القنوت مصدر قنت يقنت قنوتًا، ومعناه: الطاعة والخير في الدين، ثم أطلق على كل طاعة في طريق الدين قنوتًا، قال ابن فارس: «القاف والنون والتاء أصل صحيح، يدل على طاعةٍ وخير في دين، لا يعدو هذا الباب، والأصل فيه الطاعة»[1].
ويطلق القنوت على معان كثيرة؛ كطول القيام في الصلاة، والسكوت فيها، والإقبال عليها، والخشوع فيها، قال الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ *} [البقرة] ، كما يطلق على الدعاء في الصلاة، وإقامة الطاعة، وغير ذلك من المعان الكثيرة[2].
[1] مقاييس اللغة (5/31) [دار الجيل، ط1، 1411هـ]. وانظر: لسان العرب (2/73) [دار الفكر، ط1].
[2] انظر: لسان العرب (2/73).
القنوت : هو «دوام الطاعة في خضوع وخشوع»[1].
وقد تعددت عبارات العلماء في المراد بالقنوت في الشرع ـ تبعًا لتعدد معانيه في اللغة ـ على أقوال؛ أهمها ما يلي:
قال الراغب الأصفهاني: «القنوت: لزوم الطاعة مع الخضوع»[2].
وقال الطبري: «إن أصل القنوت: الطاعة»[3].
وقال ابن كثير: «القنوت هو: الطاعة في سكون»[4].
وهذه التعاريف كلها متقاربة، تدل على أن المراد بالقنوت: دوام الطاعة مع الخضوع لله تعالى.
ويدخل في ذلك كل طاعة داوم عليها العبد، من صلاة، ودعاء، وخشوع، ونحو ذلك من أنواع الطاعة.
[1] تفسير السعدي (130) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[2] المفردات، للراغب الأصفهاني (684).
[3] تفسير الطبري (2/571) [دار الفكر، 1405هـ].
[4] تفسير ابن كثير (3/536).
حقيقة القنوت : هي طاعة الله تعالى، والخضوع والإذلال له سبحانه، فحقيقته تدور حول معنى: الخشوع، والخضوع، والإنابة، والطمأنينة.
والقانت لله تعالى هو الخاضع له بالطاعة، المذعن له بالعبودية، والمنيب إليه بالتوبة[1].
والقنوت : لا يكون إلا اجتهادًا في الطاعة، واطمئنان القلب بالإيمان.
وقد تعددت معاني القنوت بتعدد سياقاتها في القرآن الكريم، فمرة يرد بمعنى السكوت، ومرة بمعنى الطاعة والعبادة، ومرة بمعنى الانقياد، وبكل واحد من هذه المعاني فُسر قول الله عزّ وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ *} [البقرة] .
[1] انظر: تفسير الطبري (18/628)، وزاد المسير لابن الجوزي (648، 649) [المكتب الإسلامي، ط1، 1423هـ]، ومدارج السالكين لابن القيم (2/3) [دار الكتب العلمية ط1، 1403هـ]، وشفاء العليل (183).
يعدُّ القنوت من أرفع أحوال العبودية وأسماها، فلا يتصف به إلا من اطمأن قلبه بالإيمان، واجتهد في تحقيق طاعة الرحمن، ومما يدل على علو منزلة القنوت أن صاحبه يخشع قلبه إذا ذكر الله، ويصبر على ما أصابه من نوائب الدهر ونكباته، ويداوم على إقامة الصلاة وعلى الإنفاق مما رزقه الله، ثم عاقبته الحميدة أن يكون من أصحاب الجنة الخالدين فيها.
قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ *} [الروم] ، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ *} [البقرة] ، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [النحل] . وغيرها من الآيات.
ومن السُّنَّة حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصلاة طول القنوت»[1].
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما يعدل الجهاد في سبيل الله عزّ وجل؟ قال: «لا تستطيعونه» ، قال: فأعادوا عليه مرتين، أو ثلاثًا كل ذلك يقول: «لا تستطيعونه» ، وقال في الثالثة: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام، ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى»[2].
[1] أخرجه مسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 756).
[2] أخرجه مسلم (كتاب الإمارة، رقم 1878).
قال القرطبي: «قيل: إن أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء، ومن حيث كان أصل القنوت في اللغة الدوام على الشيء، جاز أن يسمى مديم الطاعة قانتًا، وكذلك من أطال القيام والقراءة والدعاء في الصلاة، أو أطال الخشوع والسكوت، كل هؤلاء فاعلون للقنوت»[1].
ـ وقال ابن حجر: «ذكر ابن العربي أن القنوت ورد لعشرة معان؛ فنظمها شيخنا الحافظ زين الدين العراقي، فيما أنشدنا لنفسه إجازة غير مرة:
ولفظَ القنوتِ اعدُد معانيَه تجدْ
مزيدًا على عشر معاني مرضيهْ
دعاء خشوع والعبادة طاعه
إقامتها إقراره بالعبوديه
سكوت صلاة والقيام وطوله
كذاك دوام الطاعة الرابح النيّه»[2].
[1] الجامع لأحكام القرآن (4/185).
[2] فتح الباري لابن حجر (2/435) [دار الريان للتراث، ط2، 1409هـ].
يقسم العلماء القنوت إلى نوعين:
1 ـ قنوت خاص:
وهو طاعة الله تعالى، وهو قنوت اختيار، ولذا كان خاصًّا بالمؤمنين دون غيرهم، قال الله تعالى في وصف خليله إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [النحل] ، وقال في حق مريم: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ *} [التحريم] ، وقال تعالى في وصف عباده المؤمنين: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ *} [آل عمران] ، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] ، وهذا النوع كثير في القرآن الكثير.
2 ـ قنوت عام:
وهو إخضاع وإذلال، وهو قنوت إكراه، قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ *} [الروم] ، وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ *} [البقرة] ؛ أي: خاضعون أذلاء[1].
[1] انظر: مدارج السالكين (1/120) [دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ]، وتفسير السعدي (64).
من آثار القنوت:
1 ـ أنه يدل على الصلاح والاستقامة على أمر الله تعالى.
2 ـ أنه سبب لرضوان الله، ودخول الجنة.
3 ـ أنه يورث السعادة في الدنيا والآخرة.
4 ـ أن بالقنوت لله ولزوم طاعته تنال محبة الرب تعالى.
5 ـ أنه سبب لدفع كيد الشيطان؛ لتعلق القانت بربه ولجوئه إليه[1].
[1] انظر: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم (8/3187) [دار الوسيلة، ط الرابعة].
1 ـ «إصلاح القلوب»، لعبد الهادي حسين وهبي.
2 ـ «أعمال القلوب: حقيقتها وأحكامها عند أهل السُّنَّة والجماعة ومخالفيهم»، لسهل العتيبي.
3 ـ «أعمال القلوب وأثرها في الإيمان»، لمحمد دوكوري.
4 ـ «تفسير الطبري» (ج2).
5 ـ «تفسير القرآن»، لابن عثيمين.
6 ـ «تفسير ابن كثير» (ج3).
7 ـ «جامع الرسائل»، لابن تيمية [رسالة في قنوت الأشياء].
8 ـ «الجامع لأحكام القرآن» (ج4)، للقرطبي.
9 ـ «فتح الباري»، لابن حجر.
10 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيم.