حرف الكاف / الكتابة (من مراتب القدر)

           

قال ابن فارس رحمه الله: «الكاف والتاء والباء أصلٌ صحيح واحد يدلُّ على جمع شيءٍ إلى شيءٍ. من ذلك الكِتَابُ والكتابة. يقال: كتبت الكتابَ أكْتبه كَتْبًا»[1].
يقال: كتبت البغلة؛ إذا جمعت شفرى رحمها بحلقة، والكُتَب: الخُرز، ومن الباب: الكتاب، وهو الفرض، ويقال للحكم: الكتاب، ويقال للقدر: الكتاب. والكاتِبُ عند العرب العالم، والمُكاتَب: العبد، يكاتب سيده على نفسه، وأصله من الكتاب[2].


[1] مقاييس اللغة (5/128) [دار الجيل].
[2] انظر: لسان العرب (1/698) [دار صادر، ط1]، ومختار الصحاح (586) [مكتبة لبنان، 1415].


الكتابة : هي كتابة الله عزّ وجل لكل شيء في اللوح المحفوظ، مما هو من أفعاله وكلامه، ومما هو كائن من خلقه إلى يوم القيامة[1].


[1] انظر: شفاء العليل (77) [دار الكتب العلمية، ط3].


الكتاب، والقدر، والتقدير، والذكر.



يجب الإيمان بكتابة الله تعالى لكل شيء في اللوح المحفوظ، والكتابة أحد مراتب الإيمان بالقدر، التي من لم يؤمن بواحدة منها لم يكن مؤمنًا بالقدر[1].


[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/148) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1425هـ]، وشفاء العليل (77)، وشرح الواسطية لابن عثيمين (2/197) [دار ابن الجوزي، ط 4، 1424هـ].


أن الله تبارك وتعالى هو العليم بكل شيء وبكل ما كان وما سيكون ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولكمال علمه وأن كل شيء بيده وفي تصرفه وتدبيره كتب في اللوح المحفوظ عنده كل ما كان وما سيكون، فيقع كل ما هو مكتوب كما كتب لا يختلف في قليل ولا كثير، وهذه حقيقة القدر: أن كل شيء إنما يصدر عن قدر سابق مكتوب.



الكتابة علامة على إبرام الأمر نهائيًّا والفراغ منه؛ فإن الكتابة تأتي بمعنى القضاء المبرم؛ الذي لا عودة فيه قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ *} [المجادلة] .
والفائدة في كتابة القدر السابق؛ مع تنزهه تعالى عن الخطأ والنسيان كما قال تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى *} [طه] ، هو هذا المعنى؛ أي: التأكيد والإبرام للقدر السابق؛ فالكتابة علامة على نفاذ الأمور المقدرة وإمضائها على النحو المكتوب من غير تبديل؛ والفراغ منها؛ كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رفعت الأقلام، وجفَّت الصحف»[1].


[1] أخرجه الترمذي (أبواب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم 2516) وقال: حسن صحيح، وأحمد (4/487) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه الألباني في تحقيقه للمشكاة (رقم 5302) [المكتب الإسلامي، ط3].


قد دلَّت الأدلة الشرعية على أن الله عزّ وجل قد كتب المقادير كلها وأن كل ما يقع في الكون من صغير أو كبير فهو مكتوب في اللوح المحفوظ، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ *} [يونس] ، وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ *} [الحج] ، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ *} [النمل] ، وقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ *} [الحديد] .
ومن السُّنَّة حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: إني عند النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ جاءه قوم من بني تميم، فقال: «اقبلوا البشرى يا بني تميم» ، قالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن فقال: «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم» ، قالوا: قبلنا، جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان، قال: «قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر، قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض»[1].
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السَّماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء»[2].
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لابنه: يا بنيّ، إنّك لن تجد طعم حقيقة الإِيمان حتّى تعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن لِيصيبك، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «إنّ أوّل ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب قال: رب وماذا أَكتب؟ قال: اكتب مقادير كلّ شيء حتّى تقوم السّاعة» ، يا بُنيّ إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من مات على غير هذا فليس منّي»[3].
وعن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: «ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة، إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة» قال: فقال رجل: يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا، وندع العمل؟ فقال: «مَنْ كان من أهل السعادة، فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة، فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة» ، فقال: «اعملوا فكل ميسَّر، أما أهل السعادة فييسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسَّرون لعمل أهل الشقاوة» ، ثمّ قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى *} [الليل] [4].


[1] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3191).
[2] أخرجه مسلم (كتاب القدر، رقم 2653).
[3] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4700) واللفظ له، والترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3319) وقال: حسن صحيح، وأحمد (37/378) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وغيرهم، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 2018).
[4] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4948)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2647).


عن أبي الحارث قال: «سمعت أبا عبد الله، وسئل عن القدر، قيل له: إنهم يقولون: إن الله عزّ وجل لا يضل أحدًا هو أعدل من أن يضل أحدًا، ثم يعذبه على ذلك، فقال: أليس قال الله عزّ وجل: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31] ، فالله عزّ وجل قدر الطاعة والمعاصي، وقدر الخير والشر، ومن كتب سعيدًا فهو سعيد، ومن كتب شقيًّا فهو شقي»[1].
وقال الآجري: «إن الأنبياء إنما بعثوا مبشرين ومنذرين، وحجة على الخلق، فمن شاء الله تعالى له الإيمان آمن، ومن لم يشأ له الإيمان لم يؤمن، قد فرغ الله تعالى من كل شيء، قد كتب الطاعة لقوم، وكتب المعصية على قوم، ويرحم أقوامًا بعد معصيتهم إياه، ويتوب عليهم، وقوم لا يرحمهم، ولا يتوب عليهم: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ *} [الأنبياء] [2].
وقال ابن القيِّم: «وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السُّنَّة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب، وقد دلَّ القرآن على أن الرب تعالى كتب في أم الكتاب ما يفعله، وما يقوله فكتب في اللوح أفعاله وكلامه»[3].


[1] السُّنَّة للخَلاَّل (3/537) [دار الراية ط1، 1410هـ].
[2] الشريعة للآجُرِّي (2/730) [دار الوطن، ط2].
[3] شفاء العليل (77).


قد دلَّت النصوص الشرعية على أن كتابة القدر على نوعين: عامة وخاصة، وأن الخاصة تتعدد مرات عديدة وتفصيل ذلك على النحو التالي:
أولاً: العامة: وهي كتابة المقادير كلها في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض:
جاءت الأدلة الشرعية الكثيرة تدل على أن الله عزّ وجل قد كتب المقادير كلها ابتداءً في اللوح المحفوظ عند ما خلق الله عزّ وجل القلم قبل خلق السماوات والأرض، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ *} [الحج] ، قال ابن جرير رحمه الله في الآية: «ألم تعلم يا محمد أن الله يعلم كلّ ما في السماوات السبع والأرضين السبع، لا يخفى عليه من ذلك شيء، وهو حاكم بين خلقه يوم القيامة، على علم منه بجميع ما عملوه في الدنيا، فمُجازي المحسن منهم بإحسانه والمسيء بإساءته، {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} يقول تعالى ذكره: إن علمه بذلك في كتاب، وهو أم الكتاب الذي كتب فيه ربنا جلّ ثناؤه قبل أن يخلق خلقه ما هو كائن إلى يوم القيامة»[1].
ومن السُّنَّة حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السَّماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء»[2].
قال النووي رحمه الله: «قال العلماء: المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل التقدير، فإن ذلك أزلي لا أول له[3]، وقوله: «وعرشه على الماء» ؛ أي: قبل خلق السماوات والأرض والله أعلم»[4].
وعبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لابنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ أوّل ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب قال: ربّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كلّ شيء حتّى تقوم السّاعة»[5].
وحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما المتقدم[6]، فهذه الأحاديث ونحوها تدل على أن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ.
ثانيًا: الكتابة الخاصة:
كتب الله عزّ وجل من تلك الكتابة الأولى كتابات خاصة مأخوذة من الكتابة الأولى، قال ابن القيم بعد أن ذكر التقادير المتعددة: «وكل واحد من هذه التقادير كالتفصيل من التقدير السابق»[7]، وقد دلَّت النصوص على أربعة منها:
1 ـ الكتابة قبل خلق آدم عليه السلام بأربعين سنة:
كتب الله عزّ وجل على بني آدم كتابة خاصة وذلك قبل خلق أبينا آدم بأربعين سنة، دل على ذلك حديث محاجة آدم وموسى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احتجَّ آدم وموسى عليه السلام عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض، فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيًّا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق، قال موسى: بأربعين عامًا، قال آدم: فهل وجدت فيها: وعصى آدم ربه فغوى، قال: نعم، قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فحجَّ آدم موسى»[8].
فالحديث صريح بأن هذا التقدير وهذه الكتابة بعد الكتابة الأولى التي في اللوح المحفوظ ولا حاجة للنص عليها لو لم تكن لاحقة للكتابة الأولى.
2 ـ كتابة أعمال الإنسان وهو في بطن أمه:
جاءت أحاديث صحيحة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم منها حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الصّادق المصدوق، قال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه، فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة»[9].
3 ـ الكتابة الحولية:
وهي أن الله عزّ وجل يكتب أعمال السنة كاملة في كل ليلة قدر من السنة، دل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ *فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ *} [الدخان] ، قال ابن جرير رحمه الله: هي ليلة القدر، يقضي فيها أمر السنة كلها من يموت، ومن يولد، ومن يعزّ، ومن يذل، وسائر أمور السنة.
وروي بسنده عن ربيعة بن كلثوم، قال: كنت عند الحسن، فقال له رجل: يا أبا سعيد، ليلة القدر في كلّ رمضان؟ قال: إي والله، إنها لفي كلّ رمضان، وإنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله كلّ أجل وأمل ورزق إلى مثلها.
وروي عن مجاهد أنه قال: في ليلة القدر كل أمر يكون في السنة إلى السنة: الحياة والموت، يقدر فيها المعايش والمصائب كلها[10].
وقال ابن كثير: «وقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ *} أي: في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها. وهكذا روي عن ابن عمر، وأبي مالك، ومجاهد، والضحاك، وغير واحد من السلف»[11].
4 ـ نسخ المقادير من قبل الحفظة من اللوح المحفوظ، وهو التقدير اليومي.
قال حافظ الحكمي: «التقدير اليومي وهو سوق المقادير إلى المواقيت التي قدِّرت لها فيما سبق»[12].
قد وكل الله عزّ وجل حفظة على بني آدم يكتبون أعمالهم وقد وردت أدلة تدل على أن الحفظة تنسخ أعمال بني آدم من اللوح المحفوظ وتطابقها على أفعالهم فيجدونها متطابقة، قال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *} [الجاثية] .
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أوّلُ ما خلق الله تعالى القلم فأخذه بيمينه، وكلتا يديه يمين. قال: فكتب الدُّنيا وما يكون فيها من عمل معمول؛ برٍّ أو فجور، رطب أو يابس، فأحصاه عنده في الذكر، فقال: أقرؤوا إن شئتم: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *} فهل تكون النّسخة إلا من شيء قد فرغ منه»[13].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ} قَالَ: «الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم، فإنما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب»[14]. وفي رواية عنه أنه قال في الآية: «كتب الله أعمال بني آدم وما هم عاملون إلى يوم القيامة. قال: والملائكة يستنسخون ما يعمل بنو آدم يومًا بيوم فذلك قوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *}»[15].
قال ابن بطة رحمه الله في بيان أن الكتبة ينسخون أعمال العباد عن اللوح المحفوظ: «وفي كتابة المقادير الأزلية جاء قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ *} [القلم] ، وقوله عزّ وجل: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *} فدلَّت الآية الأولى على أن الله تعالى أقسم بالقلم الذي سطر المقادير في الأزل، ودلَّت الآية الثانية على أن الملائكة الموكلين بحفظ أعمال العباد اليومي وكتابتها كانوا يستنسخون من الكتاب السابق الذي كتبه القلم في أم الكتاب أزلاً، فيكون عمل الرجل اليومي مطابقًا لما يستنسخ من اللوح المحفوظ، كما فسره بذلك حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما[16]»[17].


[1] تفسير ابن جرير (18/681) [مؤسسة الرسالة ط1].
[2] تقدم تخريجه.
[3] يعني: أن ذلك مرتبط بعلم الله عزّ وجل وعلمه أزلي.
[4] شرح مسلم للنووي (16/203).
[5] تقدم تخريجه.
[6] تقدم تخريجه.
[7] شفاء العليل (43).
[8] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3409)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2652)، واللفظ له.
[9] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3208)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2643).
[10] تفسير ابن جرير (22/9).
[11] تفسير ابن كثير (7/246).
[12] معارج القبول (3/937).
[13] أخرجه ابن أبي عاصم في السُّنَّة (1/49) [المكتب الإسلامي، ط1]، والفريابي في القدر (231) [أضواء السلف، ط1]، والآجري في الشريعة (2/759) [دار الوطن، ط2]، وحسنه الألباني في ظلال الجنة (1/50).
[14] أخرجه البيهقي في القضاء والقدر (125) [مكتبة العبيكان، ط1، 1421هـ]، وسنده ضعيف.
[15] أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة (3/595) [دار طيبة، ط8، 1423هـ]، وسنده ضعيف جدًّا.
[16] كما أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ (16) [مكتبة الرشد، 1418]، والحاكم (كتاب التفسير، رقم 3693) ورجال سند أبي عبيد ثقات.
[17] الإبانة الكبرى لابن بطة (3/154) [دار الراية].


المسألة الأولى: المحو والإثبات:
الله عزّ وجل هو العليم بكل شيء لا تخفى عليه خافية، ولا يقع شيء في ملكه إلا بعلمه وإرادته ومشيئته، وقد كتب سبحانه وتعالى مقادير الخلائق وما يقع منهم وما يقع عليهم، وقد سبق بيان الأدلة في ذلك، وهذا أمر متفق عليه بين أهل السُّنَّة لا خلاف فيه، وإنما اختلفوا فيما في اللوح المحفوظ وما في أيدي الملائكة من الصحف مما أطلعهم الله عليه، أيقع فيه محو، أم أنه قد ختم عليه فلا يقع فيه محو ولا تبديل ولا تغيير؟ وأساس الخلاف يرجع إلى الاختلاف في فهم قول الله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ *} [الرعد] ، وقد ذكر أهل العلم أقوالاً عديدة في معنى الآية، بلغت عند بعضهم كالقرطبي رحمه الله الى ثمانية عشر قولاً، والذي يهمنا من ذلك هنا الأقوال المرتبطة بالمحو والإثبات مما كتب من المقادير، وهي ترجع إلى خمسة أقوال:
القول الأول: أنه لا محو ولا إثبات ولا تغيير لشيء من المكتوب، وإنما معنى الآيه في أمور أخرى خارجة عن تلك المعاني السابقة، قال ابن عطية رحمه الله: «وتخبط الناس في معنى هذه الألفاظ، والذي يتخلص به مشكلها: أن نعتقد أن الأشياء التي قدرها الله تعالى في الأزل وعلمها بحال ما لا يصح فيها محو ولا تبديل، وهي التي ثبتت في (أُمُّ الْكِتابِ) وسبق بها القضاء، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره من أهل العلم، وأما الأشياء التي قد أخبر الله تعالى أنه يبدل فيها وينقل كعفو الذنوب بعد تقريرها، وكنسخ آية بعد تلاوتها واستقرار حكمها ففيها يقع المحو والتثبيت فيما يقيده الحفظة ونحو ذلك، وأما إذا رد الأمر للقضاء والقدر فقد محا الله ما محا وثبّت ما ثبّت. وجاءت العبارة مستقلة بمجيء الحوادث، وهذه الأمور فيما يستأنف من الزمان»[1].
ومن قال بهذا القول اختلفوا في بيان ما يقع فيه المحو والإثبات ومما ذكروا في ذلك:
1 ـ أنّ الله ينسخ ما يشاء من أحكام كتابه، ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه. وقال بهذا ابن عباس وقتادة وابن زيد وابن جريج ومال إليه شارح الطحاوية.
2 ـ أنه يمحو من قد حان أجله، ويثبت من لم يجئ أجله إلى أجله. وقال به الحسن البصري ومجاهد وهو الذي رجحه ابن جرير.
3 ـ وقيل إن معنى الآية: يغفر ما يشاء من ذنوب عباده، فهذا المحو، ويترك ما يشاء فلا يغفر وهذا الإثبات، وعزاه ابن جرير لسعيد بن جبير.
القول الثاني: أن المحو والإثبات فيما يتعلق بالمقادير واقع في جميع المقدورات المكتوبات؛ لأن الأمر يعود لمشيئة الله عزّ وجل وإرادته ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وممن نسب له هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى ابن جرير بسنده عن أبي عُثْمان النَّهدي قال: «سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول، وهو يطوف بالكعبة: اللَّهُمَّ إن كنت كتبتَني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت عليَّ الذّنب والشِّقوة فامحُني وأثبتني في أهل السّعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أمّ الكتاب»[2]، ومثله روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وكعب الأحبار وأبي وائل شقيق بن سلمة والضحاك والكلبي[3].
القول الثالث: أن المحو والإثبات في كل شيء إلا الشقاء والسعادة فلا محو ولا تغيير فيها، فقد مضى بها القدر وختم عليه لا تغيير ولا تبديل فيها، وعُزي هذا القول إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقد روى ابن جرير بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ *}، قال: «كل شيء غير السعادة والشقاء، فإنهما قد فُرِغ منهما»[4].
القول الرابع: أن المحو والإثبات في كل شيء إلا الشقاء والسعادة والموت والحياة فإنه قد فرغ منها فلا محو ولا إثبات فيها، وهو القول الأشهر عن ابن عباس وهو قول مجاهد.
القول الخامس: أنّ الله يمحو ما يشاء ويثبت من الكتب والصحف التي بأيدي الملائكة، أما ما في أمّ الكتاب فلا يُغَيَّرُ منه شيء. وعزا ابن جرير هذا القول لابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة[5].
وقد قال بمضمون هذا القول الأخير شيخ الإسلام ابن تيمية في موضوع الأجل، فقد قال: «إن الله عزّ وجل يكتب للعبد أجلاً في صحف الملائكة، فإذا وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب... وهذا معنى ما روي عن عمر أنه قال: اللَّهُمَّ إن كنت كتبتني شقيًّا فامحني واكتبني سعيدًا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت. والله سبحانه عالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون؛ فهو يعلم ما كتبه له وما يزيده إياه بعد ذلك والملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم الله، والله يعلم الأشياء قبل كونها وبعد كونها؛ فلهذا قال العلماء: إن المحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالمًا به فلا محو فيه ولا إثبات. وأما اللوح المحفوظ فهل فيه محو وإثبات؟ على قولين[6].
ونحو هذا قال ابن حجر: «وأن الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل، ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي فيقع فيه المحو والإثبات كالزيادة في العمر والنقص، وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات، والعلم عند الله»[7].
المسألة الثانية: إثبات الكتابة فعلاً من أفعال الله عزّ وجل:
الكتابة فعل من أفعال الله عزّ وجل، ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة، ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احتجّ آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيّبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى، اصطفاك الله بكلامه، وخطّ لك بيده، أتَلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «فحجَّ آدم موسى، فحج آدم موسى» . وفي حديث ابن أبي عمر وابن عبدة، قال أحدهما: «خطّ»، وقال الآخر: «كتب لك التوراة بيده»[8].
وفي تقرير هذا جاء كلام أهل العلم؛ قال ابن خزيمة رحمه الله «نقول: لله يدان مبسوطتان، ينفق كيف يشاء، بهما خلق الله آدم عليه السلام، وبيده كتب التوراة لموسى عليه السلام، ويداه قديمتان لم تزالا باقيتين، وأيدي المخلوقين مخلوقة»[9].
وقال الآجري: «باب الإيمان بأن الله عزّ وجل خلق آدم عليه السلام بيده، وخط التوراة لموسى بيده...»[10].
وقال ابن تيمية: «وأما قوله: «إن الله كتب التوراة بيده» فهذا قد روي في الصحيحين، فمن أنكر ذلك فهو مخطئ ضال، وإذا أنكره بعد معرفة الحديث الصحيح يستحق العقوبة»[11].


[1] المحرر الوجيز (3/317) [دار الكتب العلمية، ط1].
[2] أخرجه ابن جرير في تفسيره (16/482) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن بطة في الإبانة (4/131) [دار الراية، ط1].
[3] انظر أقوالهم في تفسير ابن جرير (16/432).
[4] أخرجه ابن جرير في التفسير (16/478) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[5] تفسير ابن جرير (16/432). وانظر: تفسير ابن كثير (4/472)، وتفسير القرطبي (9/329)، وزاد المسير لابن الجوزي (2/501)، وشرح الطحاوية (1/144).
[6] مجموع الفتاوى (14/490).
[7] فتح الباري (11/488). وانظر: تفسير السعدي (419).
[8] أخرجه البخاري (كتاب القدر، رقم 6614)، ومسلم (كتاب القدر، رقم 2652)، واللفظ له.
[9] كتاب التوحيد لابن خزيمة (1/195) [مكتبة الرشيد ط5، 1994م].
[10] كتاب الشريعة (3/1177).
[11] مجموع الفتاوى (12/533) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1416هـ].


الإيمان بالقدر هو الإيمان بأربع مراتب:
الأولى: العلم، الثانية: الكتابة، الثالثة: المشيئة، الرابعة: خلق الأعمال.
وكان غلاة القدرية المتقدمون ينكرون العلم والكتابة، ومنهم: معبد الجهني. الذي كان أول من نفى القدر من المسلمين في البصرة في أواخر عهد الصحابة بعد موت الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
وهذا المذهب قد انقرض وورثه المعتزلة بعد أن تخفف إنكارهم للقدر بالإقرار بالعلم والكتابة وإنكار المشيئة وخلق الأعمال.
الرد عليهم:
إن أنكار العلم وكتابة المقادير هو إنكار لعشرات النصوص من الكتاب والسُّنَّة التي جاء فيها تقرير ذلك صريحًا واضحًا لا لبس فيه ولا غموض، وقد سبق ذكر العديد من تلك النصوص الدالة على ذلك، وهي تتضمن الرد على هذه الطائفة من غلاة القدرية، كما أن كل من أقرَّ بعلم الله عزّ وجل بكل شيء وأن الله تعالى يعلم ما كان وما سيكون، فيجب أن يقر بالكتابة؛ لثبوتها بالنص؛ لأن الكتابة هي توثيق للمعلوم وتأكيد لوقوعه، فإنكارها لا مسوغ له.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولكن لما اشتهر الكلام في القدر، ودخل فيه كثير من أهل النظر والعباد، صار جمهور القدرية يقرون بتقدم العلم، وإنما ينكرون عموم المشيئة والخلق. وعن عمرو بن عبيد في إنكار الكتاب المتقدم روايتان. وقول أولئك ـ يعني: منكري العلم والكتابة ـ كفّرهم عليه مالك، والشافعي، وأحمد وغيرهم»[1].


[1] الإبانة لابن بطة (2/261) [دار الراية، ط2، 1418هـ].


1 ـ «إتحاف ذوي الألباب»، لمرعي الكرمي.
2 ـ «الاحتجاج بالقدر»، لابن تيمية.
3 ـ «إرشاد ذوي العرفان لما للعمر من الزيادة والنقصان»، لمرعي الكرمي.
4 ـ «القضاء والقدر»، للبيهقي.
5 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
6 ـ «التكليف في ضوء القضاء والقدر»، لأحمد علي عبد العال.
7 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز.
8 ـ «شفاء العليل»، لابن القيِّم.
9 ـ «القضاء والقدر في الإسلام»، لفاروق أحمد الدسوقي.
10 ـ «القضاء والقدر»، لعبد الرحمن المحمود.