حرف القاف / قيام الحجة

           

القيام : من قام يقوم قيامًا، يقال: قام الأمر، اعتدل واستقام[1].
الحجة : بمعنى البرهان والدليل، وقيل: الحجة ما دوفع به الخصم. حَجَّه يحجه حجًّا، فهو محجوج وحجيج؛أي: غلبه على حجته، وهو رجل مِحجاج؛ أي: جدِل. وفي الحديث: «فحجَّ آدم موسى» [2]؛ أي: غلبه بالحجة. وفي حديث الدجال: «إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه» [3]؛ أي: محاجه ومغالبه بإظهار الحجة عليه[4].


[1] انظر: مقاييس اللغة (5/35) [دار الجيل]، ولسان العرب (12/496) [دار صادر، ط1]، والقاموس المحيط (1487) [مؤسسة الرسالة]، والمصباح المنير للفيومي (2/520)، والمعجم الوسيط (2/767).
[2] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4736)، ومسلم (كتاب القَدَرِ، رقم 2652).
[3] أخرجه مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 2937).
[4] لسان العرب (2/228).


يراد بقيام الحجة : مخالفة الحق بعد ثبوت الحجة عليه وظهور الدليل[1].
وقد نبَّه أهل العلم على أن قيام الحجة يكون بفهم الحجة أو بلوغها المعتبر.
ويراد ببلوغ الحجة: بلوغ الدليل والبرهان الشرعي للمكلف بلوغًا يستبين معه المقصود، وتنقطع به المعذرة.
ويراد بفهم الحجة:
1 ـ الفهم اللغوي بأن يكون من أهل اللغة واللسان، فهذا شرط في بلوغ الحجة.
2 ـ فهم احتجاج وهو التفقه المؤثر في السلوك، وهو الذي يؤدي إلى الامتثال والانقياد[2].


[1] انظر: مختصر العلو للذهبي (177) [المكتب الإسلامي، ط1]، وتيسير العزيز الحميد (677).
[2] انظر: الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق طاهر معاش (229) [دار الوطن، ط1، 1417هـ].


لا يعذب الله العبد إلا بعد قيام الحجة عليه وعدم اتباعه لها.
وممن يعذر لعدم قيام الحجة التي يكفر مخالفها:
ـ من لم يسمع النص المعين، أو الباب من أبواب الدين، فلا يؤاخذ بمخالفة ما جاء فيه.
ـ من قامت عليه بعض الحجة، فعلم بعضها دون بعض، كأن يبلغه بعض القرآن دون بعض، فإنه لا يحاسب إلا على ما قامت عليه فيه الحجة، دون ما لم يبلغه منها.
ـ وكذا من سمع الحجة، ولم تثبت عنده، كأن يسمعها من طريق لا يجب عليه أن يصدقها.
ـ من بلغته الحجة واعتقد خلافها لنوع من التأويل السائغ الذي يعذر به وإن كان مخطئًا.
ـ وأما من لم يبلغه الإسلام أصلاً فإنه لا عذاب عليه، وهؤلاء هم أهل الفترة ومن في حكمهم، وقد صح النقل في أنهم يمتحنون يوم القيامة[1].
قال ابن القيم رحمه الله: «إن العذاب يستحق بسببين:
أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها.
والثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل»[2].


[1] ينظر: الفصل لابن حزم (4/105) [شركة عكاظ، ط1، 1402هـ]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (3/231، 12/493، 494، 17/308) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/309 ـ 310) [مطبعة المدني].
[2] طريق الهجرتين (414) [دار ابن القيم، ط2، 1414هـ]. وانظر: مدارج السالكين (1/188) [مطبعة السُّنَّة المحمدية، 1375هـ]


قيام الحجة الرسالية التي يأثم من خالفها إنما يكون بأن تبلغ المكلف بلوغًا بيِّنًا، فيسمعها، ويفهم المراد بها، ممن يحسن إقامتها، ويكون سالمًا من الشبهات التي قد يعذر بها.
قال ابن تيمية في ذلك: «... وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها: قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنًا ما كان...»[1].
وقال ابن حزم رحمه الله: «وكل ما قلناه فيه إنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة، فهو ما لم تقم الحجة عليه، معذور مأجور وإن كان مخطئًا، وصفة قيام الحجة عليه أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها، وبالله التوفيق»[2].
ويقول ابن سحمان: «الذي يظهر لي ـ والله أعلم ـ أنها لا تقوم الحجة إلا بمن يحسن إقامتها، وأما من لا يحسن إقامتها كالجاهل الذي لا يعرف أحكام دينه ولا ما ذكره العلماء في ذلك؛ فإنه لا تقوم به الحجة»[3].


[1] مجموع الفتاوى لابن تيمية (23/346)، و(3/231، 20/59).
[2] الإحكام لابن حزم (1/67) [دار الحديث، ط1، 1404هـ].
[3] منهاج الحق والاتباع (68) [مكتبة المنار، ط 1340هـ].


قال الله سبحانه وتعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] .
وقال: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ *ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ *} [الأنعام]
وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً *} [الإسراء]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار»[1].
ـ ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مات فحرّقوه، ثم اذْرُوا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فلما مات الرجل، فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فإذا هو قائم بين يديه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر الله له»[2].
وعن الأسود بن سريع رضي الله عنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أربعةٌ يحتجون يوم القيامة: رجل أصم، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام، وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربي لقد جاء الإسلام وما أعقل، وأما الذي مات في الفترة، فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن أدخلوا النار، قال: فوالذي نفسي بيده لو دخلوها، كانت عليهم بردًا وسلامًا»[3].


[1] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 153).
[2] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3478)، ومسلم (كتاب التوبة، رقم 2756)، واللفظ له.
[3] أخرجه أحمد (26/228) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (ذكر الأخبار عن وصف قوم يحتجون على الله يوم القيامة) [مؤسسة الرسالة، ط2]، واللفظ له والطبراني في الكبير (1/287) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، وصححه عبد الحق الإشبيلي وابن القيم. انظر: طريق الهجرتين (397، 398) [دار السلفية، ط2]، وصححه الألباني أيضًا في السلسلة الصحيحة (3/419).


قال ابن تيمية: «الحجة على العباد إنما تقوم بشيئين:
1 ـ بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله.
2 ـ والقدرة على العمل به.
فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل، فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه، كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلاً، وهذه أوقات الفترات»[1].
وقال ابن القيم رحمه الله: «إن العذاب يستحق بسببين:
أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها.
والثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل»[2].
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: «وإذا كنا لا نكفِّر من عبد الصنم الذي على قبة عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما؛ لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفّر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، ولم يكفّر ويقاتل؟ سبحانك هذا بهتان عظيم»[3].
وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله: «وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهمًا جليًّا كما يفهمها من هداه الله ووفقه، وانقاد لأمره، فإن الكفار قد قامت عليهم حجة الله مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه»[4].


[1] مجموع الفتاوى (20/59). وانظر منه: (19/71).
[2] طريق الهجرتين (414) [دار ابن القيم، ط2، 1414هـ]. وانظر: مدارج السالكين (1/188) [مطبعة السُّنَّة المحمدية، 1375هـ].
[3] فتاوى ومسائل محمد بن عبد الوهاب ضمن مجموع مؤلفاته (1/11) [مطابع الرياض، ط1].
[4] مجموع الرسائل والمسائل النجدية (4/638) [دار العاصمة، الرياض، 1412هـ].


المسألة الأولى: هل يشترط فهم الحجّة لاعتبار قيامها على الشخص؟
اختلف أهل العلم في اشتراط فهم الحجة لاعتبار قيامها على الشخص على قولين:
القول الأول: قال به كثير من أهل العلم، وهو أن فهم الحجة شرط في قيام الحجة على الشخص المعين كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: «إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له»[1].
وقال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: «من لم يفهم الدعوة لم تقم عليه الحجة»[2].
القول الثاني: قال به بعض أهل العلم، وهو أن بلوغ الحجة وحده كاف في قيام الحجة على الشخص. وقد فهم هذا من كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وبعض أحفاده وتلاميذه من بعده، فقد قال: «فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي كان حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف؛ وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه فإن حجة الله هو القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً *} [الفرقان] . وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها»[3].
المسألة الثانية: العذر بالجهل:
مسألة بلوغ الحجة واشتراطها للتكليف مرتبطة بمسألة العذر بالجهل، فإن من لم تقم عليه الحجة كان جاهلاً، والجاهل غير مكلف لعدم بلوغ الحجة إياه.
سئل الإمام الشافعي رحمه الله عن صفات الله وما يؤمن به، فقال: «لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيُّه أمتَه، ولا يسع أحدًا من خلق الله قامت عليه الحجة ردها؛ لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القول بها فيما روى عنه العدول، فإن خالف بعد ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، فأما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يقدر بالعقل، ولا بالروية والقلب والفكر، ولا نكفِّر بالجهل بها أحدًا إلا بعد انتهاء الخبر إليه به»[4].
وعليه؛ فالجاهل معذور بجهله حتى يبلغه العلم.
قال الإمام البخاري رحمه الله: «كل من لم يعرف الله بكلامه أنه غير مخلوق، فإنه يُعَلَّم ويردُّ جهله إلى الكتاب والسُّنَّة، فمن أبى بعد العلم به، كان معاندًا، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} [التوبة] ، ولقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا *} [النساء] »[5].
وقال الإمام الطبري رحمه الله في كتابه (التبصير في معالم الدين) ـ بعد أن ذكر بعض نصوص الصفات ـ: «فإن هذه المعاني التي وصفت ونظائرها مما وصف الله بها نفسه، ورسوله مما لا يثبت حقيقة علمه بالفكر والروية، ولا يكفر بالجهل أحد إلا بعد انتهائها إليه»[6].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «من دعا غير الله، وحج إلى غير الله فهو مشرك، والذي فعله كفر، لكن قد لا يكون عالمًا بأن هذا شرك محرم، كما أن كثيرًا من الناس دخلوا في الإسلام من التتار وغيرهم، وعندهم أصنام لهم وهم يتقربون إليها ويعظمونها، ولا يعلمون أن ذلك محرم في دين الإسلام، ويتقربون إلى النار أيضًا، ولا يعلمون أن ذلك محرم، فكثير من أنواع الشرك قد يخفى على بعض من دخل في الإسلام ولا يعلم أنه شرك»[7].
فنرى في كلام الشيخ أن الجهل وعدم بلوغ الحجة هو مما يعذر به، حتى في الشرك، ولذا قال في موضع آخر ـ بعدما تكلم على من اجتهد فأخطأ: «... بخلاف ما لم يشرع جنسه مثل الشرك، فإن هذا لا ثواب فيه، وإن كان الله لا يعاقب صاحبه إلا بعد بلوغ الرسالة، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً *} [الإسراء] . لكنه وإن كان لا يعذب فإن هذا لا يثاب... وإذا نهاهم الرسول عنها فلم ينتهوا عوقبوا، فالعقاب عليها مشروط بتبليغ الرسول، وأما بطلانها في نفسها فلأنها غير مأمور بها...»[8].
وأصرح منه قوله رحمه الله: «فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدًا من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم مما يخالفه»[9].
ولكن يشار هنا إلى أن من الجهل ما لا يعذر المكلف به، وهو ما أمكن المكلف دفعه، وترك ذلك تقصيرًا منه.
قال ابن تيمية: «إن بيان الحكم سبب لزوال الشبهة المانعة من لحوق العقاب، فإن العذر الحاصل بالاعتقاد ليس المقصود بقاءه، بل المطلوب زواله حسب الإمكان، ولولا هذا لما وجب بيان العلم، ولكان ترك الناس على جهلهم خيرًا لهم، ولكان ترك دلائل المسائل المشتبهة خيرًا من بيانها»[10].
وقال ابن القيِّم: «فإن حجة الله قامت على العبد بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبلوغ ذلك إليه، وتمكنه من العلم به، سواء علم أو جهل، فكل من تمكن من معرفة ما أمر الله به ونهى عنه، فقصر عنه ولم يعرفه، فقد قامت عليه الحجة، والله سبحانه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه»[11].
المسألة الثالثة: قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة:
وذلك أن الزمان الذي يخفى فيه العلم، ويطغى فيه الجهل، وتكثر فيه الشبهات فإن موجب العذر بالجهل يقوى، وقيام الحجة فيه يقل ويخفى، فلا يحمل على زمن ظهور العلم وانتشاره، وما قيل في الزمان يقال في المكان.
وقد أشار ابن تيمية إلى أهل زمانه وما كان عليه الكثير من الوقوع في أنواع من الكفر، ومع ذلك عذرهم بهذا الجهل قائلاً: «وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات، يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لم تقم الحجة عليه، ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف: «يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه الصلاة، ولا صيامًا، ولا حجًّا، ولا عمرة، إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، ويقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون لا إله إلا الله ، فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: تنجيهم من النار»[12][13].
وقال ابن القيم: «إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له»[14].
المسألة الرابعة: قيام الحجة والعذر بالجهل يختلف باختلاف المسائل والأحوال:
فمن المسائل ما يكون خفيًّا دقيقًا، ومنها ما يكون مشهورًا شائعًا، فالعذر في الأولى أقوى من العذر في الثانية.
كما أن من الناس من يكون حديث عهد بإسلام، أو يكون ضعيف الفهم، أو أعجمي اللسان، فمثل هذا قد يعذر بجهله بما لا يعذر به من لم يكن كذلك.
قال الإمام الشافعي: «إن من العلم ما لا يسع بالغًا غير مغلوب على عقله جهله، مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل، والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا»[15].
وقال الموفق ابن قدامة ـ في أثناء كلامه على تارك الصلاة ـ: «فإن كان جاحدًا لوجوبها نُظر فيه؛ فإن كان جاهلاً به، وهو ممن يجهل ذلك كالحديث الإسلام، والناشئ ببادية، عُرِّف وجوبها وعُلِّم ذلك، ولم يُحكم بكفره لأنه معذور، فإن لم يكن ممن يجهل ذلك كالناشئ من المسلمين في الأمصار والقرى، لم يعذر ولم يقبل منه ادعاء الجهل، وحكم بكفره؛ لأن أدلة الوجوب ظاهرة في الكتاب والسُّنَّة، والمسلمون يفعلونها على الدوام، فلا يخفى وجوبها على من هذا حاله، ولا يجحدها إلا تكذيبًا لله تعالى، ورسوله وإجماع الأمة، وهو يصير مرتدًّا عن الإسلام، ولا أعلم في هذا خلافًا»[16].
وقال ابن تيمية: «إن الأمكنة والأزمنة التي تفتر فيها النبوة، لا يكون حكم من خفيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاءت به خطأ، كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة»[17].
ويقول أيضًا: «لا يكفِّر العلماء من استحل شيئًا من المحرمات لقرب عهده بالإسلام، أو لنشأته ببادية بعيدة، فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة، وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك»[18].


[1] طريق الهجرتين (414) [المطبعة السلفية، 1375هـ].
[2] مجموعة الرسائل النجدية (5/514).
[3] مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (الرسائل الشخصية) (7/244، 245)، [المركز الإسلامي للطباعة والنشر، مصر].
[4] مختصر العلو للذهبي (177) [المكتب الإسلامي، ط1، 1401هـ]. وانظر: إثبات صفة العلو لابن قدامة (124) [الدار السلفية، ط1، 1406هـ].
[5] خلق أفعال العباد (61) [مكتبة التراث الإسلامي].
[6] اجتماع الجيوش الإسلامية (195) [مطابع الفرزدق، ط1، 1408هـ]. وانظر: سير أعلام النبلاء (14/280) [مؤسسة الرسالة، ط9، 1413هـ].
[7] الرد على الأخنائي (61، 62) [مطبوعات دار الإفتاء] باختصار يسير. وانظر: الرد على البكري (258) [الدار العلمية، ط2]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (11/406، 12/500)، ومجموعة الرسائل له (4/382) [دار الكتب العلمية، ط2، 1412هـ].
[8] مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/31، 33).
[9] الرد على البكري (376). وانظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (1/372، 11/412، 413، 19/23، 219)، ومنهاج السُّنَّة (5/111 ـ 113).
[10] مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/279). وانظر منه: (22/16).
[11] مدارج السالكين (2/239).
[12] أخرجه ابن ماجه (كتاب الفتن، رقم 4049)، والحاكم (كتاب الفتن والملاحم، رقم 8460) وصححه، وصححه البوصيري في المصباح (4/194) [دار العربية، ط2]، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 87).
[13] الفتاوى لابن تيمية (35/165).
[14] طريق الهجرتين (414).
[15] الرسالة (357) [دار الكتب العلمية].
[16] المغني (2/442) [مكتبة الرياض الحديثة]. وانظر: نواقض الإيمان القولية والعملية (65، 73).
[17] بغية المرتاد (311).
[18] مجموع الفتاوى (28/501). وانظر: (11/407).


الفرق بين الكافر الأصلي، والمسلم الذي وقع في أمر مُكَفِّر:
في تقرير الكلام على بلوغ الحجة لا بدَّ من التفريق بين حالتين:
الأولى: حالة الكافر الأصلي، الذي لم يدخل في الإسلام أصلاً، ولم تبلغه الحجة الرسالية.
فمثل هذا ينظر في حكمه من ناحية أحكام الدنيا، وأحكام الآخرة، أما في أحكام الدنيا فإنه يعامل معاملة الكفار، ويحكم عليه بحكمهم في المواريث ونحو ذلك، وأما في أحكام الآخرة، فإذا كانت الحجة الرسالية لم تبلغه، فإنه يعذر بجهله، ويكون له حكم أهل الفترة، وهم الذين يمتحنون في الآخرة.
قال ابن تيمية: «أخبر الله تعالى عن هود أنه قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ *} [هود] ، فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه، لكونهم جعلوا مع الله إلهًا آخر، فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة، فإنه يشرك بربه ويعدل به، ويجعل معه آلهة أخرى، ويجعل له أندادًا قبل الرسول وأما التعذيب فلا»[1].
وقال ابن القيم: «الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم»[2].
الحالة الثانية: حال المسلم المقر بالشهادتين، والذي قد وقع في أمر مكفر جهلاً.
فمثل هذا الأصل فيه أنه معذور بجهله، فله أحكام أهل الإسلام في الدنيا والآخرة، كما سبق من حديث الذي أمر أهله أن يحرقوه.
وقد أخطأ من حمل الحال الثانية على الأولى، وجعل أقوال أهل العلم المتوجهة للحال الأولى مقولةً في الحال الثانية[3].
الفرق بين قيام الحجة، وفهم الحجة:
المعتبر في التكليف أن تقوم الحجة على المكلف، ويفهمها الفهم الذي يدرك به معناها والمراد بها، ولا يشترط أن يفهمها الفهم الدقيق الذي يدركه علماء الدين حتى تقوم عليه الحجة.
قال محمد بن عبد الوهاب: «وأصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً *} [الفرقان] . وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها نوع آخر، فإن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله صلّى الله عليه وسلّم في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم»[4] ، مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها»[5].
وقال أيضًا: «من المعلوم أن قيام الحجة ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يعذر به فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن، مع قول تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الإسراء: 46] ، وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ *} [الأنفال] »[6].
وينبغي أن يعلم أن مراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن نحا نحوه من تلاميذه من عدم اشتراط فهم الحجة في قيام الحجة على العبد هو: فهم التفقه المؤثر في السلوك والمؤدي إلى الامتثال وليس مرادهم فهم لسان المتكلم ولغته، فإن اشتراط فهم لسان المبلغ محل اتفاق عند سائر علماء أهل السُّنَّة والجماعة. وهذا يدل على أن الشيخ ابن عبد الوهاب رحمه الله يقصد عدم اشتراط الفهم المفصل للحجة لا المجمل، حيث قال رحمه الله في رسالة أخرى له: «وإذا كنا لا نكفِّر من عبد الصنم الذي على قبة عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما؛ لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفّر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، ولم يكفّر ويقاتل؟ سبحانك هذا بهتان عظيم»[7].
ومما يؤكد أن الشيخ يقصد نفي الفهم المفصل للحجة ما قاله تلميذه الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله: «وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهمًا جليًّا كما يفهمها من هداه الله ووفقه، وانقاد لأمره، فإن الكفار قد قامت عليهم حجة الله مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه»[8].


[1] مجموع الفتاوى (20/37، 38).
[2] المرجع السابق. وانظر: مدارج السالكين (3/489).
[3] انظر: نواقض الإيمان الاعتقادية (1/246 ـ 276)، ونواقض الإيمان القولية والعملية (68 ـ 70).
[4] أخرجه البخاري (كتاب فضائل القرآن، رقم 5057)، ومسلم، (كتاب الزكاة، رقم 1066).
[5] مجموعة مؤلفات ابن عبد الوهاب (3/12، 13).
[6] الدرر السنية (8/79) [ط6، 1417هـ]. وانظر: كلام الشيخ عبد الله أبي بطين في الدرر السنية (8/213، 214)، ومجموعة الرسائل والمسائل النجدية (4/515) [دار العاصمة، ط3، 1412هـ].
[7] فتاوى ومسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ضمن مجموع مؤلفاته (1/11).
[8] مجموع الرسائل والمسائل النجدية (4/638).


1 ـ «اجتماع الجيوش الإسلامية»، لابن القيم.
2 ـ «الإحكام»، لابن حزم.
3 ـ «الجواب الصحيح»، لابن تيمية.
4 ـ «خلق أفعال العباد»، للبخاري.
5 ـ «الدرر السنية في الفتاوى النجدية».
6 ـ «ضوابط التكفير»، لعبد الله القرني.
7 ـ «طريق الهجرتين»، لابن القيم.
8 ـ «الفِصَل في الملل والنحل»، لابن حزم.
9 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
10 ـ «مجموعة الرسائل والمسائل النجدية».
11 ـ «مجموعة مؤلفات ابن عبد الوهاب».
12 ـ «منهاج الحق والاتباع»، لسليمان بن سحمان.
13 ـ «نواقض الإيمان الاعتقادية»، لعبد العزيز الوهيبي.
14 ـ «نواقض الإيمان القولية والعملية»، لعبد العزيز العبد اللطيف.