجه.
[6] الأسماء والصفات للبيهقي (2/197)، والصفات للدارقطني (1/69).
خالف عموم المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فأنكروا إثبات صفة القدمين لله تعالى؛ بحجة أن هذا يستلزم التشبيه والتجسيم والتركيب[1]، وأوَّلوا حديث وضع الجبار قدمه على النار بأنه قدم جبار معين مخلوق[2]، أو أن المراد بذلك أهل النار؛ لأنه تقدم في علم الله أنهم من أهلها[3]، أو أنه خلق من خلق الله سمَّاه قدمًا[4]، ونحو ذلك من التأويلات التي تخرج بالكلام عن الوضوح والبيان إلى أبعد ما يكون الاغتراب والغموض!
وقد ردّ عليهم أهل العلم في مؤلفات كثيرة، بيّنوا فيها بطلان هذه التأويلات وبُعدها عن الصواب، ومن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: «وقد غلط في هذا الحديث المعطلة الذين أوَّلوا قوله: (قدمه) بنوع من الخلق، كما قالوا: الذين تقدَّم في علمه أنهم أهل النار. حتى قالوا في قوله: «رجله»: كما يقال: رِجْل من جَرادٍ. وغلطهم من وجوه:
فإنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «حتى يضع» ، ولم يقل: حتى يلقي، كما قال في قوله: «لا يزال يلقى فيها».
الثاني: أن قوله: «قدمه» لا يفهم منه هذا، لا حقيقة ولا مجازًا، كما تدلّ عليه الإضافة.
الثالث: أن أولئك المؤخرين إن كانوا من أصاغر المعذَّبين فلا وجه لانزوائها واكتفائها بهم، فإنّ ذلك إنما يكون بأمر عظيم، وإن كانوا من أكابر المجرمين فهم في الدرك الأسفل، وفي أوّل المعذّبين لا في أواخرهم.
الرابع: أن قوله: «فينزوي بعضها إلى بعض» دليل على أنها تنضمّ على من فيها، فتضيق بهم من غير أن يلقى فيها شيء.
الخامس: أن قوله: «لا يزال يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها قدمه» جعل الوضع الغاية التي إليها ينتهي الإلقاء، ويكون عندها الانزواء، فيقتضي ذلك أن تكون الغاية أعظم ممَّا قبلها.
وليس في قول المعطِّلة معنى للفظ «قدمه» إلا وقد اشترك فيه الأول والآخر، والأوّل أحقّ به من الآخر»[5].
[1] ينظر: أساس التقديس (186) [مكتبة الكليات الأزهرية 1406هـ]، وأصول الدين للبغدادي (75) [دار الكتب العلمية، ط1، 1346هـ]، وينظر: الحجة لقوام السُّنَّة (2/550)، والصواعق المرسلة (1/226).
[2] مشكل الحديث لابن فورك (45) [دار الكتب العلمية، 1400هـ]، وأصول الدين للبغدادي (76)، والإرشاد للجويني (163) [مكتبة الخانجي، 1369هـ]، وغاية المرام للآمدي (141) [المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، 1391هـ].
[3] مشكل الحديث لابن فورك (44)، والإرشاد للجويني (163).
[4] مشكل الحديث (45).
[5] جامع المسائل لابن تيمية (2/239) [دار عالم الفوائد ط1، 1422هـ]. وانظر: نقض الدارمي على المريسي (195) [أضواء السلف، ط1، 1419هـ]، وشرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان (1/157)، وشرح العقيدة الواسطية لابن العثيمين (2/33).
1 ـ «الأسماء والصفات» (ج2)، للبيهقي.
2 ـ «الحجة في بيان المحجة»، لقوام السُّنَّة الأصبهاني.
3 ـ «شرح العقيدة الواسطية»، لابن عثيمين.
4 ـ «شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري» (ج1)، لعبد الله الغنيمان.
5 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي السقاف.
6 ـ «الصواعق المرسلة» (ج1)، لابن القيم.
7 ـ «العلو للعلي الغفار»، للذهبي.
8 ـ «كتاب التوحيد»، لابن خزيمة.
9 ـ «كتاب الصفات»، للدارقطني.
10 ـ «الصفات الإلهية في الكتاب والسُّنَّة»، لمحمد أمان الجامي.