حرف الكاف / الكُتب السماوية

           

الكُتب : جمع كتاب؛ وهو: اسم للصَّحيفة وما يُكتَب فيها؛ فيطلق الكتاب على المكتوب. والكاف والتاء والباء أصل صحيح يدلّ على جمع شيء إلى شيء، ومنه: الكتاب والكتابة. والكتاب: الفَرْض والحُكم والقَدَر[1].
السَّماويَّة : نسبة إلى السماء التي نزلت منها هذه الكتب من عند الله جلّ جلاله. وكل عالٍ مُطلٍّ تسمِّيه العرب سماء؛ فالسين والميم والواو أصل يدلُّ على العُلُوِّ[2].


[1] انظر: الصحاح (1/208) [دار العلم للملايين، ط4]، ومقاييس اللغة (5/158) [دار الفكر، ط2، 1418هـ]، والقاموس المحيط (165) [مؤسسة الرسالة، ط5].
[2] انظر: مقاييس اللغة (3/98).


الكتب السّماوية : هي الكتب التي أنزلها الله عزّ وجل على رسله عليهم الصلاة والسلام، بوحي منه سبحانه وتعالى؛ لتكون لهم ولأقوامهم هدى ونورًا ورحمة وموعظة وشرعًا، ويصلوا بها إلى سعادة الدنيا والآخرة[1].


[1] رسائل في العقيدة لابن عثيمين (23).


سُمّي الوحي الذي أنزله الله عزّ وجل على رسله الكرام عليهم السلام بالكتب؛ إما على معنى الجمع؛ بمعنى: أنَّ هذا الوحي المنزّل عليهم مجموع ومكتوب في كتاب، وإما على معنى الفرض والإلزام؛ بمعنى: أن ما فيها من أحكام وشرائع مفروض على أقوامهم الذين بعثوا فيهم.



الكتب هي: الكتب السماوية، والكتب الإلهيّة، والكتب المنزّلة، ووحي الله تعالى إلى أنبيائه ورسله.



يجب على المسلم أن يعتقد أنّ الإيمان بالكتب السّماويّة المنزّلة من عند الله تعالى على أنبيائه ورسله أصل وركن عظيم من أصول الإيمان والاعتقاد، معلوم من الدّين بالضَّرورة، اتفق على وجوبه جميع الأنبياء والمرسلين من لدن أبي البشر آدم عليه السلام إلى خاتمهم محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ولا يتحقّق إيمان العبد إلا بالإيمان به؛ فمن جحد شيئًا منها كفر.
والإيمان بتلك الكتب يتضمّن عدّة أمور:
أولها: التصديق الجازم بأنّ جميعها وحي منزّل من عند الله تعالى على أنبيائه ورسله، وحق وصدق بغير شك ولا ارتياب، وأنّ الله تكلّم بها حقيقة؛ فهي كلام الله غير مخلوقة لا كلام غيره.
والثاني: اعتقاد أنّ جميع الكتب دعت إلى عبادة الله وحده ونبذ الشّرك به سبحانه.
الثالث: الإيمان بكلّ ما فيها من الشرائع، وتصديق ما صحَّ من أخبارها ـ كأخبار القرآن ـ وما لم يبدّل أو يحرّف من الكتب السابقة.
الرابع: أنّ جميع هذه الكتب يصدِّق بعضها بعضًا لا يكذّبه؛ فلا تناقض بينها ولا تعارض؛ لأنها كلّها من عند الله تعالى.
الخامس: أنّ نسخ الكتب بعضها ببعض حقّ؛ كما نسخ الإنجيل بعض شرائع التوراة، وكما نسخ القرآن كثيرًا من شرائع التوراة والإنجيل. كما أنّ نسخ بعض آيات القرآن أو تخصيص عامّها أو تفصيل مجملها بالكتاب والسُّنَّة حق.
السادس: الإيمان بما سمّى الله تعالى لنا من الكتب السّابقة إجمالاً في الإجمالي وتفصيلاً في التفصيليّ[1].
السابع: أنّ القرآن الكريم هو خاتم الكتب المنزلة من عند الله تعالى، وأعظمها وأشرفها وأهداها، والمهيمن علينا، والناسخ لها ولشرائعها، والجامِع لأصولها ومحاسنها، والباقي والخالد إلى قيام الساعة.
فالإيمان بالكتب السابقة هو الإقرار بها بالقلب واللسان، أما القرآن فيتضمن الإقرار والاتباع.
الثامن: أنّ كتب أهل الكتاب السابقة للقرآن الكريم (وهي: التوراة والزبور والإنجيل) قد نالتها أيدي التحريف والتبديل والتغيير والكتمان؛ فلم يسلم منها شيء؛ فلا تجوز نسبة كل ما فيها إلى هؤلاء الرسل، وليست هي كتبهم الصحيحة المنزّلة من قبل الله تعالى؛ فالإيمان بها يعني: الإيمان بأصولها التي أنزلها الله تعالى.
أما القرآن الكريم فقد تكفّل الله تعالى بحفظه؛ فما بين الدفتين ـ مما هو مكتوب في المصحف ـ هو القرآن الكريم بغير ما ارتياب ولا شك[2].


[1] تفسير السعدي (617) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ].
[2] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (14/134)، والجواب الصحيح له (5/64) [دار العاصمة، ط1، 1414هـ]، وتفسير ابن كثير (1/448، 501، 3/129) [دار طيبة، ط2، 1420هـ]، وشرح العقيدة الطحاويَّة لابن أبي العزّ (2/424) [مؤسسة الرسالة، ط9، 1417هـ]، ومعارج القبول (2/671) [دار ابن القيِّم بالدَّمَّام، ط1، 1410هـ]، وعقيدة أهل السُّنَّة والجماعة لابن عثيمين (22) [الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بالرياض، 1410هـ]، والرُّسُل والرِّسالات للأشقر (229) [دار النفائس، ط12، 1423هـ]، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد للفوزان (2/149) [الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بالرياض، ط2، 1412هـ]، وأصول الإيمان في ضوء الكتاب والسُّنَّة لنخبة من العلماء (127) [وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف بالسعودية، 1421هـ].


أُنزلت الكتب السماوية من عند الله تعالى كلها لغاية واحدة، وهدف واحد، وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له، ولتكون منهج حياة للبشر الذين يعيشون في هذه الأرض، تقودهم بما فيها من هداية إلى كل خير، ولتكون روحًا ونورًا تحيي نفوسهم، وتكشف ظلماتها؛ لكي يحظى الناس بسعادة الدنيا والآخرة[1].


[1] انظر: الرسل والرسالات (235).


الكتب السماوية ذات منزلة عظيمة، فالإيمان بها يعدُّ أصل من أصول العقيدة، وركن من أركان الإيمان، ولا يصح إيمان أحد إلا إذا آمن بالكتب السماوية التي أنزلها الله على رسله عليهم السلام.
وقد أثنى الله عزّ وجل على الرسل الذين يبلِّغون عن الله كتبه ورسالاته فقال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ} [الأحزاب: 39] ، كما أخبر سبحانه أن الرسول والمؤمنون آمنوا بما أنزل من عند الله من كتب، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] ، ومما يدل على منزلة هذه الكتب أن الله أمر المؤمنين بأن يؤمنوا بها فقال سبحانه: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيْسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ *} [البقرة] .
ومما يدل على منزلتها أيضًا أن الله أهلك الأمم بسبب تكذيبهم بها، كما أخبر الله عن صالح بقوله: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ *} [الأعراف] ، كذلك من أنكر شيئًا مما أنزل الله فهو كافر كما قال : {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا *} [النساء] .



قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا *} [النساء] ، وقال الله جلّ جلاله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيْسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ *} [البقرة] . والآيات في هذا الباب كثيرة.
وثبت في حديث جبريل عليه السلام المشهور، أنّه قال: «فأخبرني عن الإيمان؛ قال: أن تؤمِن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه »[1].
وثبت في حديث دعاء النوم، أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللَّهُمَّ ربّ السماوات وربّ الأرض وربّ العرش العظيم، ربّنا وربّ كلِّ شيء، فالق الحبّ والنّوى، ومُنزِّل التوراة والإنجيل والفرقان؛ أعوذ بك من شرّ كلّ شيء» الحديث[2]، وقد علَّمه صلّى الله عليه وسلّم لابنته فاطمة رضي الله عنها[3].
أقوال أهل العلم:
قال ابن بطة رحمه الله: «وكذلك وجوب الإيمان والتصديق بجميع ما جاءت به الرسل من عند الله، وبجميع ما قال الله عزّ وجل فهو حق لازم، فلو أن رجلاً آمن بجميع ما جاءت به الرسل إلا شيئًا واحدًا كان بردِّ ذلك الشيء كافرًا عند جميع العلماء»[4].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «وقد اتفق المسلمون على ما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وهو أنه يجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين وبجميع ما أنزله الله من الكتب»[5].
وقال ابن كثيررحمه الله: «أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمّد صلّى الله عليه وسلّم مفصلاً، وبما أنزل على الأنبياء المتقدِّمين مجملاً، ونصّ على أعيان من الرسل، وأجمل ذكر بقية الأنبياء، وأن لا يفرّقوا بين أحد منهم؛ بل يؤمنوا بهم كلّهم»[6].


[1] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 8)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهذا لفظه. وأخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 50)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 9)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم (كتاب الذِّكر والدُّعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2713)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] كما جاء في بعض روايات الحديث عند مسلم.
[4] الشرح والإبانة (الإبانة الصغرى) (232، 233) [مكتبة العلوم والحكم، ط1، 1423هـ].
[5] الجواب الصحيح لمَن بدَّل دين المسيح (2/271). وانظر: مجموع الفتاوى (14/134).
[6] تفسير ابن كثير (1/448).


وقد ذكر الله تعالى منها في القرآن الكريم خمسة كتب؛ وهي: صحف إبراهيم، والتوراة، وصحف موسى، والزّبور، والإنجيل، ثم ختمت الكتب السماوية المنزّلة بأفضلها وأشرفها وهو سادسها؛ وهو: القرآن الكريم. فلو كانت صحف موسى هي نفسها التوراة، فتكون خمسًا.
أما صحف إبراهيم : فهي الكتب التي أنزلها الله عزّ وجل على نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام بوحي منه سبحانه وتعالى. وقد نزلت عليه جملة واحدة في أول ليلة من شهر رمضان.
والتوراة : هي اسم كتاب الله عزّ وجل الذي أنزله على نبيه وكليمه موسى عليه السلام، وألقاه إليه مكتوبًا في الألواح؛ ليكون لبني إسرائيل هدى ونورًا. وقد نزلت عليه جملة واحدة لستٍّ مضين من رمضان. واختلف؛ أهي صحف موسى أم غيرها؟
والزَّبور : هو اسم كتاب الله عزّ وجل الذي أنزله على نبيه داود عليه السلام، بوحي منه سبحانه وتعالى. وقد نزل عليه جملة واحدة لثمان عشرة خلت من رمضان.
والإنجيل : هو اسم كتاب الله عزّ وجل الذي أنزله على نبيه وعبده عيسى عليه السلام؛ ليكون لبني إسرائيل هدى ونورًا وموعظة للمتقين. وقد نزل عليه جملة واحدة لثلاث عشرة خلت من رمضان.
والقرآن الكريم : هو كلام الله سبحانه وتعالى، المنزَّل على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم بواسطة جبريل عليه السلام، المنقول بالتواتر، المتعبَّد بتلاوته. وقد نزل جملة واحدة إلى بيت العزّة في السماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان، ثم نزل على نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم منجّمًا ومفرّقًا حسب الوقائع والأحداث.



المسألة الأولى: المفاضلة بين الكتب السماوية:
الكتب السماوية كلها من كلام الله تعالى، تكلم بها على الحقيقة، وكلام الله عزّ وجل يتفاضل بعضه على بعض ـ وإن كان كله ذا فضل وشرف ـ، وهذا التفاضل لا «باعتبار نسبته للمتكلّم؛ فإنه سبحانه واحد؛ ولكن باعتبار معانيه التي يتكلّم بها، وباعتبار ألفاظه المبينة لمعانيه»[1].
قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] ، ومن هذه الكتب: القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، وأعظمها التوراة والإنجيل والقرآن، وأعظم الثلاثة وناسخها وأفضلها هو القرآن.
ولم يتكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ شيء من هذه الكتب عدا القرآن[2]. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *} [الحجر] ، وقال : {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48] ، وقال تبارك وتعالى : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23] ، «فأخبر أنه أحسن الحديث، فدلَّ على أنه أحسن من سائر الأحاديث المنزلة من عند الله وغير المنزلة»[3]. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبيّ بن كعب رضي الله عنه: «تحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها»؟ قال: نعم يا رسول الله، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف تقرأ في الصلاة» ؟ قال: فقرأ أم القرآن، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته»[4].
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «بينما جبريل عليه السلام قاعد عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، سمع نقيضًا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته»[5].
قال ابن كثير: «وقد علم بالضرورة لذوي الألباب: أنّ الله لم ينزِّل كتابًا من السّماء ـ فيما أنزل من الكتب المتعددة على أنبيائه ـ أكمل ولا أشمل ولا أفصح ولا أعظم ولا أشرف من الكتاب الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ وهو: القرآن»[6].
المسألة الثانية: أصولها واحدة:
أصول الكتب السماوية واحدة، فهي تتفق في وحدة المصدر، فمصدرها واحد؛ فهي منزلة من عند الله، قال تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 3، 4] .
كما أنها تتفق في الغاية، فهي كلها تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى دين الإسلام؛ فالإسلام هو دين جميع الرسل، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] .
كما أنها تتفق في مسائل الاعتقاد: فالكتب اشتملت على الإيمان بالله تعالى، والإيمان بالغيب، والإيمان بالرسل، والبعث والنشور، والإيمان باليوم الآخر إلى غير ذلك.
كما تتفق في الدعوة إلى العدل والقسط ومكارم الأخلاق ومحاربة الفساد والانحراف وغير ذلك[7].
المسألة الثالثة: حكم القراءة في الكتب السابقة:
ومن المسائل أيضًا : حكم النظر والاطلاع على الكتب المحرفة الموجودة بين أيدي اليهود والنصارى اليوم؛ فيقال: لا يجوز النظر في كتب أهل الكتاب عمومًا؛ لأنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم غضب حين رأى مع عمر كتابًا أصابه من بعض أهل الكتاب، وقال: «أمتهوِّكون فيها يا ابن الخطّاب؟!» الحديث[8]، حتى وإن كانت مشتملة على الحق والباطل؛ لما في ذلك من ضرر فساد العقائد. اللَّهُمَّ إلا لمن كان متضلعًا بعلوم الكتاب والسُّنَّة، مع شدة التثبت وصلابة الدين والفطنة والذكاء؛ وكان ذلك للرد عليهم وكشف أسرارهم وهتك أستارهم[9].
المسألة الرابعة: نسخ الكتب السابقة:
الكتب السماوية السابقة كلها منسوخة بالقرآن الكريم المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، فهو المهيمن على كل الكتب قبله، بمعنى: أنه مؤتمن وشاهد ورقيب، وحاكم وقاضي، ودال ومصدق، فالقرآن الكريم أمين على كل كتاب قبله، في أصله المنزل، يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما فيها من التحريف والتبديل، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل، فصارت له الهيمنة عليها من كل وجه. ثم ميز الله عزّ وجل القرآن الكريم عن سائر الكتب بأن تعهد بحفظه وجعله معجز بلفظه ومعناه[10].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهكذا القرآن فإنه قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله وعن اليوم الآخر وزاد ذلك بيانًا وتفصيلاً، وبيَّن الأدلة والبراهين على ذلك، وقرَّر نبوة الأنبياء كلهم ورسالة المرسلين وقرر الشرائع الكلية التي بعثت بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبيَّن عقوبات الله لهم ونصره لأهل الكتب المتبعين لها، وبيَّن ما حرف منها وبدل وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبين أيضًا ما كتموه مما أمر الله ببيانه وكل ما جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن، فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة، فهو شاهد بصدقها وشاهد بكذب ما حرف منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره الله ونسخ ما نسخه، فهو شاهد في الخبريات حاكم في الأمريات»[11].
المسألة الخامسة: تحريفها:
الكتب السماوية المتقدمة على القرآن (السالم من التحريف والتبديل)، والتي أنزلها الله على رسله عليهم السلام قد فقدت واندثرت من زمن مبكر من تاريخ هؤلاء الرسل الكرام، ولا يعلم عنها شيء، ويتعذر الحصول عليها، وما وصل منها اليوم مما هو بين أيدي أهل الكتاب ـ من اليهود والنصارى ـ (كالتوراة والزَّبور والإنجيل) قد وكَّل الله حفظها ـ بعد موت الأنبياء ـ إلى أهلها من الربانيين والأحبار والرهبان؛ فلم يمتثلوا الأمر ولم يحفظوا ما استحفظوه؛ بل خانوا الأمانة وضيعوا تلك الكتب عمدًا؛ فانطمست آثارها ومعالمها بما أوقعوه فيها من التحريف: بالتبديل، والزيادة والنقص، والكتمان والإهمال والنسيان، إضافة إلى ليِّ اللسان بها؛ ليلبسوا على السامع اللفظ المنزل بغيره؛ فاختلط فيها الحق بالباطل؛ فلا تجوز نسبتها إلى هؤلاء الرسل، وليست هي كتبهم الصحيحة المنزّلة من قبل الله تعالى؛ بل هي مليئة بالحكايات والتواريخ، ومواعظ متأخّريهم، وكلام الكفرة والكهنة!
ويعتقد المسلم: أنّ أكثر هذا التحريف قد وقع في معاني تلك الكتب وشرائعها ـ عند ترجمتها، أو تفسيرها وشرحها وتأويلها ـ، عمدًا أو خطأً، ووقع أيضًا في بعض ألفاظها وحروفها أو كثير منها زيادة ونقصًا.
إلا أنه لا يزال فيها كثير من بقايا الوحي الإلهي المنزَّل على أنبياء الله عليهم السلام (كمثل بقاء آية الرّجم، وصفة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بعثته الشريفة)، ويعرف هذا بموافقتها لأصول الشرع، وما جاء في القرآن والسُّنَّة الصحيحة[12].
المسألة السادسة: حكم سبّها:
من المسائل المتعلقة بالكتب السماوية: حكم سبّ أو لعن الكتب السماوية المتقدمة (كالتوراة والإنجيل والزَّبور)؛ فيقال: «ليس لأحد أن يسب أو يلعن هذه الكتب، بل من أطلق سبّها أو لعنها فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وإن كان يعرف أنها منزّلة من عند الله، وأنه يجب الإيمان بها؛ فهذا يقتل بشتمه لها، ولا تقبل توبته في أظهر قولي العلماء. وأما إن لعن دين اليهود والنصارى الذي هم عليه في هذا الزمان فلا بأس به في ذلك؛ فإنهم ملعونون هم ودينهم، وكذلك إن سبَّ هذه الكتب التي عندهم بما يبيِّن أنّ قصده ذكر تحريفها؛ مثل أن يقال: نسخ هذه الكتب مبدّلة لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدلة والمنسوخة فهو كافر؛ فهذا الكلام ونحوه حقّ لا شيء على قائله. والله أعلم»[13].


[1] مجموع الفتاوى (17/129). وانظر: (17/57، 137).
[2] انظر: مجموع الفتاوى (17/11 وما بعدها)، وفضائل القرآن الكريم (301، 435)، والإيمان حقيقته: خوارمه ـ نواقضه ـ عند أهل السُّنَّة والجماعة (135) [مدار الوطن، ط1، 1424هـ].
[3] مجموع الفتاوى (17/11).
[4] أخرجه الترمذي (أبواب فضائل القرآن، رقم 2875) وقال: «حديث حسن صحيح»، وأحمد (14/311) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1421هـ]، والحاكم (كتاب التفسير، رقم 3019) وصححه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 1453) [مكتبة المعارف، ط5].
[5] أخرجه مسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 806).
[6] تفسير ابن كثير (6/243) [دار طيبة، ط2].
[7] انظر: رسائل في العقيدة للحمد (287).
[8] أخرجه أحمد في مسنده (3/387) [مؤسسة قرطبة بمصر]، والدارمي في سننه (كتاب العلم، رقم 449)، قال الهيثمي: فيه مجالد بن سعيد، ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما. مجمع الزوائد (1/174) [مكتبة القدسي]. لكن له شواهد، حسنه بها الألباني في إرواء الغليل (6/34) [المكتب الإسلامي ببيروت، ط2].
[9] انظر: فتح الباري لابن حجر (13/525)، وكشاف القناع للبهوتي (1/434) [دار الفكر، 1402هـ]، ومطالب أولي النهى للرحيباني (1/607) [المكتب الإسلامي ببيروت، 1961م]، وفتاوى اللجنة الدائمة (3/433).
[10] انظر: الصواعق المرسلة (2/400) [دار العاصمة، ط1]، ولطائف المعارف (167، 168، 309) [دار ابن كثير].
[11] مجموع الفتاوى (17/44).
[12] انظر: المحرر الوجيز لابن عطيَّة (3/130) [وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بقطر، ط2، 1428هـ]، وتفسير الرازي (3/558) [دار إحياء التراث العربي ببيروت]، والجواب الصَّحيح لابن تيمية (2/380، 388، 418، 5/123)، ومجموع الفتاوى له (13/103 ـ 104)، ودرء تعارُض العقل والنَّقل (5/78) [جامعة الإمام، ط2، 1411هـ]، وإغاثة اللهفان (2/351) [دار المعرفة ببيروت، ط2، 1395هـ]، وهداية الحيارى (114)، وتفسير ابن كثير (2/65) [دار طيبة، ط2، 1420هـ]، وفتح الباري لابن حجر (13/523) [دار المعرفة، 1379هـ]، وأضواء البيان للشنقيطي (2/120) [دار عالم الفوائد، ط1، 1426هـ]، وتعليق محقِّق كتاب تخجيل من حرَّف التوراة والإنجيل لصالح بن الحسين الجعفري (1/283) [مكتبة العبيكان، ط1، 1419هـ].
[13] مجموع الفتاوى (35/200)، بتصرُّف وزيادات. وانظر: نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز العبد اللطيف (199) [مدار الوطن، ط3، 1427هـ].


من أبرز الثمرات المترتبة على الإيمان بالكتب:
1 ـ العلم برحمة الله تعالى، وعنايته بعباده ولطفه بهم؛ حيث أنزل لكلّ أمّة كتابًا يهديهم به إلى صراطه المستقيم، ويبيِّن لهم به سبيله القويم، ويرشدهم فيه إلى ما يحبُّه ويرضاه وما يبغضه ولا يرضاه؛ لعدم استقلال العقل البشريّ بمعرفة ذلك مع عظم الحاجة إليه[1].
2 ـ ظهور حكمة الله تعالى في شرعه؛ حيث شرع في هذه الكتب لكلّ أمّة ما يناسب حالها؛ أمّا القرآن الكريم الخاتم فهو مناسب لجميع بني الإنسان، في مختلف العصور والأزمان، إلى قيام السّاعة[2].
3 ـ شكر الله تعالى على هذه النّعمة العظيمة، والمنّة الكبرى بإنزال الكتب[3].
4 ـ إثبات كلام الله تعالى بالوحي، وأنه جلّ جلاله يتكلَّم حقيقة متى شاء كيف شاء بما شاء، وأنه يسمع من شاء من خلقه كلامه كما سمعه جبريل عليه السلام منه بلا واسطة، وكما سمعه موسى عليه السلام أيضًا. ونثبت له هذه الصّفة من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل.
6 ـ ومن الثمرات المترتبة على نزول الكتب على الأنبياء: إثبات علوّ الله تعالى على خلقه؛ كما دلَّت عليه آيات القرآن الكريم، والسُّنَّة المتواترة الصّحيحة، والفطرة السويّة، وصريح المعقول، وأجمعت عليه جميع الملل من اليهود والنّصارى والمسلمين.


[1] انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد لصالح الفوزان (2/149). وانظر: مجموع الفتاوى (19/96).
[2] انظر: تفسير ابن كثير (3/130).
[3] انظر: عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة لابن عثيمين (45)، وشرح الأصول الثلاثة له (95).


1 ـ «الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد»، لصالح الفوزان.
2 ـ «أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسُّنَّة»، لنخبة من العلماء.
3 ـ «تفسير القرآن العظيم» (ج1، 3)، لابن كثير.
4 ـ «الجواب الصحيح» (ج2، 5)، لابن تيمية.
5 ـ «درء تعارض العقل والنقل» (ج5)، لابن تيمية.
6 ـ «رسالة ابن القيِّم إلى أحد إخوانه»، لابن القيم.
7 ـ «شرح العقيدة الطحاوية» (ج2)، لابن أبي العز.
8 ـ «عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة»، لابن عثيمين.
9 ـ «مجموع الفتاوى» (ج13، 14)، لابن تيمية.
10 ـ «معارج القبول» (ج2)، لحافظ الحكمي.