حرف الألف / أعمال القلوب

           

أعمال: جمع عمل، قال ابن فارس رحمه الله: «العين والميم واللام أصل واحد صحيح، وهو عام في كل فعل يُفعل»[1].
القلوب: جمع قلب، و«القلب: الفؤاد، وقد يعبَّر به عن العقل. قال الفراء في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق] ؛ أي: عقل. وقلبت الشيء فانقلب؛ أي: انكب»[2].
وقال ابن فارس رحمه الله: «القاف واللام والباء، أصلان صحيحان: أحدهما يدل على خالص شيء وشريفه، والآخر على رد شيء من جهة إلى جهة. فالأول: القلب: قلب الإنسان وغيره، سمي؛ لأنه أخلص شيء فيه وأرفعه، وخالص كل شيء وأشرفه قلبه»[3]. وقال الفيروزآبادي: «والقلب: الفؤاد، أو أخص منه، والعقل، ومحض كل شيء»[4]. وقال الخليل: «القلب مضغة من الفؤاد معلقة بالنياط»[5][6].


[1] مقاييس اللغة (4/145) [دار الفكر، 1399هـ].
[2] الصحاح (1/224 ـ 225) [دار العلم، ط4، 1990م].
[3] مقاييس اللغة (5/17).
[4] القاموس المحيط (127) [مؤسسة الرسالة، ط8].
[5] النياط: «عرق علق به القلب من الوتين، فإذا قطع مات صاحبه». لسان العرب (7/418) [دار صادر، ط3].
[6] العين (5/170) [مكتبة هلال].


أعمال القلوب هي التي يتعلق فعلها بالقلب، دون سائر الجوارح، سواء كانت حسنة؛ كالخوف من الله ومحبته وإنابته إلى الله ورغبته ورهبته، أو كانت سيئة؛ كالحسد والبغض ونحو ذلك[1].


[1] انظر: التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة (106) [دار طيبة، ط1]، وأعمال القلوب وأثرها في الإيمان (1/123) [رسالة دكتوراه مقدمة لقسم العقيدة بالجامعة الإسلامية عام 1417هـ].


ـ منازل السائرين.
ـ مقامات العارفين[1].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (7/190).


أحكام أعمال القلوب تنقسم إلى:
1 ـ أعمال القلوب الواجبة والمستحبة؛ كالإخلاص والتوكل والمحبة والخوف والرجاء والنية في العبادة.
2 ـ أعمال القلوب المباحة؛ كالحب الطبيعي والخوف الطبيعي، وبغض بعض الأشياء[1].
3 ـ أعمال القلوب المحرمة والمكروهة؛ كالنفاق والكفر والكِبر والرياء والعُجب والحسد[2].


[1] انظر: الاستقامة لابن تيمية (2/123) [جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1، 1403هـ].
[2] انظر: مدارج السالكين (1/133) [دار الكتاب العربي، ط3، 1416هـ].


حقيقة ما في القلب: هو القول والعمل، فقول القلب: هو تصديقه وإقراره ومعرفته وعلمه واعتقاده، سواء كان هذا الاعتقاد صحيحًا أو فاسدًا. وأما عمل القلب: فهو حركته نحو محبة الخير أو إرادة الشر؛ أي: أن أعمال القلب هي التي تؤثر في الإرادة وتوجهها فعلاً أو تركًا لما تصوره القلب[1].


[1] انظر: التنبيهات اللطيفة للسعدي (106).


أعمال القلوب هي أصل الدين، وأساس الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهي أصل أعمال الجوارح والمحركة لها، وبها تزكو النفس وتسمو.
وأعمال القلوب كما هي مصدر للخير والسعادة، هي مصدر للشر والشقاوة كذلك؛ وهل يميز بين المؤمن والمنافق إلا بما في القلوب؛ فمن اتقى قلبه اتقت جوارحه، ومن فجر قلبه فجرت جوارحه.
ولهذا؛ فالثواب والعقاب، والمدح والذم، وتوابع ذلك، هو للقلب أصلاً، وللجوارح تبعًا، وعليه فمعرفة أحكام أعمال القلوب أهم من معرفة أحكام أعمال الجوارح؛ لأنها أفرض على العبد منها، ومستحبها أحب إلى الله من مستحب أعمال الجوارح[1].


[1] انظر: التحفة العراقية في أعمال القلوب لابن تيمية (20) [دار الكتب العلمية، ط1، 1426هـ]، وبدائع الفوائد (3/187 ـ 188) [دار الكتاب العربي]، وتجريد التوحيد للمقريزي (64) [الجامعة الإسلامية، 1409هـ].


من الأدلة على أعمال القلوب الصالحة:
قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ *} [الرعد] .
وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *} [الأنفال] .
ومن الأدلة على أعمال القلوب القبيحة:
قول الله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ} [الأنفال: 49] .
وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ *} [التوبة] .



قال العز بن عبد السلام رحمه الله: «مبدأ التكاليف كلها ومحلها أو مصدرها القلوب... وصلاح الأجساد موقوف على صلاح القلوب، وفساد الأجساد موقوف على فساد القلوب»[1].
وقال ابن القيم رحمه الله: «ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما؟ وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه؟ وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم فهي واجبة في كل وقت، ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان، فمركب الإيمان القلب، ومركب الإسلام الجوارح»[2].
وقال السعدي رحمه الله: «وأما أعمال القلب فهي حركته التي يحبها الله ورسوله، وضابطها محبة الخير وإرادته الجازمة، وكراهية الشر والعزم على تركه، وهذه الأعمال القلبية تنشأ عنها أعمال الجوارح»[3].


[1] قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/197) [مكتبة الكليات الأزهرية، 1414هـ].
[2] بدائع الفوائد (3/193).
[3] التنبيهات اللطيفة (106).


تنقسم أعمال القلوب إلى قسمين:
أ ـ أعمال صالحة مثل: حب الله عزّ وجل، والتوكل، والصدق، والطمأنينة والإنابة، ونحو ذلك.
ب ـ أعمال سيئة مثل: الحسد، والغل، والحقد، والبغض، ونحو ذلك.



المسألة الأولى: تفاضل أعمال القلوب:
تقدم معنا أن أعمال القلوب هي أصل الإيمان، وأهل السُّنَّة والجماعة متفقون على أن الإيمان يتفاضل وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. فالحب في الله والبغض في الله، والتصديق والخوف والرجاء والتوكل ونحو ذلك من أعمال القلوب كلها تتفاوت من حال إلى حال ومن إنسان لآخر؛ بل التفاوت في أعمال الجوارح إنما هو انعكاس للتفاوت في أعمال القلوب، وذلك للتلازم بينهما، وهذا متفق عليه عند أهل السُّنَّة لا خلاف فيه[1].
المسألة الثانية: التلازم بين عمل القلب وعمل الجوارح:
العلاقة بين عمل القلب وعمل الجوارح؛ هي علاقة تلازم وارتباط وثيق، بحيث لا يمكن أن ينفك أحدهما عن الآخر، فعمل القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر، وانتفاء عمل الجوارح دليل انتفاء عمل القلب. وعلى ذلك أدلة من الكتاب والسُّنَّة وأقوال السلف[2].
المسألة الثالثة: أسباب زيادة عمل القلب[3]:
1 ـ أن يُشغل القلب بالفكر بما فيه صلاحه وفلاحه المحقق.
2 ـ تكثير الشواهد النافعة في القلب، لتقوى صلته بالله تعالى.
3 ـ إصلاح القلب بالحب لله ولرسوله ولما يحبه الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وتطهيره مما يخالف هذا ويناقضه.
4 ـ معرفة الله عزّ وجل بأسمائه والحسنى وصفاته العلى.
5 ـ طلب العلم الشرعي.
6 ـ التأمل في آيات الله الكونية ومخلوقاته عزّ وجل.
7 ـ الإكثار من ذكر الله تعالى.
8 ـ البعد عن المعاصي.


[1] انظر: أعمال القلوب حقيقتها وأحكامها عند أهل السُّنَّة والجماعة ومخالفيهم لسهل العتيبي (2/551 ـ 576) [جامعة الإمام محمد بن سعود، ط1، 1426هـ].
[2] انظر: مجموع الفتاوى (7/204، 541، 554 577، 616، 621)، والفوائد لابن القيم (85) [دار الكتب العلمية، ط2]، والصلاة وحكم تاركها لابن القيم (49 ـ 50) [ط. مكتبة الثقافة بالمدينة المنورة].
[3] انظر: زيادة الإيمان ونقصانه (183) (وما بعدها) لعبد الرزاق البدر [كنوز إشبيليا، ط2، 1427هـ]، وأسباب زيادة الإيمان له (42 ـ 46) [ط1، 1427هـ].


1 ـ أن بصلاح أعمال القلوب تصلح أعمال الجوارح.
2 ـ أعمال القلوب هي أساس الفوز بالجنة والنجاة من النار.
3 ـ أعمال القلوب هي المحسِّنة والمجمِّلة لأعمال الجوارح.
4 ـ أعمال القلوب هي أساس تحصيل الإحسان، وهو أعظم مرتبة في الدين؛ ذلك لأن الإحسان بُني على المراقبة، والمراقبة من أعمال القلوب.
5 ـ الأعمال القلبية هي المحركة والدافعة لأعمال الجوارح.
6 ـ أنها تُكثِّر أعمال الجوارح، بل تكاد أعمال الجوارح لا تصح بدونها.
7 ـ عند العجز عن القيام ببعض أعمال الجوارح تكون الأعمال القلبية معوضة عنها، وتقوم مقامها[1].


[1] انظر: العبادات القلبية وأثرها في حياة المؤمن (36 ـ 44) [دار المجتمع، ط2، 1419هـ].


خالف في ذلك:
1 ـ الجهمية والأشاعرة؛ حيث لم يدخلوا أعمال القلوب في حقيقة الإيمان[1].
2 ـ أما الخوارج والمعتزلة: فوافقوا أهل السُّنَّة والجماعة في دخول أعمال القلوب في حقيقة الإيمان، إلا أنهم يرون عدمَ تفاضلها وعدم تجزئها، فلو زال جزء منها زال المسمى كله فلا يسمى إيمانًا، وإنما يسمى كفرًا[2].
الرد عليهم:
هذا لا شك مخالف لما دلَّت عليه النصوص الشرعية من الكتاب والسُّنَّة الصحيحة وما أجمع عليه سلف الأمة من دخول الأعمال في مسمى الإيمان مع تفاضل الناس فيها، وقد تقدم معنا الأدلة على ذلك.
والذين زعموا أن العمل ليس داخلاً في الإيمان أخرجوا في كلامهم عن التوحيد ما له علاقة بالعمل وهو توحيد الألوهية، فتهاونوا بأعظم الأصول الدينية وهو توحيد الألوهية، وكفى بهذا أثرًا فاسدًا لإخراجهم الأعمال عن مسمى الإيمان.
ويقال للوعيدية: إن الإيمان مركب من ثلاثة أشياء، وهو القول والاعتقاد والعمل، وزوال جزء منه لا يزيل مُسمّاه ما لم يكن في ذلك الجزء هو الأصل الذي يبنى عليه الدين كله[3].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (7/195)، ومقالات الإسلاميين للأشعري (1/114) [المكتبة العصرية، ط1]، وتمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للباقلاني (346 ـ 347) [مؤسسة الكتب الثقافية، ط1]. وشرح المقاصد للتفتازاني (2/250) [دار عالم الكتب، ط1]. أعمال القلوب حقيقتها وأحكامها (2/787).
[2] انظر: مشارق أنوار العقول للسالمي (2/197) [دار الجيل، ط1]، ومتشابه القرآن للقاضي عبد الجبار (1/312) [دار التراث]، وأعمال القلوب حقيقتها وأحكامها (2/791).
[3] انظر: مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى (365)، وجامع العلوم والحكم لابن رجب (43).


1 ـ «أعمال القلوب حقيقتها وأحكامها عند أهل السُّنَّة والجماعة ومخالفيهم»، لسهل العتيبي.
2 ـ «أعمال القلوب عند شيخ الإسلام»، جمع وترتيب: صالح الغصن.
3 ـ «أعمال القلوب وأثرها في الإيمان»، لمحمد دوكوري.
4 ـ «إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان» (ج1)، لابن القيم.
5 ـ «التحفة العراقية في أعمال القلوب»، لابن تيمية.
6 ـ «رسالة في القلب وأنه خلق ليعلم به الحق ويستعمل فيما خلق له»، لابن تيمية.
7 ـ «عبادة القلب»، لعبد الرحمن المحمود.
8 ـ «عبودية القلب لربِّ العالمين في القرآن الكريم»، لعبد الرحمن البرادعي.
9 ـ «القلب في القرآن وأثره في سلوك الإنسان»، لسيد محمد ساداتي.
10 ـ «موسوعة فقه القلوب»، لمحمد التويجري.