سُمِّي القرآن بذلك؛ لأنه يجمع السُّور والآي والحروف، وجمع فيه القصص، والأمر والنهي، والوعد والوعيد[1].
وقيل: «تسمية هذا الكتاب قرآنًا من بين كتب الله؛ لكونه جامعًا لثمرة كتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم»[2].
[1] انظر: الهداية إلى بلوغ النهاية (1/604) [جامعة الشارقة، ط1، 1429هـ]، وتفسير البغوي (1/198) [دار طيبة، ط4، 1417هـ]، وتفسير البحر المحيط (2/32) [دار الكتب العلمية، ط1، 1422هـ].
[2] مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني (669) [دار العلم والدار الشامية، 1412هـ].
يجب على المسلم أن يؤمن بالقرآن الكريم إيمانًا تفصيليًّا، إقرارًا واتباعًا، في الظّاهر والباطن، والسّر والعلن، فيعتقد: أنَّ القرآن كلام الله تعالى، ووحيه الذي أنزله على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، تكلَّم به ربُّنا سبحانه حقيقة بحروفه ومعانيه؛ فمنه بدأ وإليه يعود، وسمعه منه جبريل عليه السلام حقيقة، ثم نزل به على نبيِّنا صلّى الله عليه وسلّم؛ فسمعه منه مباشرة حقيقة في اليقظة، منجَّمًا ومفرَّقًا حسب الوقائع والأحداث.
ويعتقد المسلم أيضًا: أنَّ القرآن الكريم كلام الله تعالى كيفما تصرّف؛ مقروءًا ومسموعًا ومكتوبًا ومحفوظًا في الصّدور؛ فالألسن والأصوات والأسماع والأنامل والأقلام والصّدور مخلوقة، والقرآن المتلوّ والمسموع والمكتوب والمحفوظ كلام الله غير مخلوق.
القرآن كلام الله تعالى، ووحيه الذي أنزله على نبيِّه صلّى الله عليه وسلّم، تكلَّم به ربّنا سبحانه حقيقة ـ بحروفه ومعانيه ـ؛ فمنه بدأ وإليه يعود، وسمعه منه جبريل عليه السلام حقيقة، ثم نزل به على نبيِّنا صلّى الله عليه وسلّم؛ فسمعه منه مباشرة حقيقة في اليقظة، منجّمًا ومفرّقًا حسب الوقائع والأحداث. وهو خاتم الكتب المنزَّلة من عند الله تعالى، وأعظمها وأشرفها وأهداها، والمهيمن عليها، والنَّاسخ لها ولشرائعها، والجامِع لأصولها ومحاسنها، والباقي والخالد إلى قيام السَّاعة؛ فلا يأتي كتاب بعده يغيِّر شيئًا من أحكامه وشرائعه، فلم يبق كتاب يُتعبّد الله به سواه؛ فليس لأحد من الإنس أو الجنّ الخروج عن شيء من أحكامه، ولا اتباع غير سبيله؛ وإلا ضلَّ وغوى.
جعل الله للقرآن الكريم منزلة رفيعة، ومكانة عاليةً، فهو من أركان الإيمان الستة، التي لا يقبل إيمان العبد حتى يأتي بها، فالقرآن نور للقلوب، به تزكوا النفوس وتفرح، وتنشرح الصدور، فيه آيات زكيات، ومعاني بينات، تخرج المغموم من غمه، والمهموم من همه، وتبعد عن الصدر ضيقه.
ومما يدلُّ على علو منزلته: أنه أعظم معجزات النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو «معجزة خالدة أبد الآبدين، ودهر الدّاهرين، لا تفنى عجائبه، ولا يدرك غاية إعجازه ولا يندرس بمرور الأعصار، ولا يمل مع التّكرار؛ بل يُجَلَّى مع ذلك ويتجلّى، ويعلو على غيره ولا يُعلى، وكلّ معجزة قبله انقضت بانقضاء زمانها ولم يبق إلا تذكارها، وهو كلَّ يوم براهينه في مزيد، ومعجزاته في تجديد، و{لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ *} [فُصِّلَت] »[1].
ومما يدلُّ على علو منزلته أيضًا: أن الله عزّ وجل عظَّم من عظَّمه، وجعلهم أهله وخاصته، وأنَّ من إجلاله إجلالهم، فعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَثَل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومَثَل الذي يقرأ، وهو يتعاهده وهو عليه شديد، فله أجران»[2].
وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله أهلين من الناس» . قالوا: يا رسول الله، من هم؟ قال: «هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته»[3].
قال ابن الأثير: «أي: حفظة القرآن العاملون به هم أولياء الله، والمختصون به اختصاص أهل الإنسان به»[4].
[1] معارج القَبول للحكمي (3/1121) [دار ابن القيِّم بالدَّمَّام، ط1، 1410هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4937)، ومسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 798).
[3] أخرجه ابن ماجه (المقدمة، رقم 215)، وأحمد (19/296) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب فضائل القرآن، رقم 2046)، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة (1/29) [دار العربية، ط2]، والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 1432) [مكتبة المعارف، ط5].
[4] النهاية في غريب الحديث والأثر (1/83) [المكتبة العلمية، ط 1399هـ].
قال عزّ وجل: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] ، وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48] ، وقال عزّ وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48] ، والآيات في هذا المعنى أكثر من أن تحصَى.
وعن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه»[1].
ولمَّا أتى عمر بن الخطاب النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فغضب فقال: «أمتهوِّكون فيها يا ابن الخطَّاب؟! والذي نفسي بيده؛ لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة. لا تسألوهم عن شيء؛ فيخبروكم بحق فتكذّبوا به، أو بباطل فتصدِّقوا به! والذي نفسي بيده؛ لو أنَّ موسى صلّى الله عليه وسلّم كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني»[2].
[1] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4604) واللفظ له، والترمذي (أبواب العلم، رقم 2664) وحسنه، وابن ماجه (المقدمة، رقم 12)، وأحمد (28/410) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح (1/57) [المكتب الإسلامي، ط3].
[2] أخرجه أحمد في مسنده (3/387) [مؤسسة قرطبة بمصر]، والدارمي في سننه (كتاب العلم، رقم 449)، قال الهيثمي: فيه مجالد بن سعيد، ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما. مجمع الزوائد (1/174) [مكتبة القدسي]. لكن له شواهد، حسنه بها الألباني في إرواء الغليل (6/34) [المكتب الإسلامي ببيروت، ط2].
قال ابن أبي زمنين: «ومن قول أهل السُّنَّة: أن القرآن كلام الله وتنزيله، ليس بخالق ولا مخلوق، منه تبارك وتعالى بدأ، وإليه يعود»[1].
وقال القاضي عياض: «وقد أجمع المسلمون أن القرآن المتلو في جميع أقطار الأرض المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين مما جمعه الدفتان من أول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} إلى آخر: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ *}، أنه كلام الله ووحيه المنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم وأن جميع ما فيه حق، وأن من نقص منه حرفًا قاصدًا لذلك أو بدله بحرف آخر مكانه أو زاد فيه حرفًا مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه وأجمع على أنه ليس من القرآن عامدًا لكل هذا أنه كافر»[2].
وقال ابن قدامة المقدسيّ: «ومن كلام الله سبحانه: القرآن العظيم، وهو كتاب الله المبين، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل ربّ العالمين، نزل به الرّوح الأمين، على قلب سيّد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم، بلسان عربيّ مبين، منزَّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. وهو سُوَر مُحْكَمات، وآيات بيّنات، وحروف وكلمات، من قرأه فأعربه فله بكلّ حرف عشر حسنات. له أوّل وآخر وأجزاء وأبعاض. متلوّ بالألسنة، محفوظ في الصّدور، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف، فيه محكم ومتشابه، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وأمر ونهي، {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ *} [فُصِّلَت] »[3].
[1] أصول السُّنَّة (82) [مكتبة الغرباء، ط1، 1415هـ].
[2] الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/304) [دار الفكر، 1409هـ].
[3] لُمعة الاعتقاد مع شرحه: الإرشاد شرح لُمعة الاعتقاد للجبرين (176، 181، 182) [دار طيبة، ط1، 1418هـ].
المسألة الأولى: نزول القرآن:
أُنزل القرآن الكريم ـ لفظًا ومعنًى ـ على نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم بأمر الله تعالى، وسَمِعه صلّى الله عليه وسلّم من جبريل عليه السلام حقيقةً بلا واسطة، في اليقظة، لا منامًا ـ على صور وهيئات وكيفيات معروفة ـ، منجَّمًا ومفرَّقًا حسب الوقائع والأحداث ـ بخلاف الكتب السّماوية السابقة التي نزلت جملة واحدة ـ.
ونزول القرآن ثابتٌ بنص الكتاب والسُّنَّة، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ *نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ *} [الشعراء] ، وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] . وهذه الآيات صريحة الدلالة على نزول جبريل عليه السلام بالقرآن من عند الله تعالى على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأنَّ جبريل عليه السلام سمعه من الله تعالى؛ لأنَّه إذا كان قد «نزل به من الله؛ علم أنه سمعه منه ولم يؤلِّفه هو، وهذا بيان من الله: أنَّ القرآن الذي هو باللِّسان العربي المبين سمعه روح القدس من الله، ونزل به منه»[1].
وثبت في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا تكلَّم الله بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلةً كجر السلسلة على الصفا؛ فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، حتى إذا جاءهم جبريل فُزِّع عن قلوبهم» ؛ قال: «فيقولون: يا جبريل؛ ماذا قال ربك؟ فيقول: الحقَّ. فيقولون: الحقَّ الحقَّ»[2].
وفيه دلالة على سماع جبريل عليه السلام الوحي (وهو القرآن) من الله تعالى بلا واسطة.
والدَّليل على نزول القرآن على النبي صلّى الله عليه وسلّم مفرَّقًا حسب الوقائع والأحداث، واختصاصه بذلك دون سائر الكتب السماويَّة السابقة قول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} ـ أي: كما نزلت الكتب السماوية قبله؛ كالتوراة والإنجيل والزَّبور ـ[3]{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً *} [الفرقان] ، وقال جلّ جلاله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ}؛ يعني: القرآن {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136] : «وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدِّمة. وقال في القرآن: (نزَّل)؛ لأنه نزل مفرَّقًا منجَّمًا على الوقائع، بحسب ما يحتاج العباد إليه في معادهم ومعاشهم، وأما الكتب المتقدِّمة فكانت تنزل جملة واحدة؛ ولهذا قال: {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ}» [4].
المسألة الثانية: تفاضل القرآن:
القرآن الكريم الذي هو كلام الله عزّ وجل يتفاضل بعضه على بعض ـ وإن كان كلُّه ذا فضل وشرف ـ في الأجر والثواب، وفي المعاني والمدلولات، وهذا دليل على تفاضله في ذاته ونفسه وألفاظه؛ فبعض سور القرآن وآياته أفضل وأشرف من بعض سوره وآياته الأخرى، لا من حيث أجر وثواب القراءة فحسب؛ بل من حيث نفسه وذاته وكونه كلامًا لله تعالى. فسورة الفاتحة والإخلاص وآية الكرسي وآخر سورة الحشر ـ وما تضمنته من الدلالات على وحدانية الله وصفاته ـ أفضل من سورة المسد وآية الدَّيْن ونحوهما ـ مما لا يوجد فيها هذا ـ، في نفسها وفي أجر قراءتها. وكلام الله تعالى الذي يُثني على نفسه به ويذكر فيه أوصافه وتوحيده؛ أفضل من كلامه الذي يذمُّ به أعداءه ويذكر أوصافهم[5].
وهذا التفاضُل لا «باعتبار نسبته للمتكلِّم؛ فإنه سبحانه واحد؛ ولكن باعتبار معانيه التي يتكلَّم بها، وباعتبار ألفاظه المبيِّنة لمعانيه»[6].
والقول بالتفاضل قول أكثر السَّلف والخلف من العلماء ـ بل نقل ابن تيمية اتفاق السلف عليه ـ؛ منهم: إسحاق بن راهويه، والحليمي، وأبو المظفر السمعاني، وغيرهم، وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية واختاره تلميذه ابن القيم[7].
وقد دلَّ على تفاضل القرآن الكريم أدلَّة كثيرة من الكتاب والسُّنَّة؛ منها قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ؛ ففي الآية إخبار بأنَّ الله تعالى «يأتي بخير منها أو مثلها؛ وهذا بيان من الله لكون تلك الآية قد يأتي بمثلها تارة، أو خير منها أخرى؛ فدلّ ذلك على أنَّ الآيات تتماثل تارة وتتفاضل أخرى»[8].
ومنها قوله عزّ وجل: {...فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزُّمَر] ، وقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ *} [الزُّمَر] ؛ وفيهما دلالة واضحة على أنَّ فيما أنزل الله تعالى حسن وأحسن[9]؛ وهذا دال على تفاضل القرآن الكريم.
وثبت في أحاديث كثيرة إثبات فضل بعض السّور على البعض، وأنَّ بعضها أعظم ما في القرآن؛ ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم لأبي سعيد بن المعلَّى رضي الله عنه: «لأعلِّمنّك سورة هي أعظم السّور في القرآن، قبل أن تخرج من المسجد» ، ثم قال: «{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته»[10].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم لأبيّ بن كعب رضي الله عنه: «يا أبا المنذر؛ أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟» ، فلما ذكر له آية الكرسي؛ ضرب على صدره وقال: «والله ليَهْنِك العلم أبا المنذر»[11].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم عن سورة الإخلاص: «والذي نفسي بيده؛ إنها لتعدل ثلث القرآن»[12].
وقوله صلّى الله عليه وسلّم عن سورتي الفلق والناس: «أُنزل (أو: أُنزلت) عليَّ آيات لم يُر مثلهن قط: المعوِّذتين»[13].
إلى غير ذلك من الأحاديث. وهي تدلُّ دلالة صريحة على تفاضل القرآن الكريم، وأنَّ بعضه أفضل من بعض. وهذا أُبيُّ ـ وغيره من الصحابة ـ «لم يستشكل السؤال عن كون بعض القرآن أعظم من بعض! بل شهد النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعلم لمن عرف فضل بعضه على بعض، وعرف أفضل الآيات»[14].
وإذا ثبت تفضيل بعض القرآن بأحكام توجب تشريفه ـ كما في سورة الفاتحة وغيرها ـ؛ فهذا يدلّ على أنه أفضل في نفسه، ومن أعاد التفاضل إلى مجرّد كثرة الثواب أو قلَّته، من غير أن يكون الكلام في نفسه أفضل؛ كان بمنزلة من جعل عملين مساويين، وثواب أحدهما أضعاف ثواب الآخر، مع أنَّ العملين في أنفسهما لم يختص أحدهما بمزية! وهذا خلاف ما علم من سُنَّة الله تعالى في شرعه وخلقه، وخلاف ما تدل عليه الدلائل العقلية مع الشرعية[15].
ولا يلزم من التفضيل نقص المفضول ـ فالكلّ كلام الله تعالى ـ؛ بل إنّ «التفضيل بين الشيئين فرع كون كلٍّ منهما له كمال، ثم ينظر أيهما أكمل»[16]؛ فليس في إثبات التفاضل إثبات النقص للمفضول بوجه من الوجوه.
وبالجملة: «فالمثبت للتفاضل معتصم بالكتاب والسُّنَّة والآثار، ومعه من المعقولات الصريحة التي تبيِّن صحة قوله وفساد قول منازعه ما لا يتوجه إليها طعن صحيح! وأما النافي فليس معه آية من كتاب الله، ولا حديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا قول أحد من سلف الأمّة؛ وإنما معه مجرد رأي يزعم أنّ عقله دل عليه، ومنازعه يبيِّن أنّ العقل إنما دلّ على نقيضه، وأن خطأه معلوم بصريح المعقول، كما هو معلوم بصحيح المنقول!»[17].
المسألة الثالثة: إعجاز القرآن:
القرآن الكريم هو أعظم معجزات النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأبهر آياته، وأبين الحجج الواضحات وأدلّها على نبوَّته وصدقه وصحة رسالته. ويدل على هذا أن المشركين لمَّا تعنّتوا وطلبوا آيات حسية تدل على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يجبهم الله تعالى إلى ذلك، وأنكر عليهم عدم اكتفاءهم بأعظم آياته وهو القرآن الكريم؛ فقال عزّ وجل: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ *أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ *} [العنكبوت] ؛ فدلَّ هذا على أنَّ القرآن أعظم الآيات، وأبين المعجزات والحجج الواضحات. فهو الحجة الباقية على الآباد، الذي لا تنقضي عجائبه[18].
وليس في مقدور أحد ـ كائنًا من كان ـ أن يأتي بهذا القرآن إلا رب العالمين جلّ جلاله؛ فهو كلامه سبحانه، وهو لا يشبهه شيء من خلقه[19].
ولذا تحدّى الله تعالى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله؛ فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *} [الإسراء] ، فعجزوا عن ذلك، مع توافر دواعي أعداء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ الفصحاء البلغاء ـ على معارضته وإبطال قوله، وشدة عدواتهم للدعوة ونبيِّها صلّى الله عليه وسلّم[20].
والقرآن معجز في نفسه، لا يستطيع أحد ـ كائنًا من كان ـ الإتيان بمثله ولا يقوى على معارضته؛ فليس إعجاز القرآن بأمر خارج عنه[21].
والقرآن في نفسه معجز ولو لم يتحد به كسائر المعجزات؛ فهو دالٌّ على وجود الله تعالى، وربوبيته ووحدانيته سبحانه، والمَبدأ والمعاد، وإثبات حياته وقدرته وإرادته، وعلمه بالكليات والجزئيات، وعلى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصدقه وصحة رسالته، وعلى كمال الشَّرع وإحكامه وعدله وصدق أخباره.
ووجوه إعجاز القرآن التي لأجلها كان القرآن معجزًا للثقلين كثيرة متنوعة لا تحصى، «وكل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجازه هو حجة على إعجازه! ولا تناقض في ذلك؛ بل كل قوم تنبهوا لما تنبَّهوا له»[22]؛ فمن هذه الوجوه: فصاحته وبلاغته ووجازته وجزالته وحلاوته وطلاوته ـ التي لا تجارى ولا تدانى ـ في دلالة اللَّفظ على المعنى، ونظمه وأسلوبه، واشتماله على العلوم الكثيرة والمعاني العزيزة النّافعة في الدّنيا والآخرة ـ التي هي أكمل من معاني كلّ كتاب نزل على نبيّ مرسل ـ، وإخباره بالغيبيّات الماضية والآتية، وعدم تناقضه، وغير ذلك كثير؛ «فلفظه آية، ونظمه آية، وإخباره بالغيوب آية، وأمره ونهيه آية، ووعده ووعيده آية، وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية، واذا ترجم بغير العربي كانت معانيه آية! كل ذلك لا يوجد له نظير في العالم»[23]، والإعجاز واقع بجميع هذه الوجوه وغيرها، لا بكلّ واحد على انفراده؛ فهو مشتمل على الجميع وزيادة!
ويمكن جمع وجوه إعجاز القرآن في أربعة أوجه: الإعجاز البيانيّ (الفصاحة والبلاغة والنّظم والأسلوب)، والإعجاز العلمي (الآيات الكونيّة)، والإعجاز التشريعيّ (العقيدة والشريعة والأخلاق)، والإعجاز الغيبي (الماضي والحاضر والمستقبل). والله أعلم.
والإعجاز والتحدّي بالنّظم والبلاغة والفصاحة والأسلوب خاصّ بالقرآن الكريم دون غيره من الكتب السّماويّة السابقة؛ فالكتب السّابقة لم تنزل على أنها معجزة للأنبياء السّابقين تبرهن على صدقهم وصحّة رسالتهم، ولم يقع بها التحدّي، وإن كانت لا تخلو من بعض وجوه الإعجاز ـ كالإخبار بالغيبيّات، واشتمالها على التشريعات المحكمة العادلة ـ. والله أعلم[24].
المسألة الرابعة: الاستشفاع بالقرآن:
التوسُّل إلى الله تعالى بالقرآن الكريم (الاستشفاع) لنيل العبد شفاعته عزّ وجل يوم القيامة أو مغفرته أو رحمته، أو لطلب أمر دنيويّ: مشروع، سواء كان هذا الاستشفاع بدعاء الله تعالى بالقرآن نفسه، فيقول مثلاً: اللَّهُمَّ إني أسألك بالقرآن الكريم أن تدخلني الجنّة، أو بدعاء الله بتلاوة القرآن الكريم وحفظه والتعبّد به، كأن يقول الدّاعي مثلاً: اللَّهُمَّ إنِّي أسألك بحفظي لكتابك، وتلاوتي له آناء اللَّيل وأطراف النّهار أن تغفر لي، أو بدعاء الله أن يجعل القرآن شفيعًا للعبد يوم القيامة، فيقول مثلاً: اللَّهُمَّ اجعل القرآن شفيعًا لي يوم القيامة؛ فكلّ هذا جائز لا حرج فيه، ودلّ على جوازه الكتاب والسُّنَّة[25]:
أما الدّليل على جواز الاستشفاع بدعاء الله تعالى بالقرآن نفسه على أنّه كلام الله وصفة من صفاته فقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] ، والقول في الصّفات كالقول في الأسماء والذَّات، وذكر سبحانه عن نبيِّه وعبده سليمان بن داود عليه السلامأنَّه قال: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ} [النمل: 19] ، فسأل الله برحمته، وهي من صفاته سبحانه وتعالى.
وثبت في الصحيحين، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «أعوذ بعزّتك الذي لا إله إلا أنت، الذي لا يموت، والجنّ والإنس يموتون» [26]، وفي حديث دعاء الاستخارة المشهور الذي علّمه صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «اللَّهُمَّ إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك»[27] ، وعلَّم صلّى الله عليه وسلّم ابنته فاطمة رضي الله عنها أن تقول كلّ صباح ومساء: «يا حي يا قيوم؛ برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كلَّه، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا» [28]. والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
وأما الدليل على جواز دعاء الله أن يجعل القرآن شفيعًا للعبد فظاهر؛ إذ عموم أدلَّة فضل الدعاء دالة على ذلك، وليس في هذا تعد أو مجاوزة للشرع؛ بل هو دعاء مشروع لا إشكال فيه؛ لأنَّه ثبت بالحديث الصَّحيح أنَّ القرآن يأتي شفيعًا لأصحابه يوم القيامة[29]؛ فلا إشكال في دعاء الله تعالى أن يأتي شفيعًا لقارئه الدَّاعي، وقد حثّ ربّنا على دعائه فقال جلّ جلاله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ *} [غافر] .
المسألة الخامسة: الاستشفاء بالقرآن:
الاستشفاء بالقرآن أمر مشروع حث عليه الشرع الحكيم، والاستشفاء: هو طلب الشفاء.
والاستشفاء يكون من مرض حسيٍّ أو معنوي.
والأدلة على أن القرآن فيه شفاء ورحمة كثيرة جدًّا، فمن القرآن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ *} [يونس] ، وقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا *} [الإسراء] ، وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت: 44] ، والآيات في ذلك كثيرة جدًّا.
ومن السُّنَّة المطهرة: ما جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «إن ناسًا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أتوا على حي من أحياء العرب فلم يَقروهم، فبينما هم كذلك إذ لُدغ سَيّد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا: إنكم لم تقرونا ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جُعلاً، فجعلوا لهم قطيعًا من الشاء. فجعل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بُزاقه ويتفل، فبرأ، فأتوا بالشاء، فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم فسألوه، فضحك وقال: «وما أدراك أنها رقية؟ خذوها، واضربوا لي بسهم»[30].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات، فلما ثقل، كنت أنفث عليه بهن، وأمسح بيده نفسه لبركتها»[31].
والقرآن جعله الله شفاءً للمؤمنين، يستشفون به من أمراض القلوب والأبدان، فما من مرض حسي أو معنوي إلا وفي القرآن وسيلة دالة على الوقاية منه.
وإذا كان التداوي بتلك العقاقير الطبية قد جعل الله فيها الشفاء، فكيف بالقرآن العظيم الذي هو كلام رب العالمين، الذي لا يعلم عظيم فضله ولا حقيقة كنهه إلا الله تعالى[32].
وهناك شروط لا بدَّ أن تتوفر في الرقية من أجل أن تكون مشروعة؛ وهي:
1 ـ أن تكون باللسان العربي بأن تكون مفهومة معلومة، وليس من جنس الطلاسم.
2 ـ أن تكون بالقرآن الكريم، أو بأسماء الله وصفاته، أو بما صح من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم.
3 ـ أن لا يعتقد أنها تؤثر بذاتها، بل بإذن الله تعالى[33].
أما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الرقى والتمائم والتِّولة شرك» [34] فمحمول على الرقى الشركية والبدعية، التي لم تتوفر فيها الشروط الثلاثة آنفة الذكر، كيف والنبي صلّى الله عليه وسلّم قد قال: «لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك» [35]. وقد رقى هو نفسه صلّى الله عليه وسلّم ورُقي.
قال الخطابي: «فأما الرقى، فالمنهي عنه هو ما كان بغير لسان العرب فلا يدري ما هو، فلعله قد يدخله سحر أو كفر، فأما إذا كان مفهوم المعنى وكان فيه ذكر الله تعالى فإنه مستحب متبرك به والله أعلم»[36].
أما حكم كتابة بعض الآيات من القرآن ثم محوها بالماء وشربها وغسل البدن بها، فقد اختلف السلف في ذلك؛ فأجازه طائفة، منهم: ابن عباس، ومجاهد، وأبو قلابة، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، والقاضي عياض، وابن تيمية، وابن القيم. وكرهه طائفة، منهم: النخعي، وابن سيرين، وابن العربي[37].
وسئلت اللجنة الدائمة عن حكم ذلك، فأجابت بما ملخصه: أن هذا العمل لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا عن صحابته الكرام، فالأولى تركه[38]. وهذا هو الأولى والله أعلم.
المسألة السادسة: نسخ القرآن للكتب السابقة:
الكتب السماوية السابقة كلها منسوخة بالقرآن الكريم المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، فهو المهيمن على كل الكتب قبله، بمعنى: أنه مؤتمن وشاهد ورقيب، وحاكم وقاضي، ودالّ ومصدق، فالقرآن الكريم أمين على كل كتاب قبله، في أصله المُنزل، يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما فيها من التحريف والتبديل، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل، فصارت له الهيمنة عليها من كل وجه. ثم ميَّز الله عزّ وجل القرآن الكريم عن سائر الكتب بأن تعهد بحفظه وجعله معجزًا بلفظه ومعناه[39].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهكذا القرآن فإنه قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بيانًا وتفصيلاً، وبيَّن الأدلة والبراهين على ذلك وقرر نبوة الأنبياء كلهم ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعثت بها الرسل كلهم. وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين وبيَّن عقوبات الله لهم ونصره لأهل الكتب المتبعين لها، وبيَّن ما حُرِّف منها وبُدِّل وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبيَّن أيضًا ما كتموه مما أمر الله ببيانه وكل ما جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن، فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة، فهو شاهد بصدقها وشاهد بكذب ما حُرِّف منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره الله ونسخ ما نسخه، فهو شاهد في الخبريات حاكم في الأمريات»[40].
المسألة السابعة: قِدَم القرآن وكتابته في اللوح المحفوظ:
القرآن الكريم مكتوبٌ كله في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وهذا ما دل عليه الدليل، قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ *فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ *} [البروج] ، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ *لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ *} [الواقعة] ، «فالقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض، وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السُّنَّة والحديث أن كلَّ كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب، وقد دل القرآن على أن الرب تعالى كتب في أم الكتاب ما يفعله وما يقوله فكتب في اللوح أفعاله وكلامه»[41].
«وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره من السلف في تفسير قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *} [القدر] أنه أنزله إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزله بعد ذلك منجّمًا مفرّقًا بحسب الحوادث، فإن كونه مكتوبًا في اللوح المحفوظ، لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله، سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك، وإذا كان قد أنزله مكتوبًا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله، والله تعالى يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وهو سبحانه قد قدر مقادير الخلائق، وكتب أعمال العباد قبل أن يعملوها كما ثبت ذلك في صريح الكتاب والسُّنَّة وآثار السلف، ثم إنه يأمر الملائكة بكتابتها بعد ما يعملونها؛ فيقابل به الكتابة المتقدمة على الوجود والكتابة المتأخرة عنه فلا يكون بينهما تفاوت، هكذا قال ابن عباس وغيره من السلف، وهو حق، فإذا كان ما يخلقه بائنًا منه قد كتبه قبل أن يخلقه فكيف يستبعد أن يكتب كلامه الذي يرسل به ملائكته قبل أن يرسلهم به»[42].
المسألة الثامنة: رفع القرآن:
يُرفع القرآن في آخر الزمان، من صدور الرجال ومن المصاحف، في وقت لا يدرى فيه ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، فعن حذيفة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يُدرَس الإسلام كما يدرَس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيامِ، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليُسرى على كتاب الله عزّ وجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، لا إله إلا الله، فنحن نقولها»[43].
فلا يبقى في الصدور منه كلمة، ولا في المصاحف منه حرف، فحين يعرض الناس عن العمل بالقرآن إعراضًا كليًّا يرفعه الله تعالى عنهم تكريمًا له؛ لأن القرآن أشرف من أن يبقى بين يدي أناس هجروه وأعرضوا عنه فلا يقدِّرونه قدره[44].
المسألة التاسعة: حكم القول بتحريف القرآن أو تفضيل غيره عليه:
القول بتحريف القرآن أو نقصانه أو الزيادة عليه، أو تفضيل غيره عليه، قول باطل، بل هو كفر مخرج من ملة الإسلام، فإن الله تعالى تكفَّل بحفظ هذا القرآن فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *} [الحجر] ، فقد ضمن الله تعالى في هذه الآية حفظ ما نزله من الذكر على عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقد حقق الله وعده بأن وفّق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحفظ القرآن، بجمعه وكتابته وحفظه في صدورهم، وتلقاه التابعون عنهم فكان القرآن بذلك محفوظًا بحفظه سبحانه وتعالى، فمن زعم أنه قد أُسقط شيء من القرآن أو غُيِّر عمّا جاء عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنه كافر[45].
وكذلك من اعتقد أن هناك دينًا أفضل من القرآن، أو هديًا أكمل من هديه، أو حكمًا أحسن من الحكم الذي أتى به من عند ربه عزّ وجل، فقد كفر؛ لأنه كذب ما جاء في كتاب الله؛ فالله عزّ وجل يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا *} [الإسراء] ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ *} [المائدة] [46].
[1] مجموع الفتاوى (12/124).
[2] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، 9/141) [دار طوق النجاة، ط1] معلقًا مجزومًا، دون قوله: (صلصلة كجر السلسلة على الصفا). وأخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4738)، وابن حبان في صحيحه (كتاب الوحي، رقم 37) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1293) [مكتبة المعارف، ط1، 1415هـ].
[3] راجع: تفسير البغوي (6/83) [دار طيبة، ط4، 1417هـ]، الجامع لأحكام القرآن (13/28) [دار إحياء التراث العربي، 1405هـ]، وتفسير ابن كثير (6/109) [دار طيبة، ط2، 1420هـ].
[4] تفسير ابن كثير (2/434). وانظر منه: (1/501، 6/92)، الجامع لأحكام القرآن (4/5).
[5] انظر: الجامع لأحكام القرآن (1/110) [دار إحياء التراث العربي، 1405هـ]، والتذكار للقرطبي (46) [دار البيان بدمشق، ط3، 1407هـ]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (17/10 وما بعدها، 57)، وشفاء العليل (2/744) [مكتبة ألعبيكان، ط1، 1420هـ]، وفضائل القرآن الكريم، لعبد السلام الجار الله (417، 442)، والقرآن الكريم ومنزلته بين السلف ومخالفيهم (2/669).
[6] مجموع الفتاوى لابن تيمية (17/129). وانظر منه: (17/57، 137).
[7] انظر: تفسير الطبري (2/403) [دار هجر، ط1]، وصحيح ابن حبَّان (3/51، 56) [الإحسان، مؤسسة الرسالة، ط2]، والتمهيد لابن عبد البر (19/231) [مؤسسة قرطبة، مصورة عن الطبعة المغربية]، والاستذكار له (2/512) [دار الكتب العلمية، ط1، 1421هـ]، وتفسير البغوي (1/135) [دار طيبة، ط4، 1417هـ]، والجامع لأحكام القرآن (1/109)، والتذكار للقرطبي (45)، وشرح صحيح مسلم للنووي (6/93) [دار إحياء التراث العربي، ط2، 1392هـ]، ومجموع الفتاوى (17/46، 53، 103، 209)، وتفسير ابن كثير (1/105) [دار طيبة، ط2، 1420هـ]، والإتقان في علوم القرآن (4/117)، والتحبير للسيوطي (305) [دار العلوم بالرياض، ط1، 1402هـ]، وإتمام الدراية لقراء النقاية له (22) [دار الكتب العلمية، ط1، 1405هـ]، وفضائل القرآن الكريم (392) وما بعدها، و(399) وما بعدها.
[8] مجموع الفتاوى (17/10).
[9] المرجع السابق (17/12).
[10] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4474).
[11] أخرجه مسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 810).
[12] أخرجه البخاري (كتاب فضائل القرآن، رقم 5013)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ومسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 811) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
[13] أخرجه مسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 814)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
[14] مجموع الفتاوى (17/183) بتصرُّفٍ يسير.
[15] انظر: المرجع السابق (17/12، 210).
[16] المرجع السابق (17/146).
[17] المرجع السابق (17/80) بتصرُّفٍ يسير.
[18] انظر: معارج القَبول لحافظ الحكمي (3/1121).
[19] انظر: الجواب الصَّحيح لمَن بدَّل دين المسيح (5/425) [دار العاصمة، ط1، 1414هـ].
[20] انظر: تفسير ابن كثير (1/201، 4/461)، والمفهِم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/50) [دار ابن كثير ودار الكلم الطيِّب، ط1، 1417هـ]، وشرح صحيح مسلم للنووي (2/188)، وفتح الباري لابن حجر (9/6) [دار المعرفة ببيروت، 1379هـ].
[21] انظر: البداية والنِّهاية لابن كثير (6/77) [دار إحياء التراث العربي، ط2، 1408هـ].
[22] الجواب الصَّحيح لابن تيمية (5/429) بتصرُّفٍ يسيرٍ. وانظر منه: (5/411).
[23] النُّبُوَّات لابن تيمية (120) [المطبعة السلفيَّة بالقاهرة، ط1، 1386هـ].
[24] انظر: تفسير الطبري (12/343)، وبيان إعجاز القرآن للخطابي (21) [ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، دار المعارف، ط3]، والجامع لأحكام القرآن (1/72)، والجواب الصَّحيح (1/427، 5/409، 423، 429)، وشرح العقيدة الأصفهانية (208) [مكتبة الرشد بالرياض، ط1، 1415هـ]، وبدائع الفوائد (4/1547) [دار عالم الفوائد، ط1]، وتفسير ابن كثير (1/20 ـ فضائل القرآن، 160، 198، 201، 203، 3/535، 4/268، 310، 461، 603، 6/286) [دار طيبة، ط2، 1420هـ]، والبداية والنهاية (2/99، 6/77، 288)، وفتح الباري لابن حجر (6/582، 9/6)، والإتقان في علوم القرآن للسّيوطي (5/1873) [طبعة مجمع الملك فهد بالمدينة المنوَّرة، ط1، 1426هـ]، ومُعترَك الأقران له (1/3) [دار الكتب العلمية، ط1، 1408هـ]، ومعارج القَبول لحافظ الحكمي (3/1099)، ومباحث في إعجاز القرآن لمصطفى مسلم (121) [دار المسلم بالرياض، ط2، 1416هـ]، والأدلة العقليَّة النقليَّة على أصول الاعتقاد لسعود العريفي (522) [دار عالم الفوائد، ط1]، والقرآن الكريم ومنزلته بين السلف ومخالفيهم لمحمد هشام طاهري (1/389، 395، 407، 645، 650) [دار التوحيد، ط1، 1426هـ]، وفضائل القرآن الكريم لعبد السلام الجار الله (329) [دار التدمرية، ط1، 1429هـ].
[25] انظر أدلَّة التوسُّل المشروع عمومًا في كتاب: التوسُّل: أنواعه وأحكامه للألباني (29 ـ 42) [مكتبة المعارف بالرياض، ط1، 1421هـ].
[26] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7383) واللفظ له، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2717).
[27] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6382).
[28] أخرجه النسائي في الكبرى (كتاب عمل اليوم واللَّيلة، رقم 10330) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم في المستدرك (كتاب الدعاء، رقم 2000) وصححه، وحسَّنه الألباني في السلسلة الصَّحيحة (رقم 227).
[29] أخرجه مسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 804)، من حديث أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه.
[30] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5736)، ومسلم (كتاب السلام، رقم 2201).
[31] أخرجه البخاري (كتاب الطب، رقم 5735).
[32] انظر: (العين والرقية والاستشفاء من القرآن والسُّنَّة).لعطية محمد سالم (74، 75).
[33] انظر: مجموع الفتاوى (19/61)، وفتح الباري لابن حجر (10/240)، وشرح مسلم للنووي (3/88)، ومعالم السنن (4/226)، وفتح المجيد (147 ـ 148)، ومعارج القبول (2/637).
[34] أخرجه أبو داود (كتاب الطب، رقم 3883)، وابن ماجه (كتاب الطب، رقم 3530)، وأحمد (6/110) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب الرقى والتمائم، رقم 6090)، والحاكم (كتاب الطب، رقم 7505) وصححه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 331).
[35] أخرجه مسلم (كتاب السلام، رقم 2200).
[36] معالم السنن (4/226).
[37] انظر: الجامع لأحكام القرآن (13/160)، ومجموع الفتاوى (12/599)، وزاد المعاد (4/157)، وعارضة الأحوذي (8/222)، وأحكام الرقى والتمائم لفهد السحيمي (66 ـ 68).
[38] انظر: فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/246 ـ السؤال الأول من الفتوى رقم 1257).
[39] انظر: الصواعق المرسلة لابن القيم (2/400) [دار العاصمة، ط1، 1408هـ]. ولطائف المعارف لابن رجب (167 ـ 168، 309) [دار ابن كثير].
[40] مجموع الفتاوى (17/44).
[41] شفاء العليل (41) [دار المعرفة، 1398هـ] بتصرف.
[42] مجموع الفتاوى (12/126 ـ 127) بتصرف.
[43] أخرجه ابن ماجه (كتاب الفتن، رقم 4049)، والحاكم (كتاب الفتن والملاحم، رقم 8460) وصححه، وصححه البوصيري في المصباح (4/194) [دار العربية، ط2]، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 87).
[44] انظر: مجموع الفتاوى (3/198)، والبداية والنهاية لابن كثير (19/44)، مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (8/365) [دار الوطن، 1413هـ].
[45] انظر: الصارم المسلول (586). وانظر: الفِصَل في الأهواء والملل والنحل لابن حزم (4/139).
[46] انظر: المفيد في مهمات التوحيد (81) [دار الإعلام، ط1، 1423هـ].
الثمرات المترتبة على الإيمان بالقرآن الكريم هي:
1 ـ إثبات كلام الله تعالى بالوحي، وأنه جلّ جلاله يتكلم حقيقة متى شاء كيف شاء بما شاء، وأنه يسمع من شاء من خلقه كلامه كما سمعه جبريل عليه السلام منه بلا واسطة.
2 ـ الإيمان بالقرآن وأنه منزّل من عند الله يثمر عنه إثبات علو الله تعالى على خلقه؛ كما دلَّت عليه آيات القرآن الكريم، والسُّنَّة المتواترة الصحيحة، والفطرة السّوية، وصريح المعقول، وأجمعت عليه جميع الملل من اليهود والنّصارى والمسلمين.
3 ـ الرد على افتراءات الكفار والملحدين والمشككين الذين يزعمون أنَّ القرآن كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم أو كلام جبريل عليه السلام؛ ففي نزوله بيان أنه كلام الله تعالى، بلّغه عنه نبينا صلّى الله عليه وسلّم كما سمعه من جبريل عليه السلام، لفظًا ومعنًى ـ لا حكاية للفظ ولا تعبيرًا عن المعنى ـ، دون زيادة أو نقصان، لم يكتم منه شيئًا؛ فليس هو كلامه صلّى الله عليه وسلّم ولا كلام جبريل الأمين عليه السلام.
4 ـ أنَّ في الإيمان بالقرآن الكريم وأنه من عند الله تعالى أعظم دافع للتقرب إلى الله تعالى بالتعبد به، تلاوة وعملاً وانقيادًا لأوامره وأحكامه.
خالف الجهمية والمعتزلة[1] في هذا المعتقد الحق؛ فقالوا بخلق القرآن وكذا وجميع الكتب السماوية السابقة، وأن كلام الله بائن عنه، فمنهم من يقول: خلقه الله في اللّوح المحفوظ، ومنهم من يقول: بل خلقه في جبريل عليه السلام، ومنهم من يقول: خلقه في النبي صلّى الله عليه وسلّم!
والقول بخلق القرآن هو قول: الحلولية وغلاة الصوفية، والخوارج، وبعض المرجئة، وبعض الروافض المتقدمين، وأجمع عليه المتأخرون منهم، وهو قول الماتريدية، وهو حقيقة قول الفلاسفة والكلابية والأشاعرة[2].
وأول من ابتدع القول بخلق القرآن ونفي الصفات عمومًا وتعطيلها هو: الجعد بن درهم، في أوائل المائة الثانية ـ وعنه أخذه الجهم بن صفوان ـ؛ فكان يقول: إنّ الله لم يتّخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليمًا؛ فضحَّى به أمير العراق والمشرق بواسط خالد بن عبد الله القسري، والجهم قتله سلم بن أحوز أمير خراسان!
وأصل هذا القول مأخوذ عن المشركين والصابئة، عبدة الكواكب والنجوم ـ من البراهمة والمتفلسِفة ومبتدعة أهل الكتاب ـ، الذين يزعمون أن الرب ليس له صفة ثبوتية أصلاً! وهم ينكرون في الحقيقة أن يكون إبراهيم خليلاً وموسى كليمًا[3]!
ويردُّ عليهم: بأن إجماع السلف من الصحابة ومن بعدهم منعقد على أن القرآن كلام الله غير مخلوق، لا خلاف بينهم في ذلك[4]، وقد تضمَّن القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على أن القرآن كلام الله، منها قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} [التوبة: 6] ، وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ} [الفتح: 15] ، وكذلك دلَّت سُنَّة النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك، فعن جابر رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرض نفسه على الناس في الموقف، فقال: «ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشًا قد منعوني أن أبلِّغ كلام ربي»[5].
[1] انظر: المغني للقاضي عبد الجبار (7/3، 84)، وشرح الأصول الخمسة له (528، 535)، ومقالات الإسلاميِّين للأشعريّ (191، 582) [دار إحياء التراث العربي، ط3].
[2] انظر للحلوليَّة وغُلاة الصُّوفيَّة: اصطلاحات الصُّوفيَّة لابن عربي (9) [دائرة المعارف العثمانية بالهند، ط1، 1367هـ]، والإسرا إلى مقام الأسرى له (68) [دائرة المعارف العثمانية بالهند، ط1، 1367هـ]. وللخوارج والمرجئة والرَّوافِض: مقالات الإسلاميِّين (40، 153، 582)، وبحار الأنوار للمجلسي (92/117) [دار إحياء التراث، ط3، 1403هـ]. وللماتريديَّة: التوحيد لأبي منصور الماتريديّ (58) [دار المشرق ببيروت]، وأصول الدِّين للبزدوي (62) [طبعة مصطفى البابي الحلبي، ط1]. وللفلاسفة: مجموع الفتاوى (12/42، 163)، والجواب الصَّحيح لمَن بدَّل دين المسيح (3/311) [دار العاصمة، ط1، 1414هـ]. وللكلابيَّة والأشاعرة: الإنصاف للباقلاني (71، 93، 108) [عالم الكتب ببيروت، ط1، 1407هـ]، والإرشاد للجويني (109) [مؤسسة الكتب الثقافية، ط1، 1405هـ]، ومقالات الإسلاميِّين (584).
[3] انظر: مجموع الفتاوى (2/437، 6/69، 10/66، 13/177)، والفتاوى الكبرى (6/372) [دار الكتب العلمية، ط1، 1408هـ]، ومنهاج السُّنَّة النبوية (1/309، 5/392، 399)، والنبوات (101) [المطبعة السلفية بمصر، 1386هـ]، وجامع الرسائل لابن تيمية (2/237)، ومدارج السالكين (1/91، 2/292) [دار الكتاب العربي، ط2]، والصَّواعق المرسلة (3/1153) [دار العاصمة، ط3]، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (2/395)، وشرح نونية ابن القيم لابن عيسى (1/51) [المكتب الإسلامي، ط3، 1406هـ]، وشرح نونية ابن القيم لهراس (1/25) [دار الكتب العلمية، ط3، 1424هـ].
[4] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/37)، وعقيدة السلف للصابوني (165)، والشريعة للآجري (1/489)، وشرح أصول الاعتقاد للالكائي (2/300 ـ 344).
[5] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4734)، والترمذي (أبواب فضائل القرآن، رقم 2925) وقال: «حديث حسن صحيح»، وابن ماجه (المقدمة، رقم 201)، وأحمد (23/370) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والدارمي (كتاب فضائل القرآن، رقم 3397)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1947).
1 ـ «اجتماع الجيوش الإسلامية»، لابن القيم.
2 ـ «الجامع لأحكام القرآن» (ج2، 13)، للقرطبي.
3 ـ «الجواب الصحيح» (ج2، 4)، لابن تيمية.
4 ـ «الحجة في بيان المحجة» (ج1)، للتيميّ.
5 ـ «شرح العقيدة الأصفهانية»، ابن تيمية.
6 ـ «شرح الطحاوية» (ج1)، لابن أبي العزّ الحنفي.
7 ـ «فضائل القرآن الكريم»، لعبد السلام الجار الله.
8 ـ «القرآن الكريم ومنزلته بين السلف ومخالفيهم» (ج1)، لمحمد هشام طاهري.
9 ـ «مجموع الفتاوى» (ج5، 12)، لابن تيمية.
10 ـ «معارج القبول» (ج1، 3)، لحافظ الحكمي.