يقول ابن فارس: «القاف والواو والسين أصلٌ واحدٌ يدلُّ على: تقدير شيءٍ بشيء، ثم يُصَرَّف فتقلبُ واوهُ ياءً، والمعنى في جميعِهِ واحد.
وتقلب الواوُ لبعض العِلَل ياءً فيقال: بيني وبينه قِيسُ رُمْح؛ أي: قَدْرُه، ومنه القِياسُ، وهو تَقديرُ الشَّيء بالشيء، والمقدار مِقْياسٌ. تقول: قَايَسْتُ الأمْرَينِ مُقايَسَةً وقياسًا»[1].
«وقِسْتُ الشيء بغيره وعلى غيره أَقِيسُ قَيْسًا وقِياسًا فانقاس؛ إِذا قدَّرته على مثاله»[2].
[1] مقاييس اللغة (5/40) [دار الجيل، ط2، 1420هـ].
[2] لسان العرب (6/186) [دار صادر، ط1].
تعريف القياس اصطلاحًا يختلف باختلاف أنواعه، وهو على نوعين:
1 ـ قياس التمثيل ، ويسمى: القياس الفقهي، كما يسمى: قياس الشاهد على الغائب.
وتعريفه: حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما[1].
2 ـ قياس الشمول ، ويسمى: القياس المنطقي.
ويعرفونه بأنه: قول مؤلف من قضايا، إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر[2].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية موضحًا معنى القياسين: «قياس الشمول هو: انتقال الذهن من المعين إلى المعنى العام المشترك الكلي المتناول له ولغيره، والحكم عليه بما يلزم المشترك الكلي، بأن ينتقل من ذلك الكلي اللازم إلى الملزوم الأول ـ وهو المعيَّن ـ فهو انتقال من خاص إلى عام، ثم انتقال من ذلك العام إلى الخاص، من جزئي إلى كلي، ثم من ذلك الكلي إلى الجزئي الأول، فيحكم عليه بذلك الكلي.
وأما قياس التمثيل، فهو: انتقال الذهن من حكم معين إلى حكم معين؛ لاشتراكهما في ذلك المعنى المشترك الكلي؛ لأن ذلك الحكم يلزم ذلك المشترك الكلي»[3].
وكلا القياسين من التمثيل والشمول يستعملان على وجهين:
الوجه الأول: قياس المساواة، وهو: أن يكون الغائب مماثلاً أو مقاربًا للشاهد.
الوجه الثاني: قياس الأولى، وهو أن يكون الغائب أولى بالحكم من الشاهد[4].
والتحقيق أن حقيقة القياسين (قياس التمثيل وقياس الشمول) راجعة إلى معنى واحد، فحقيقتهما سواء، واختلافهما إنما هو في صورة الاستدلال، «وذلك أن قياس الشمول مبناه على اشتراك الأفراد في الحكم العام وشموله لها، وقياس التمثيل مبناه على اشتراك الاثنين في الحكم الذي يعمهما ومآل الأمرين واحد»[5].
[1] روضة الناظر (275) [جامعة الإمام، ط4، 1399هـ]. وانظر: قواطع الأدلة للسمعاني (2/70) [دار الكتب العلمية، 1418هـ]، والبرهان للجويني (2/487) [دار الوفاء، ط4]، ومعيار العلم في المنطق للغزالي (105) [المطبعة الغربية بمصر، ط2، 1346]، وطرق الاستدلال ومقدماتها عند المناطقة والأصوليين (285) [مكتبة الرشد، ط1، 1421هـ].
[2] انظر: التعريفات للجرجاني (232) [دار الكتاب العربي، ط1، 1405هـ]، والتوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (595) [دار الفكر المعاصر، ط1، 1410هـ]، وإيضاح المبهم من معاني السلم (12) [مطبعة البابي الحلبي، 1342هـ]، والمعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية (149) [المطابع الأميرية، ط 1402هـ]، والمعجم الفلسفي لجميل صليبا (2/207) [الشركة العالمية للكتاب، 1414هـ].
[3] الرد على المنطقيين (119، 120) [دار المعرفة].
[4] انظر:درء التعارض (1/29)، و(7/154، 155، 322 ـ 324، 362، 363) [دار الكتب العلمية، 1417هـ]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (3/296) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وشرح العقيدة الأصفهانية (74)، وآثار المثل الأعلى لعيسى السعدي [بحث منشور في مجلة جامعة أم القرى].
[5] الرد على المنطقيين (3364 ـ 3365). وانظر: درء تعارض العقل والنقل (6/126).
حكم استعمال القياس في العقيدة والتوحيد.
استعمال القياس فيما يتعلق بالله وصفاته على قسمين[1]:
القسم الأول: أن يكون فيما بين صفات الله تعالى نفسها، فيجوز استعمال القياسين:
أ ـ قياس المساواة. ب ـ وقياس الأولى.
القسم الثاني: أن يكون فيما بين صفات الخالق وصفات المخلوق، فلا يجوز استعمال قياس المساواة، وإنما يجوز في ذلك قياس الأولى.
وفيما يلي تفصيل ذلك وبيان أدلته وأمثلته وأقوال العلماء في كل قسم منه:
القسم الأول: أن يكون فيما بين صفات الله تعالى نفسها، وأفعاله.
أي: يكون في اعتبار شيء من صفات الله تعالى أو أفعاله ـ مما ينكره المخالف ـ بصفات أو أفعال أخرى مما يقر به المخالف.
والحكم في هذا القسم أنه يجوز استعمال القياسين:
أ ـ قياس المساواة.
ب ـ وقياس الأولى.
[1] انظر: آثار المثل الأعلى لعيسى السعدي.
أ ـ مثال استعمال قياس المساواة في ذلك:
ـ قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ *} [الروم]
فقاس النّظير على النّظير؛ ودلّ بفعله المتحقّق بالمشاهدة من إخراج وإحياء على بعث الأموات الَّذي استبعدوه وأنكروه؛ إذ الفعل الموعود نظير الفعل المشاهد[1].
ب ـ ومثال استعمال قياس الأولى في ذلك:
ـ قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [آل عمران] ، فقاس القدرة على خلق عيسى على القدرة على خلق آدم؛ لأنّ من قدر على الخلق من غير أب ولا أم فقدرته على الخلق بأمٍّ من غير أبٍ من باب أولى[2].
القسم الثاني: أن يكون فيما بين صفات الخالق والمخلوق.
فلذلك حالتان:
الحالة الأولى: إن كان من باب قياس المساواة: فهو ممتنع ومحرم، بل هو من التمثيل والشرك بالله، سواء كان قياس تمثيل أو قياس شمول.
وعلى هذا تحمل أقوال السلف في المنع من القياس في العقيدة والتوحيد، وسيأتي بعضها.
[1] انظر: أعلام الموقعين (1/143، 144، 139، 142، 146) [دار الكتاب العربي، ط1، 1416].
[2] انظر: الجواب الصّحيح لمن بدل دين المسيح (4/55) [دار العاصمة، ط2، 1419هـ]، ولأمثلة أخرى انظر: درء التعارض (1/32 ـ 38) و(7/362 وما بعدها)، وشرح الأصفهانية (117) [مكتبة الرشد، ط1، 1415هـ]، وبيان تلبيس الجهمية (2/535) [مطبعة الحكومة، ط1، 1392هـ]، وإعلام الموقعين (1/130) [دار الجيل، 1973م]، ومفتاح دار السعادة (2/76، 77) [دار الكتب العلمية]، وآثار المثل الأعلى لعيسى السعدي.
1 ـ انتفاء القياس في حقه تعالى مبني على أصل عظيم، وهو أن الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]
والقياس ـ أي: قياس المساواة، تمثيلاً كان أو شمولاً ـ مبنيٌّ على نوع تماثل بين الأصل والفرع.
فلما نفي التماثل فيما بينه تعالى وبين خلقه كان ذلك دليلاً على منع القياس في حقه تعالى، بل إن ذلك من الشرك بالله؛ لأنه يتضمن التسوية بين الله ومخلوقاته[1].
فإذا حكموا على القدر المشترك ـ الذي هو الحد الأوسط ـ بحكم يتناوله والمخلوقات، كانوا بين أمرين: إما أن يجعلوه كالمخلوقات، أو يجعلوا المخلوقات مثله، وهذا من أبطل الباطل[2].
2 ـ أن استعمال القياس قائم على إثبات قضيَّة كلية تعمُّ المقيس والمقيس عليه، وهي ما يسمى: (العلة) في قياس التمثيل، و(الحد الأوسط) في قياس الشمول.
وهذه القضية الكلية التي ينبني عليها القياس لا يمكن إثباتها بيقين في باب التوحيد، وذلك للعلم بوجود الفارق بين المقيس والمقيس عليه، فبطل القياس.
[1] انظر: الحجة في بيان المحجة (1/125) [دار الراية، ط2، 1419هـ]، ومجموع الفتاوى (13/164)، وبيان تلبيس الجهمية (2/536).
[2] انظر: شرح العقيدة الأصفهانية (74، 75).
مما ورد عن أهل العلم في المنع من استعمال قياس المساواة في حق الله تعالى ما يلي:
قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في رده على المريسي: «أولم تسمع أيها المريسي قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، وكما ليس كمثله شيء ليس كسمعه سمع، ولا كبصره بصر، ولا لهما عند الخلق قياس ولا مثال ولا شبيه، فكيف تقيسهما أنت بشبه ما تعرف من نفسك، وقد عبت على غيرك»[1].
وللقاضي أبي يوسف ـ صاحب أبي حنيفة ـ رحمهما الله كلام نفيس حول ذم القياس في الاعتقاد، يقول فيه: «ليس التوحيد بالقياس، ألم تسمع إلى قول الله عزّ وجل في الآيات التي يصف بها نفسه أنه عالم قادر قوي مالك، ولم يقل: إني قادر عالم لعلة كذا أقدر، ولسبب كذا أعلم، ولهذا المعنى أملك، فلذلك لا يجوز القياس في التوحيد، ولا يعرف إلا بأسمائه، ولا يوصف إلا بصفاته... فقد أمرنا الله أن نوحده، وليس التوحيد بالقياس؛ لأن القياس يكون في شيء له شبه ومثل، والله لا شبه له ولا مثل، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ *} [المؤمنون] ، ثم قال: وكيف يدرك التوحيد بالقياس، وهو خالق الخلق بخلاف الخلق، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، تبارك وتعالى ، ولو توسع على الأمة التماس التوحيد ابتغاء الإيمان برأيه وقياسه وهواه إذًا لضلوا»[2].
وقال الإمام ابن عبد البر: «لا خلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السُّنَّة وهم أهل الفقه والحديث في نفي القياس في التوحيد»[3].
وقال: «والقياس غير جائز في صفات الباري تعالى؛ لأنه ليس كمثله شيء»[4].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذكر عقيدة أهل السُّنَّة: «ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سميّ له، ولا كفو له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى»[5].
الحالة الثانية: إن كان من باب قياس الأولى فهو جائز.
[1] نقض الدارمي على المريسي (1/308) [مكتبة الرشد، ط1، 1418هـ].
[2] الحجة في بيان المحجة (1/122 ـ 125).
[3] جامع بيان العلم وفضله (2/76) [دار الكتب العلمية، 1398هـ].
[4] التمهيد لابن عبد البر (19/232) [طبعة وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، 1387هـ].
[5] العقيدة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى لاين تيمية (3/130).
قال الله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ *وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ *لِلَّذِينَ لاَ يؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [النحل] .
وقال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصّلت: 15] .
من أنواع القياس:
1 ـ قياس التمثيل: حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما.
2 ـ قياس الشمول: وهو انتقال الذهن من المعين إلى المعنى العام المشترك الكلي المتناول له ولغيره.
ويستخدم في القياس قياس المساواة، وهو: أن يكون الغائب مماثلاً أو مقاربًا للشاهد.
وكل هذا لا يستخدم في حق الله تعالى.
ويستخدم القياس بمعنى: قياس الأولى.
وحقيقة قياس الأولى (المثل الأعلى) فيما بين المخلوق والخالق تتبين بأمرين:
الأول: أن كل كمال مطلق ممدوح لنفسه ثبت للممكن أو المحدَث المخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق أولى به.
والكمال المطلق هو الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وهو ما كان كمالاً للموجود غير مستلزم للعدم، وهو الكمال الذي يستحقه الموجود من جهة وجوده.
ويحترز بذلك عن الكمال النسبي، فإنه مستلزم للنقص، وهو ما كان كمالاً للمخلوق، ولكنه نقص بالنسبة إلى الخالق لاستلزامه نقصًا، فهو كمال من وجه دون وجه، كالأكل والشرب مثلاً، فإن الصحيح الذي يشتهي الأكل والشرب من الحيوان أكمل من المريض الذي لا يشتهى الأكل والشرب؛ لأن قوامه بالأكل والشرب، فهذا الكمال للمخلوق في الحقيقة ليس كمالاً مطلقًا، بل هو كمال نسبي؛ لأنه يستلزم نقصًا، كاستلزامه لحاجة المخلوق للأكل والشرب، وهو مستلزم لخروج شيء منه كالفضلات، وهذا نقص يتنزه الله عنه، فلا يثبت له مثل هذا الكمال النسبي؛ لأنه نقص في الحقيقة[1]. وقد تقدم مثال ذلك من النصوص.
وإثبات الصفة للخالق بطريق قياس الأولى إنما يكون مع التّفاوت الّذي لا يضبطه العقل، كما لا يضبط التّفاوت بين الخالق وبين المخلوق، بل إذا كان العقل يدرك من التّفاضل الّذي بين مخلوقٍ ومخلوقٍ ما لا ينحصر قدره، وهو يعلم أنّ فضل الله على كلّ مخلوقٍ أعظم من فضل مخلوقٍ على مخلوقٍ، كان هذا ممّا يبيّن له أنّ ما يثبت للرّبّ أعظم من كلّ ما يثبت لكلّ ما سواه بما لا يدرك قدره[2].
الثاني: أن كل نقص وعيب في نفسه إذا وجب نفيه عن شيء ما من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات فإنه يجب نفيه عن الرب تبارك وتعالى بطريق الأولى.
والمقصود بما كان نقصًا وعيبًا في نفسه: ما لا كمال فيه، وهو ما تضمن سلب الكمال عن ذلك المخلوق؛ أي: ما تنزَّه عنه الموجود لكمال وجوده[3].
وبناء على ذلك فالخالق أحق بالأمور الوجودية من كل موجود، وأما الأمور العدمية فالممكن المحدث بها أحق، فهو سبحانه أحق بكل حمد وأبعد عن كل ذم[4].
ولا يدخل في ذلك ما كان نقصًا في حق المخلوق لكونه من خصائص الربوبية، كالتعالي والتكبر والثناء على النفس وأمر الناس بعبادته ودعائه والرغبة إليه ونحو ذلك مما هو من خصائص الربوبية، هذا كمال محمود من الرب تبارك وتعالى ، وهو نقص مذموم من المخلوق، فهذه كلها صفات كمال لا يستحقها إلا هو، فما لا يستحقه إلا هو كيف يكون كمالاً من غيره وهو معدوم لغيره؟! فمن ادَّعاه كان مفتريًا منازعًا للربوبية في خواصها، ذلك أن الكمال المختص بالربوبية ليس لغيره فيه نصيب، فهذا تحقيق اتصافه بالكمال الذي لا نصيب لغيره فيه، ومثل هذا الكمال لا يكون لغيره، فادِّعاؤه منازعة للربوبية، وفرية على الله[5].
ومثال ذلك: أن المشركين كانوا يرون البنات نقصًا، ومع ذلك يزعمون أن الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم، فكان الجواب عليهم بأنهم إذا كانوا ينزهون أنفسهم عن البنات ويرونها نقصًا، فالله تعالى أولى بالتنزه عنها، كما قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ *وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ *لِلَّذِينَ لاَ يؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [النحل] إلى قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل: 62] .
وقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاََّّتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى *أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى *} [النجم] ، فهذا احتجاج عليهم بقياس الأولى[6].
مثال آخر في النفي: أن الله عاب الأصنام بأنها لا تسمع ولا تُرجع القول، فقال: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا *} [طه] . وهذه الحجّة من باب قياس الأولى، وهي من جنس الأمثال الّتي ضربها الله في كتابه، فإنّ الله تعالى عاب الأصنام بأنّها لا ترجع قولاً، وأنّها لا تملك ضرًّا ولا نفعًا، وهذا من المعلوم ببداية العقول أنّ كون الشّيء لا يقدر على التّكلّم صفة نقص، وأنّ المتكلّم أكمل من العاجز عن الكلام، وكلّما تنزّه المخلوق عنه من صفة نقص فالله تعالى أحقّ بتنزيهه عنه، وكلّما ثبت لشيءٍ من صفة كمال فالله تعالى أحقّ باتّصافه بذلك، فالله أحقّ بتنزيهه عن كونه لا يتكلّم من الأحياء الآدميّين، وأحقّ بالكلام منهم، وهو سبحانه وتعالى منزّه عن مماثلة النّاقصين، المعدوم والموات[7].
[1] انظر: الرسالة الأكملية ضمن مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/87، 137).
[2] انظر: مجموع الفتاوى لاين تيمية (9/145).
[3] انظر: درء التعارض (1/29 ـ 30) (7/154، 155، 322 ـ 324، 362 ـ 363)، مجموع الفتاوى (1/48) (3/30، 297) (9/145) (12/350)، وشرح الأصفهانية (74).
[4] انظر: درء التعارض (1/30) (7/154، 155).
[5] انظر: الرسالة الأكملية ضمن مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/136 ـ 138).
[6] انظر: درء التعارض (7/362، 363).
[7] انظر: إقامة الدليل على بطلان التحليل لابن تيمية ضمن الفتاوى الكبرى (6/452) [دار الكتب العلمية، ط1، 1408هـ].
قياس التمثيل (القياس الفقهي) له أربعة أركان:
1 ـ الأصل.
2 ـ الفرع.
3 ـ الجامع بينهما (العلة).
4 ـ الحكم[1].
وتوضيح ذلك ما ذكره ابن القيم في سياقه لأدلة القياس وأمثلته بقوله: «ومنه قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَةِ قَوْمٍ آخَرِينَ *} [الأنعام] ، فهذا قياسٌ جليٌّ، يقول سبحانه: إن شئت أذهبتكم واستخلفت غيركم، كما أذهبت من قبلكم واستخلفتكم، فذكر أركان القياس الأربعة:
علّة الحكم، وهي: عموم مشيئته وكمالها.
والحكم، وهو: إذهابه بهم وإتيانه بغيرهم.
والأصل، وهو: من كان من قبل.
والفرع: وهم المخاطبون»[2].
[1] انظر: المستصفى للغزالي (1/280، 324) [دار الكتب العلمية، ط1، 1413هـ]، وروضة الناظر (315)، الإبهاج للسبكي (3/37) [دار الكتب العلمية، ط1، 1404هـ].
[2] انظر: إعلام الموقعين (1/138).
ـ المثل الأعلى:
جاء ذكر المثل الأعلى في موضعين من كتاب الله تعالى، قال : {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل: 60] ، وقال: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم: 27] . وللسلف ثلاثة أقوال في المثل الأعلى:
القول الأول: أن المراد بالمثل الأعلى: تنزيه الرب عن وجود المثل. عن ابن عباس في قوله: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} قال: «يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ»[1].
وعلى هذا القول يحمل تحريم قياس المساواة بين الخالق والمخلوق، تمثيلاً كان أو شمولاً.
القول الثاني: أن المثل هو الصفة، كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح: 29] ، فالمثل الأعلى يراد به: الصفة العليا[2].
وعلى هذا القول يحمل جواز قياس الأولى فيما بين صفات الخالق والمخلوق؛ أي: الاستدلال بصفات المخلوق على صفات الخالق عن طريق قياس الأولى، سواءٌ أكانت صورته تمثيلاً أو شمولاً، فكلّ ما ثبت للمخلوق من صفات الكمال المطلق فإنّ الخالق أولى به، وكل ما تنزّه عنه المخلوق من صفات النّقص فإنّ الخالق أولى بالتنزّه عنه[3].
القول الثالث: أن المثل الأعلى كلمة التوحيد[4].
وهذه الأقوال لا منافاة بينها، فكلها ثابتة في معنى الآيتين.
[1] أخرجه الطّبري في تفسيره (11/21) [دار الفكر، 1305هـ]، وسنده حسن.
[2] انظر: تفسير البغوي (3/73، 481) [دار المعرفة، ط2]، وتفسير القرطبي (9/324) و(10/119) و(14/22) [دار الكتب المصرية، ط2]، وزاد المسير لابن الجوزي (4/459) و(6/298) [المكتب الإسلامي، ط4، 1407هـ]، وتفسير ابن كثير (2/573) [مكتبة دار التراث بالقاهرة]،
[3] انظر: درء التّعارض (1/29، 30)، (7/362)، والرِّسالة التدمرية (50) [مكتبة العبيكان، ط1]، وتفسير السّعدي (6/123) [المؤسّسة السعيدية بالرّياض].
[4] انظر: تفسير ابن جرير الطبري (8 / 14 / 125)، (11 / 21 / 38)، وتفسير البغوي (3 / 73)، وتفسير القرطبي(10 / 119).
لقد كان للقياس الفاسد في مجال الاعتقاد آثارًا بالغة السوء، ومن ذلك:
ـ نشوء عقيدة التمثيل، وبزوغ فرق الممثلة، فإن قياس التمثيل والشمول المساوي مندرج ضمن تمثيل الله بخلقه.
ـ نشوء طوائف التعطيل، فإن أساس التعطيل قياس الله على خلقه، فإن المعطلة قاسوا صفات الله على صفات خلقه ابتداءً، فوقعوا في التمثيل أولاً، ثم فرّوا منه إلى التعطيل[1].
ـ ضعف خشية الله وتعظيمه، فإن من قاس الله بخلقه وشبَّهه بهم قلَّت هيبة الله في نفسه، ولهذا كان أصحاب القياس الفاسد من الفلاسفة ونحوهم من أبعد الناس عن تحقيق مراتب الزهد والورع، والأدب مع الله.
ـ كما نشأ عن القياس الفاسد كثيرٌ من العقائد الباطلة، كالاستشفاع بالأولياء والصالحين وأصحاب القبور، ودعائهم مع الله، وذلك بالقياس الفاسد على ملوك الدنيا الذين يتم التقرب إليهم بالوسطاء بدون إذنهم، فقاسوا الله تعالى على ذلك، وفساد هذا القياس من جهة أن ملوك الدنيا في ملكهم قصور، فهم يقبلون الشفاعة لحاجتهم للشافع بنوع من الحاجة، وفي علمهم قصور، فلا يعلمون حال المستشفع، والله تعالى ملكه تام، فلا يحتاج إلى أحد، ولا يخفى عليه خافية[2].
وكذا قاس المعتزلةُ الخالق على المخلوق، فزعموا أن ما حَسُنَ وقَبح من المخلوقين حسن وقبح من الخالق، وأن الظلم الذي ينزه الله عنه هو نظير الظلم الذي يقع من الآدميين، فكانوا مشبهة في الأفعال، معطلةً في الصفات[3].
قال ابن تيمية مبيِّنًا الآثار السيئة لاستعمال القياس الفاسد في الاعتقاد: «ولهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والاضطراب لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها»[4].
[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (5/27، 209)، ودرء التعارض (7/19)، ومدارج السالكين (3/360) [دار الكتاب العربي، ط2]، والصواعق المرسلة (1/244). وانظر مثال ذلك القياس في: المختصر في أصول الدين لعبد الجبار ـ ضمن رسائل العدل والتوحيد (1/183) [دار الهلال]، والتمهيد في أصول الدين للنسفي (37) [المكتبة الأزهرية]، وأساس التقديس للرازي (103 ـ 110) [مؤسسة الكتب الثقافية، ط1، 1415هـ].
[2] انظر: التوسل والوسيلة لابن تيمية (11) [المكتب الإسلامي، 1390هـ].
[3] انظر: مجموع الفتاوى (8/91)، وشرح العقيدة الأصبهانية (199)، ومفتاح دار السعادة (2/106، 113) [دار الكتب العلمية]، والصواعق المرسلة (4/1493، 1544). وانظر في الجواب على تمثيلهم وقياسهم هذا: منهاج السُّنَّة النبوية (3/151) [مؤسسة قرطبة، ط1، 1406هـ]، ومفتاح دار السعادة (2/52 ـ 55، 113)، وكذلك: الملل والنحل للشهرستاني (19) [مؤسسة الحلبي].
[4] درء التعارض (1/29).
لقد كان منشأ الغلط عند كثير من النفاة للصفات هو استعمالهم للمقاييس الباطلة ـ من قياس المساواة، تمثيلاً أو شمولاً ـ فيما يتعلق بالله تعالى.
فترى بعضهم يصرح بأننا لو وصفنا الله بالاستواء على العرش لكان يعلو عليه مثل علو الملك على السرير[1].
ويقرر نفاة الصفات أنه لو كان متصفًا بصفة العلم مثلاً لوجب أن يكون علمه في القلب وأن يكون له قلب كأحدنا[2]، تعالى الله.
فهم يقررون أنه لو كان الله متصفًا بالصفات أو ببعض الصفات لكان جسمًا، قياسًا على المخلوق، والله ليس بجسم، فوجب نفي الصفات عنه[3].
وكل هذا من قياس التمثيل، فإنهم قاسوا الخالق على المخلوق بجامع الاتصاف بالصفة، والحكم هو: ثبوت الصفة للجسم (المخلوق)، وانتفاء الصفة عما ليس بجسم (الخالق) بزعمهم.
وقد يستعملونه على وجه قياس الشمول، فيقولون: المخلوق متصف بالصفات، وكل متصف بالصفات جسم، والنتيجة: المخلوق جسم، والله ليس بجسم؛ لأنه لا يتصف بالصفات.
فوجه غلطهم في هذا القياس أنهم أدخلوا الخالق والمخلوق في قضية كلية استوى فيها الأصل والفرع، وهذه القضية الكلية هي زعمهم أن كل ما كان متصفًا بالصفات فإنه جسم، فهم في الحقيقة قد مثلوا قبل أن يعطلوا، فكانوا أولى بلقب الممثلة، «ولهذا قال بعض أهل العلم: إن كل معطل مشبه، ولا يستقيم له التعطيل إلا بعد التشبيه»[4].
ثم إن هذه القضية التي زعموها كلية (كل متصف بالصفات جسم) جعلوها عامة للخالق والمخلوق، وهم لا يستطيعون أن يثبتوا عمومها إلا بقياس التمثيل أو قياس الشمول، وقياس التمثيل أو الشمول لا يمكن الاعتماد عليه فيما بين الخالق والمخلوق كما سبق، لثبوت الفارق، فبطل قياسهم من أصله[5].
وعامة أقوال النفاة للصفات ـ من مختلف الفرق ـ مبنية على قياسهم الفاسد للخالق بالمخلوق، وهو نوع من أنواع التشبيه.
قال الإمام ابن بطة العكبري رحمه الله ـ عمن نفى صفة اليدين لله فرارًا من التشبيه ـ: «قالوا: (لا نقول إن لله يدين؛ لأن اليدين لا تكون إلا بالأصابع وكف وساعدين وراحة ومفاصل)، ففرّوا بزعمهم من التشبيه، ففيه وقعوا، وإليه صاروا، وكل ما زعموا من ذلك فإنما هو من صفات المخلوقين، وتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا»[6].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فأما ما يفعله طوائف من أهل الكلام من إدخال الخالق والمخلوقات تحت قياس أو تمثيل يتساويان فيه فهذا من الشرك والعدل بالله، وهو من الظلم، وهو ضرب الأمثال لله، وهو من القياس والكلام الذي ذمه السلف وعابوه»[7].
[1] انظر: التمهيد في أصول الدين للنسفي (37)، وأساس التقديس (110) [دار الجيل، ط1، 1413هـ].
[2] انظر: المختصر في أصول الدين لعبد الجبار المعتزلي ـ ضمن رسائل العدل والتوحيد (1/183) [دار الهلال].
[3] انظر: فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار (347 ـ 348) [الدار التونسية]، وشرح الأصول الخمسة له (66) [مكتبة وهبة، ط2، 1408هـ]، ومعالم أصول الدين للرازي (48، 49) [مركز الكتاب للنشر، ط1، 2000م]، وغاية المرام للآمدي (137، 138) [المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1390هـ]، وشرح المقاصد للتفتازاني (2/67) [دار المعارف النعمانية، ط1، 1401هـ]، والمسامرة شرح المسايرة (54) [المكتبة العصرية، ط1، 1425هـ].
[4] الصواعق المرسلة (1/244) [دار العاصمة، ط3].
[5] انظر: شرح العقيدة الأصفهانية (74، 75)، والتحفة المهدية (130) [دار الوطن، ط1، 1414هـ].
[6] الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (3/314) [دار ابن القيم، ط1، 1406هـ].
[7] بيان تلبيس الجهمية (2/536).
1 ـ «آثار المثل الأعلى»، لعيسى السعدي [بحث منشور في مجلة جامعة أم القرى].
2 ـ «إعلام الموقعين»، لابن القيم.
3 ـ «بيان تلبيس الجهمية»، لابن تيمية.
4 ـ «الحجة في بيان المحجة»، لقوام السُّنَّة الأصبهاني.
5 ـ «درء التعارض»، لابن تيمية.
6 ـ «شرح العقيدة الأصفهانية»، لابن تيمية.
7 ـ «الصواعق المرسلة»، لابن القيم.
8 ـ «القياس الفاسد وأثره في الانحراف في العقيدة»، لأحمد بن شاكر الحذيفي.
9 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
10 ـ «نظرية القياس الأرسطي: عرضًا ونقدًا»، لمحمد سعيد صباح.