حرف القاف / القرب

           

قال ابن فارس: «القاف والراء والباء أصل صحيح يدل على خلاف البعد»[1].
القرب نقيض البعد، والتقرب عكس التَّنائي والابتعاد، وقرُب الشيء بالضم يقرب قُربًا وقُربانًا؛ أي: دنا؛ في الزمان أو المكان أو في النسبة أو في الحظوة أو في الرعاية أو في القدرة[2]، وقال الجوهري: «قَرُبَ الشيء بالضم يَقْرُبُ قُرْبًا؛ أي: دنا»[3].


[1] مقاييس اللغة (2/379) [دار الكتب العلمية، ط 1420هـ].
[2] انظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب (663، 664) [دار القلم، ط2، 1418]، لسان العرب (6/187) [دار صادر، ط1].
[3] الصحاح (1/198) [دار العلم للملايين، ط4].


القرب صفة من صفات الله عزّ وجل الخبرية الاختيارية الثابتة بالكتاب والسُّنَّة والإجماع. يقرب ممن شاء من خلقه كيف شاء[1].


[1] كيف شاء.


التقرب، الدنو.



يجب الإيمان بهذه الصفة لدلالة القرآن والسُّنَّة عليها، ويجب إثباتها لله تعالى كما يليق بجلاله وكبريائه وعظمته سبحانه، من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.



{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ *} [البقرة] . وقال تعالى: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ *} [هود] ، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ *} [سبأ] .
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، إنكم ليس تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، وهو معكم» الحديث[1].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء»[2].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (5/466) [طبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1416هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 4205)، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار رقم 2704).


قال الحافظ زكريا بن يحيى الساجي الشافعي: «القول في السُّنَّة التي رأيت عليها أصحابنا أهل الحديث الذين لقيناهم: أن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء»[1].
وبوّب الإمام الحافظ ابن منده في كتاب التوحيد بابًا بعنوان: «ذكر صفة جاءت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم على معنى القرب والبعد من الله عزّ وجل، وذكر خبر آخر يدل على الدنو من الله عزّ وجل». وذكر فيه جملة من الأحاديث الواردة في هذا المعنى[2].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما دنوّه نفسه وتقربه من بعض عباده؛ فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستواءه على العرش. وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر»[3].


[1] أخرجه مسلم (كتاب الصلاة، رقم 482).
[2] نقله عنه الذهبي في العلو للعلي الغفار (150) [المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، ط2، 1388هـ].
[3] كتاب التوحيد (3/125 ـ 127) [الجامعة الإسلامية بالمدينة، ط1، 1413هـ].


إن قرب الله سبحانه وتعالى من عباده على قسمين:
أ ـ القرب صفة فعلية اختيارية من جنس النزول والدنو، فهي تقوم به سبحانه وتعالى.
ب ـ القرب الخاص بالداعين والعابدين، فهو سبحانه قريب منهم بإثابته وإجابة دعائهم[1].


[1] مجموع الفتاوى (5/466).


المسألة الأولى: القريب اسم من أسماء الله:
وقد ورد ذكر هذا الاسم في القرآن الكريم والأحاديث النبوية بصيغة الاسم في مواضع عديدة، وذكره أكثر أهل العلم الذين اعتنوا بأسماء الله الحسنى وصنفوا فيها[1].
المسألة الثانية: الأقرب أفعل تفضيل من القرب:
وقد ورد هذا اللفظ في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، فذكر الحديث، وفيه: «والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم»[2].
وقد أثبت ابن الوزير[3] اسم (الأقرب) لله تعالى، وكل من ذكر أسماء الله تعالى الحسنى لم يذكر (الأقرب) ضمن أسماء الله إلا ابن الوزير كما سبق، وعلَّلوا ذلك أن من ضوابط أسماء الله الحسنى كون أسماء الله توقيفية؛ أي: يجب الوقوف في أسماء الله على القرآن والسُّنَّة، فلا يسمى الله إلا بما سمى به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم، لا نزيد على ذلك ولا ننقص منه، وما وضعه بعض العلماء من أسماء أخذت من أوصاف وأفعال لله هي عبارة عن اجتهادات منهم، لم يسم الله بها نفسه، ولم يسمه بها نبيِّه صلّى الله عليه وسلّم، وإنما وضعوها اشتقاقًا من فعله ووصفه، وهذا مخالف لكون الأسماء الحسنى توقيفية على النص.
المسألة الثالثة: يختلف معنى القرب في النصوص الشرعية باختلاف السياق:
لا بدَّ من النظر في كل آية وحديث بخصوصه وسياقه وما يبين معناه من القرآن والدلالات، وهذا أصل عظيم ونافع جدًّا في فهم الكتاب والسُّنَّة والاستدلال بهما، فالنصوص الدالة على قرب العبد من ربه أو قرب الرب من بعض خلقه لا بدَّ من النظر فيها أيضًا من هذا الجانب؛ لأنه قد يراد بها القرب الذاتي وقد يراد بها غير ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة، وينظر في النص الوارد؛ فإن دل على هذا حمل عليه، وإن دل على هذا حمل عليه، وهذا كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء»[4]. فالإتيان والمجيء قد يراد به إتيان الرب تعالى ومجيئه سبحانه، وقد يراد به إتيان عذاب الله أو آياته، فكذلك الشأن في النصوص الواردة في القرب، فقد يراد بها قرب الملائكة، وقد يراد بها قرب العبد من ربه أو قرب الرب من بعض عباده، فلا بدَّ من الانتباه لذلك. ومن ذلك القرب الوارد في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ *إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ *مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ *} [ق] ، وقوله تعالى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ *وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ *وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ *} [الواقعة] فالمراد به قرب الملائكة؛ لأن السلف فسَّروا القرب في هاتين الآيتين على معنى قرب الملائكة، ولأن الله تعالى ذكر العلم ثم ذكر القرب فلا يصح تفسيره بالعلم، ولأنه مقيد بزمان تلقي الملكين وبزمان الاحتضار والله عزّ وجل قادر على كل شيء، وهو سبحانه عالم بالظاهر والباطن في جميع الأحوال وليس ذلك مقصورًا على الميت ولا على زمان الاحتضار وتلقي الملكين، ولأن الله ذكره بصيغة الجمع، فلا شك أن المراد به قرب جنوده من الملائكة[5].
«وهذا التفسير ليس صرفًا للكلام عن ظاهره لمن تدبره، أما الآية الأولى فإن القرب مقيد فيها بما يدل على ذلك، حيث قال: {...وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ *مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ *} [ق] ، ففي قوله: (إِذْ يَتَلَقَّى) دليل على أن المراد به قرب الملكين المتلقيين.
وأما الآية الثانية: فإن القرب فيها مقيد بحال الاحتضار، والذي يحضر الميت عند موته هم الملائكة، لقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ *} [الأنعام] ، ثم إن في قوله: دليلاً بيّنًا على أنهم الملائكة؛ إذ يدل على أن هذا القريب في نفس المكان ولكن لا نبصره، وهذا يعيِّن أن يكون المراد قرب الملائكة لاستحالة ذلك في حق الله تعالى»[6].
المسألة الرابعة: صفة القرب لا تنافي علوَّ الله عزّ وجل:
إثبات صفة القرب لله تعالى لا يُنافي ما هو معلوم من علوّه تعالى فوق عرشه، فسبحان من هو عليّ في دنوه قريب في علوه، والذي يُسهِّل عليك فهم هذا: معرفة عظمة الربِّ؛ وإحاطته بخلقه، وأن السماوات السبع في يده كخردلة في يد العبد، وأنه سبحانه يقبض السماوات بيده والأرض بيده الأخرى؛ ثم يهزهنَّ، فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه؛ ويقرب من خلقه كيف شاء وهو على العرش؟ فإن الله عزّ وجل ليس كمثله شيء، ولا يجوز أن تقاس ذاته على ذوات خلقه، أو فعله على أفعالهم، وهذا القياس الباطل هو الذي أوقع العديد من أهل البدع في نفي صفة القرب عن الله عزّ وجل؛ وذلك أنهم لم يفهموا من القرب إلا ما هو اللائق بالمخلوق مما يقتضي الحلول والمماسة، فزعموا أن الله عزّ وجل منزَّه عن ذلك فنفوا قربه عزّ وجل من خلقه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأصل هذا أن قربه ودنوَّه من بعض مخلوقاته لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش بل هو فوق العرش، ويقرب من خلقه كيف شاء، كما قال ذلك من قاله من السلف، وهذا كقربه إلى موسى لما كلمه من الشجرة»[7].
المسألة الخامسة: معنى القرب الوارد في حديث: «إذا تقرب العبد إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا»[8]:
فسَّر جماعة من أئمة السلف قرب الله تعالى من عباده بالإثابة والأجر، وليس هذا تأويلاً منهم لظاهر النص.
قال إسحاق بن راهويه رحمه الله: «من تقرَّب إلى الله شبرًا بالعمل تقرب الله إليه بالثواب باعًا»[9].
و«لا يكون ظاهر الخطاب هو المعنى الممتنع بل ظاهره هو المعنى الحق، ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله بحركة بدنه شبرًا وذراعًا ومشيًا وهرولة، لكن قد يقال: عدم ظهور هذا هو للقرينة الحسية العقلية، وهو أن العبد يعلم أن تقربه ليس على هذا الوجه، وذلك لا يمنع أن يكون ظاهر اللفظ متروكًا، يقال: هذه القرينة الحسية الظاهرة لكل أحد هي أبلغ من القرينة اللفظية»[10].


[1] انظر: تفسير السعدي (5/630)، ملحق في آخر الجزء بعنوان: أصول وكليات من أصول التفسير، والحق الواضح المبين للسعدي (245) [مركز صالح بن صالح الثقافي بعنيزة، ط2، 1412هـ]، وشرح أسماء الله الحسنى للقحطاني (118) [مؤسسة الجريسي، الرياض، ط1، 1419هـ]، ومعجم ألفاظ العقيدة لعالم عبد الله فالح (334) [مكتبة العبيكان، ط2، 1420هـ].
[2] انظر: معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى (186) [دار إيلاف الدولية، ط1، 1417هـ].
[3] أخرجه بهذا اللفظ: مسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2704).
[4] إيثار الحق على الخلق (160) [دار الكتب العلمية، ط2].
[5] مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/14).
[6] انظر: بيان تلبيس الجهمية (6/25 ـ 36)، ومجموع فتاوى ابن تيمية (5/494 و6/19 ـ 20)، ومختصر الصواعق (2/267 ـ 269) [مكتبة الرياض الحديثة، ط 1349هـ]، وعلوّ الله على خلقه لموسى الدويش (269 ـ 277) [مكتبة العلوم والحكم، ط2، 1423هـ].
[7] القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (65) [دار ابن القيم، ط1، 1406هـ].
[8] مجموع الفتاوى (5/460).
[9] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7536)، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2675).
[10] مسائل الإمام أحمد وإسحاق للكرماني (345).


قُرب الله عزّ وجل من الداعين والمحسنين وعباده الصالحين الذي دلَّت عليه نصوص القرب تظهر آثاره من لطفه بهم، وتوفيقه لهم، وعنايته بهم، ونصره وتأييده لهم، وإجابة دعواتهم، وجزيل ثوابه وعطائه لهم؛ إذ قربه تعالى يقتضي إلطافه عزّ وجل، وإجابته لدعواتهم، وتحقيقه لمراداتهم، ولهذا يقرن باسمه القريب اسمه المجيب[1].


[1] بيان تلبيس الجهمية (6/103) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط1، 1426هـ].


ـ إيمان العبد ويقينه بقرب الله عزّ وجل منه وما يترتب على هذا القرب من المحاسن والمكارم يحمله على سلوك سبيل هؤلاء الداعين المحسنين أهل الصراط المستقيم حتى يظفر بهذه المِنح الإلهية والعطايا الربانية.
ـ ومن آثاره أيضًا: محبته سبحانه والأنس به؛ لأن الإيمان بقربه سبحانه القرب الخاص المستلزم للرحمة، وإجابة الدعوة، واللطف بعبده يثمر المحبة والطمأنينة والأنس به سبحانه، وطلب العون منه وحده، وحسن رجائه، وعدم اليأس من رحمته، والتضرع إليه في جميع الأحوال.
ـ كما أن إيمان العبد ويقينه بقرب الله عزّ وجل منه يحمله على البعد عن كل ما يسخط الله عزّ وجل ويغضبه؛ لأنه سبحانه وتعالى قريب منه مطلع عليه يعلم كل صغيرة وكبيرة تصدر منه، ولا يخفى عليه شيء من حاله في سرّه وعلانيته؛ فيحمل ذلك كله العبد على تعظيم الله عزّ وجل والخوف من أليم عقابه وسرعة انتقامه[1].
مذهب المخالفين:
القرب من جملة الصفات التي أنكرتها الفلاسفة والجهمية والمعتزلة الذين ينكرون الصفات بالكلية، ومن جملة الصفات التي أنكرتها الكلابية ومن وافقهم الذين ينكرون صفات الأفعال الاختيارية. فالفلاسفة يؤوِّلون قرب العبد من الرب بمعنى إزالة النقائص والعيوب عن نفسه وتكميلها بالصفات الحسنة الكريمة حتى تبقى مقاربة للرب مشابهة له من جهة المعنى، ويزعمون أن الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، فهؤلاء لا يثبتون القرب الحقيقي ـ وهو القرب المعلوم المعقول ـ[2]مع دلالة النصوص الشرعية عليه فهو قول باطل.
وكثير من أهل الكلام يزعمون أن الله ليس على العرش وأن العبد لا يتقرب إلى ذات الله تعالى، وإنما هو يتقرب ببدنه وروحه إلى الأماكن المفضلة.
ومنهم من يجعل هذا التقرب إلى ثواب الله وإحسانه وليس إليه سبحانه[3]، وهذا أيضًا باطل؛ لأن ثواب الله وإحسانه يصل إليهم ويصلون إليه، ويباشرهم ويباشرونه بدخوله فيهم ودخولهم فيه بالأكل والشرب، فإذا كانوا يكونون في نفس جنته ونعيمه وثوابه فكيف يجعل أعظم الغايات قربهم من إحسانه؟ ولا سيما المقربون؛ فهم فوق أصحاب اليمين الأبرار الذين كتابهم في عليِّين، قال الله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ *كِتَابٌ مَرْقُومٌ *يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ *إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعْيمٍ *عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ *تَعْرِفُ فِي وَجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ *يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ *خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ *وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ *عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ *} [المطففين] : فقد أخبر الله عزّ وجل أن الأبرار في نفس النعيم، وأنهم يسقون من الشراب الذي وصفه الله تعالى بما وصفه به في الآيات المذكورة، وأنهم يجلسون على الأرائك ينظرون. فكيف يقال: إن المقرَّبين الذين هم أعلى من هؤلاء، بحيث يشربونها صرفًا ويمزج لهؤلاء، إنما تقريبهم هو مجرد النعيم الذي أولئك فيه؟ هذا مما يعلم فساده بأدنى تأمل[4].
والقول الحق: إنما هو قول أهل السُّنَّة والجماعة الذين يثبتون أن الله على العرش، وأن حملة العرش أقرب إليه ممن دونهم، وأن ملائكة السماء العليا أقرب إليه من ملائكة السماء الثانية، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما عرج به إلى السماء صار يزداد قربًا إلى ربه بعروجه وصعوده، وكان عروجه إلى الله لا إلى مجرد خلق من خلقه، وأن روح المصلي تقرب إلى الله في السجود وإن كان بدنه على الأرض متواضعًا[5]، وهذا الذي دلَّت عليه نصوص الكتاب والسُّنَّة، فيجب ثبات هذه الصفة لله كما يليق بجلال الله وعظمته، لدلالة القرآن الكريم والأحاديث النبوية على ذلك.


[1] انظر: تفسير أسماء الله الحسنى للسعدي (185، 186) [مجلة الجامعة الإسلامية، عدد 112، 1423هـ]، وفقه الأسماء الحسنى (251 ـ 253) [دار التوحيد، ط1].
[2] انظر: مجموع الفتاوى (6/6 و12).
[3] انظر: المرجع السابق (6/7 و12).
[4] انظر: المرجع السابق (6/12، 13).
[5] انظر: مجموع الفتاوى (6/7)، وعلو الله على خلقه للدويش (268 ـ 269) [مكتبة العلوم والحكم، بالمدينة المنورة، ط2، 1423هـ].


1 ـ «الأسماء والصفات» (ج2)، للبيهقي.
2 ـ «بدائع الفوائد» (ج3)، لابن القيم.
3 ـ «بيان تلبيس الجهمية» (ج6)، لابن تيمية.
4 ـ «تأويل مختلف الحديث»، لابن قتيبة.
5 ـ «الحق الواضح المبين»، للسعدي.
6 ـ «شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسُّنَّة»، لسعيد بن علي القحطاني.
7 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي بن عبد القادر السقاف.
8 ـ «علو الله على خلقه»، لموسى بن سليمان الدويش.
9 ـ «العلو للعلي الغفار»، للذهبي.
10 ـ «منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات»، لمحمد الأمين الشنقيطي.
11 ـ «تفسير أسماء الله الحسنى»، للزجاج.
12 ـ «كتاب النعوت الأسماء والصفات»، للنسائي.
13 ـ «كتاب التوحيد» (ج3)، لابن منده.
14 ـ «مجموع الفتاوى» (ج4 و5 و6)، لابن تيمية.
15 ـ «مختصر الصواعق المرسلة» (ج2)، للموصلي.