القاف والصاد أصل صحيح يدلّ على تتبُّع الشّيء، ومن ذلك قولهم: اقتصَصْتُ الأثَر؛ إذا تتبَّعتَه، ومن ذلك اشتقاقُ القِصاص في الجِراح، وذلك أنَّه يُفعَل بهِ مثلُ فِعلهِ بالأوّل، فكأنَّه اقتصَّ أثره[1].
[1] انظر: مقاييس اللغة (5/7) [دار الفكر، ط 1399هـ]، تهذيب اللغة (8/210) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م]، والتعريفات ص225 [دار الكتاب العربي، ط2، 1413هـ]، والنهاية في غريب الحديث والأثر (4/113) [دار الفكر].
قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ *} [الزمر] عن الزبير بن العوام، قال: لما نزلت هذه السورة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ *ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ *} [الزمر] ، قال الزبير: أي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: «نعم، ليكررن عليكم، حتى يؤديَ إلى كل ذي حق حقه» ، فقال الزبير: والله إن الأمر لشديد[1].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما من رجل تكون له إبل، أو بقر، أو غنم لا يؤدي حقها، إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها، كلما جازت أُخراها رُدَّت عليه أُولاها حتى يقضى بين الناس»[2].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء»[3].
[1] أخرجه الترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3236) وقال: حسن صحيح، وأحمد (1/346، 353) [دار الفكر، ط1، 1411هـ] واللفظ له، والحاكم (كتاب التفسير، رقم 2981) وصححه، وصحح إسناده أحمد شاكر في حاشيته على المسند (3/3، 21) [دار المعارف، ط 1375هـ]، وجوَّد إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 340).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الزكاة، رقم 1460)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 990).
[3] أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2582).
قال الإمام البربهاري رحمه الله: «والإيمان بالقصاص يوم القيامة بين الخلق كلهم؛ بني آدم، والسباع، والهوام، حتى للذرة من الذرة، حتى يأخذ الله عزّ وجل لبعضهم من بعض؛ لأهل الجنة من أهل النار، وأهل النار من أهل الجنة، وأهل الجنة بعضهم من بعض، وأهل النار بعضهم من بعض»[1].
[1] شرح السُّنَّة (86) [مكتبة الغرباء الأثرية، ط1، 1414هـ].
المسألة الأولى: إن أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم تتقدم الأمم المقضي لهم يوم القيامة:
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق»[1].
المسألة الثانية: إن الدماء أول شيء يقع فيه القصاص يوم القيامة:
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء»[2].
المسألة الثالثة: إن القصاص بين العباد يوم القيامة يكون بالحسنات والسيئات، ويسقط بالتحلل من المظالم في الدنيا:
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلّله منها، فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه»[3].
المسألة الرابعة: إن القصاص بين المؤمنين يكون على القنطرة وقبل الاستقرار في الجنة؛ قال صلّى الله عليه وسلّم: «يَخلُص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا»[4].
المسألة الخامسة: إن القصاص بين الحيوان وغيرها من الدواب قصاص مقابلة؛ إظهارًا لعدل الله تعالى؛ قال صلّى الله عليه وسلّم: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء»[5].
وقد علق الإمام النووي على الحديث بقوله: «وأما القصاص من القرناء للجلحاء فليس هو من قصاص التكليف؛ إذ لا تكليف عليها، بل هو قصاص مقابلة»[6].
وقال ابن حجر الهيتمي: «فهذا من الدليل على القصاص بين البهائم، وبينها وبين بني آدم، حتى الإنسان لو ضرب دابة بغير حق أو جوَّعها، أو عطَّشها، أو كلَّفها فوق طاقتها فإنها تقتص منه يوم القيامة بنظير ما ظلمها أو جوَّعها، ويدل لذلك حديث الهرة[7]»[8].
[1] أخرجه مسلم (كتاب الجمعة، رقم 856).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6533)، ومسلم (كتاب القسامة، رقم 1678)، واللفظ له.
[3] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6534).
[4] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6535).
[5] تقدم تخريجه.
[6] شرح صحيح مسلم للنووي (16/137).
[7] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3318)، ومسلم (كتاب السلام، رقم 2243).
[8] الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/689) [مكتبة النشر، 1420هـ].
القصاص من الأمور التي تسقط بها العقوبة الأخروية بالنار، قال شيخ الإسلام: «إن الذنوب مطلقًا من جميع المؤمنين هي سبب العذاب، لكن العقوبة بها في الآخرة في جهنم تندفع بنحو عشرة أسباب...السبب العاشر: ما ثبت في الصحيحين أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أُذن لهم في دخول الجنة»[1].
[1] منهاج السُّنَّة النبوية (3/179 ـ 186) [جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1، 1406هـ].
ذهب طائفة إلى إنكار حشر غير الثقلين من الدواب؛ لكونها ليست مكلفة ولا أهلاً للكرامة، والحديث الوارد في ذلك كناية عن العدل التام[1].
ولا حجة لهم في ذلك؛ لأن القصاص بين غير الثقلين قصاص مقابلة[2] لا قصاص تكليف؛ ولأن القرآن قد دل على حشر غير الثقلين، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ *} [التكوير] ، ودلَّت السُّنَّة الصحيحة على حشرها والمقاصة بينها في غير ما حديث كما تقدم؛ وعليه فلا يجوز صرف النصوص عن ظاهرها وإلا كان تحريفًا لها.
[1] انظر: روح المعاني (29/52) [دار إحياء التراث، ط4، 1405هـ]، ومجموع الفتاوى (4/248)، والتذكرة في أحوال الموتى والآخرة (315) [دار قباء].
[2] انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (16/137) [دار الكتب العلمية].