حرف الكاف / الكشف

           

قال ابن فارس: «الكاف والشين والفاء أصل صحيح يدل على سُرُوِّ الشيء عن الشيء كالثوب يسرى عن البدن»[1].
والكشف في اللغة بمعنى الإظهار، وهو رفع الشيء عما يواريه ويغطيه. يقال: كشف الشيءَ يكشفه كشفًا، ومنه قوله تعالى: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ *لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ *} [النجم] ؛ أي: لا يَكْشِفُ الساعةَ إلا ربُّ العالمين[2].


[1] مقاييس اللغة (5/181) [دار الجيل، ط2].
[2] انظر: تهذيب اللغة (10/18) [دار إحياء التراث العربي، ط1]، ولسان العرب (9/300) [دار صادر، ط1].


قال الجرجاني: «الكشف في...الاصطلاح: الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية، والأمور الحقيقية، وجودًا وشهودًا»[1].


[1] التعريفات (237) [دار الكتاب العربي، ط1]. وانظر: شفاء السائل لابن خلدون (51) [كلية الإلهيات، 1958م] ومدارج السالكين (3/221) [دار الكتاب العربي، ط2]، وشرح الألفاظ المشكلة الجارية في كلام الصوفية، للسراج الطوسي ضمن مجموع معجم نصوص المصطلح الصوفي في الإسلام، للجبوري (38)، وشرح ألفاظ واصطلاحات تدور بين الصوفية لعماد الدين القرشي ضمن نفس المجموع (172) [دار نينوى، ط2، 1329هـ].


جاءت عدة ألفاظ عند الصوفية تقارب معنى الكشف، ومن ذلك: الخواطر[1]، المطالعة[2]، الواردات[3]، التجلي[4]، المحادثة[5]، الإلهام[6]، الإشراق[7].


[1] انظر: التعريفات (129)، وتفسير ألفاظ تدور بين هذه الطائفة وبيان ما يشكل منها للقشيري (105) ضمن مجموع: معجم نصوص المصطلح الصوفي في الإسلام، واصطلاحات الصوفية لابن عربي (150) ضمن نفس المجموع.
[2] انظر: شفاء السائل لابن خلدون (51)، واصطلاحات الصوفية لابن عربي (105) ضمن مجموع معجم نصوص المصطلح الصوفي في الإسلام.
[3] انظر: التعريفات (322)، واصطلاحات الصوفية لابن عربي (1150) ضمن مجموع معجم نصوص المصطلح الصوفي في الإسلام.
[4] انظر: شرح الألفاظ المشكلة الجارية في كلام الصوفية ضمن مجموع معجم نصوص المصطلح الصوفي في الإسلام (53)، والمصطلح الصوفي للجلابي الهجويري ضمن نفس المجموع (131)، واصطلاحات الصوفية لابن عربي ضمن نفس المجموع (152)، والتعريفات (73).
[5] انظر: التعريفات (262)، واصطلاحات الصوفية لابن عربي (152) ضمن مجموع معجم نصوص المصطلح الصوفي في الإسلام.
[6] انظر: التعريفات (51).
[7] انظر: أصول الفلسفة الإشراقية عند السهروردي لمحمد أبو ريان [مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، 1959م]، والمعجم الفلسفي لجميل صليبا (2/231) [الشركة العالمية للكتاب، ط 1414هـ].


ترجع حقيقة الكشف عند الصوفية إلى الاطلاع على علم الغيب، ومعرفة الشرع.
ولهذا أدخلوا في الكشف:
1 ـ الاطلاع على أسرار الملكوت وحقائق الوجود[1]، حتى يصل غلاتهم إلى القول بأن الولي يدرك بالكشف العوالم غير المتناهية، ويطلع على أخبار الماضي والمستقبل[2].
ويرى الغزالي أنه كلما ارتفعت الحجب بين القلب وبين اللوح المحفوظ رأى القلب الأشياء في اللوح المحفوظ! وتفجر العلم منه إلى القلب! فاستغنى عن الاقتباس بطريق الحواس، فللقلب عنده بابان، باب مفتوح على عالم المحسوس، وباب مفتوح على عالم الملكوت؛ أي: اللوح المحفوظ، وأنه يصل إلى الاطلاع على اللوح المحفوظ، وعليه فهو يرى أن علوم الأولياء تأتي من داخل القلب من الباب المنفتح إلى عالم الملكوت، في حين أن علوم العلماء من أبواب الحواس[3].
2 ـ معرفة الحلال والحرام من غير تعلم.
فيرون صحة أن يكتسب المرء المعرفة لا من التعلم ولا من الطريق المعتاد[4]. ومن أجل هذا زعم بعض أئمة الصوفية أنهم ألفوا بعض كتبهم ـ الضلاليَّة أو الكفرية ـ من كَشْفٍ كُشِفَ لهم، لا من طريق النظر والفكر، كما زعمه ابن عربي في كتابه الفتوحات المكية[5]، والجيلي في كتابه الإنسان الكامل[6]، وغيرهما.
والكشف يحصل عند الصوفية لا بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب، بل يحصل ـ كما يزعمون ـ بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها، والارتياض بالذكر والمجاهدات، وتفريغ القلب من شواغله[7].
المنزلة:
لقد أنزل الصوفيةُ الكشفَ منزلةً مقدَّمةً على منزلة الوحي، فهم يرون أن العمدة في الاعتقاد ما يكشف لهم، فإذا كشف لهم أمر نظروا للكتاب والسُّنَّة، فما وافقه أثبتوه، وما خالفه حرَّفوه.
وبلغ بهم الحال أن ذمُّوا من يأخذ العلم من الكتاب والسُّنَّة، دون اعتماد طريق الكشف، وتنقَّصوا أهل الحديث من أجل ذلك؛ لأن أهل الحديث يأخذون علمهم عن ميِّتٍ عن ميِّت، وأما هم فيأخذونه ـ بزعمهم ـ عن الحي الذي لا يموت[8].
ولأهمية الكشف عندهم يجعلونه طريقًا للمريد في أول سلوكه لطريق التصوف، حتى يزعمون أن المبتدئ يتعرض من أول طريقه للمكاشفات والمشاهدات، وأنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتًا، ويقتبسون منهم فوائد![9].


[1] شفاء السائل لابن خلدون (51).
[2] تحفة السفرة إلى حضرة البررة لابن عربي (13)، عن: جناية التأويل الفاسد لمحمد أحمد لوح (490، 491) [دار ابن عفان، ط1، 1408هـ].
[3] إحياء علوم الدين (3/21 ـ 22) [دار المعرفة]. وانظر: جامع كرامات الأولياء للشعراني (2/325).
[4] إحياء علوم الدين (3/23).
[5] انظر: الفتوحات المكية (1/136) (3/456) [الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 1405].
[6] انظر: الإنسان الكامل (7) [دار الكتب العلمية، ط1، 1418هـ].
[7] انظر: إحياء علوم الدين (3/19).
[8] انظر: إحياء علوم الدين (3/104)، وتلبيس إبليس لابن الجوزي (392) [دار الكتاب العربي، ط1، 1405هـ]، وإيقاظ الوسنان للسنوسي (105، 106) [المطبعة الثعالبية، ط1332هـ]، والإنسان الكامل للجيلي (7، 8).
[9] المنقذ من الضلال (107) [دار الأندلس، ط7].


قال أبو العباس القرطبي: «ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق يلزم منه هدُّ الأحكامِ الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغنياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم، قالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوِّها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع والكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما تجلى له من تلك العلوم عما كان عند موسى من تلك الفهوم.
قلتُ [القائل القرطبي]: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب؛ لأنه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سُنَّته، وأنفذ حكمته، فإن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عنه رسالاته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *} [الحج] ، وقال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ...
وعلى الجملة، فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري، وإجماع السلف والخلف: على ألا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل الكرام، فمن قال: إن هناك طريقًا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يستغنى عن الرسل فهو كافر يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا صلّى الله عليه وسلّم الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله فلا نبي بعده، ولا رسول»[1].
وقد بيَّن الإمام ابن أبي العز حال هؤلاء، فقال: «والرهبان وهم جهال المتصوفة المعترضون على حقائق الإيمان والشرع يعترضون على الشريعة بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفس»، وذكر أنهم يقولون: «إذا تعارض الذوق والكشف وظاهر الشرع قدمنا الذوق والكشف»[2].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «من ادعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد، وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن محمدًا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب، فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فكانوا كفارًا بذلك، وكذلك هذا الذي يقول إن محمدًا بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض، فهو كافر، وهو أكفر من أولئك؛ لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة، وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة»[3].


[1] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/217 ـ 219) [دار ابن كثير، ط1، 1417هـ].
[2] شرح العقيدة الطحاوية (222) [المكتب الإسلامي، ط4، 1391هـ]، وقد تقدم نقل بعض أقوالهم في ذلك.
[3] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (11/266).


ذكر بعض أهل التصوف أن للكشف خمسة أقسام:
1 ـ كشف عقلي، وبه تدرك المعقولات.
2 ـ كشف قلبي، وتدرك به أنوار مختلفة.
3 ـ كشف سِرِّي، وتدرك به أسرار المخلوقات، وحِكَم خَلقِها.
4 ـ كشف روحي، وبه يرتفع حجاب الزمان والمكان، ويدرك به العوالم غير المتناهية، ويطلع به على أخبار الماضي والمستقبل.
5 ـ كشفٌ خفيّ، وهو أن ينكشف الله تعالى بالصفات، إما بالجلال أو الجمال، على حسب المقامات والحالات، ويسمى كشفًا صفاتيًّا[1].


[1] تحفة السفرة إلى حضرة البررة لابن عربي (13)، عن: جناية التأويل الفاسد لمحمد أحمد لوح (490 ـ 491).


الحكم على ما ادعاه الصوفية ـ أو غيرهم ـ من الكشوفات يتضح من خلال ما يلي:
أولاً: لا ريب أن الأصل في معرفة الحقائق والشرائع عند أهل الحق ـ أهل السُّنَّة والجماعة ـ هو كتاب الله، وسُنَّة مصطفاه صلّى الله عليه وسلّم، وما أجمع عليه سلف الأمة، فهو ما أمر الله عباده المؤمنين بالرد إليه عند الاختلاف، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *} [النساء] ، فما أتت به الرسل عن الله فهو الحق الذي ضمنت لنا عصمته، وأما ما لم تأت به ففيه حق وباطل، فكان الواجب رده إلى الحق الذي لا باطل فيه[1].
والله تعالى قد قال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51]
فتبيَّن أن الاكتفاء حاصل بالكتاب فهو الأصل والمرجع في الاستدلال، فمن جعل الكشف أصلاً مستقلًّا في معرفة الغيب أو الحلال والحرام فقد ابتدع في الدين، ولم يحقق هذا الاكتفاء.
فالميزان هو الشرع، وكل ما سواه ـ من الكشوف والمنامات والإلهامات المزعومة ـ يجب أن تُردَّ إليه، فما وافقه قبل، وما خالفه رُد.
ثانيًا: أن الكشوفات والإلهامات ـ من حيث الأصل ـ لا يمتنع وقوعها، فقد تقع للبعض، فإنه ليس من الممتنع وجود العلم بثبوت الصانع وصدق رسوله إلهامًا[2].
وهذا إنما يكون لمن صدق إيمانه، ومتابعته للرسالة، فإن المؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره، ولا سيما في الفتن، وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله، وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له، وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف[3].
فالكشف الصحيح: هو أن يعرف المؤمنُ الحقَّ الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، معاينة لقلبه، ويجرد إرادة القلب له، وما خالف ذلك فغرور قبيح[4].
ثالثًا: أن هذه الكشوف إذا وقعت فإنها لا تكون دليلاً من أدلة الشرع، فلا يجوز الحكم بمقتضاها في أحكام الشريعة وأخبارها، فضلاً عن جعلها حاكمة على الشريعة أو مستغنًى بها عن الكتاب والسُّنَّة، وإنما هي بشارة وتأنيس، كحال الرؤى، فلا بدَّ أن تعرض على الكتاب والسُّنَّة، وألاّ يُعتمد منها إلا ما كان موافقًا للشرع[5].
ولهذا جاء في الصحيح عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة»[6].
فغاية ما تفيده الرؤيا التبشير أو التحذير، أو الاستئناس بها إذا وافقت حكمًا ثابتًا بالشرع الصحيح المعصوم.
وأما الاحتجاج فقد اتفق أهل العلم على أن الرؤيا لا تصلح له[7].
رابعًا: وبهذا يقال: ليس النزاع مع المخالف في أصل وقوع الكشوفات، وإنما في منزلتها التي زعموها لها، حيث جعلوها حاكمة على الكتاب والسُّنَّة، مملية على أصحابها ما هو من أبطل الباطل، وأكفر الكفر، كعقيدة وحدة الوجود والعياذ بالله.
ولا أدلُّ على ذلك من حال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو مُحدَّثُ هذه الأمة، ومع ذلك فقد كان يشاور الصحابة ويشاورونه، ويراجعهم ويراجعونه، ويحتج عليهم بالكتاب والسُّنَّة، ويرجعون جميعًا إليهما، ويردون ما اختلفوا فيه إلى ما أمر الله بالرد إليه من الرد إلى الله سبحانه، وإلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فحقٌّ على الولي ـ وإن بلغ في الولاية إلى أعلى مقام وأرفع مكان ـ أن يكون متقيدًا بالكتاب والسُّنَّة، وازنًا لأفعاله وأقواله بميزان الشريعة المطهرة، واقفًا على الحد الذي رسم فيها، غير زائغ عنها في شيء من أموره، وإذا ورد عليه وارد يخالف الشريعة رده، واعتقد أنه من الشيطان[8].
فطريقة الكشف عند الصوفية باب من أبواب البدعة، بل إنها قد تصل بسالكها إلى الزندقة والإلحاد[9].
والحاصل أن ضلال المتصوفة في باب الكشف هو فيما يلي:
1 ـ طريقة تحصيل الكشف، حيث زعموا أن الكشف لا يحصل إلا برياضات شاقَّة، بطرق مبتدعة في الدين، وأذكار ما أنزل الله بها من سلطان[10].
2 ـ حجيَّة الكشف ومنزلته، حيث جعلوه هو الأصل في معرفة الحقائق وأحكام الشرع، وجعلوا أدلة الكتاب والسُّنَّة تابعة له، بل حرَّفوها من أجله، وزعم بعضهم أنه قد تلقَّاه من النبي صلّى الله عليه وسلّم، مع أن الرسالة انقطعت بموته صلّى الله عليه وسلّم، وأنه قد يستغني بالكشف عن نصوص الشرع[11]، وتبع ذلك تزهيد كثير منهم في الوحي، وزعموا أن «من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد فلا يستقر له فيها قدم، ولا يتعين له موقف»[12].
ولا شك أن «هذا الكلام مضمونه أنه لا يستفاد من خبر الرسول شيء من الأمور العلمية، بل إنما يدرك ذلك كل إنسان بما حصل له من المشاهدة والنور والمكاشفة»[13].
3 ـ ومن أكبر ضلالهم في هذا الباب: ضلالهم في كثير من العقائد التي زعموا أنهم تلقوها عن طريق الكشف، كالقول بوحدة الوجود، أو أن للولي منزلة تفوق منزلة النبي.
4 ـ الغلوّ في قدرِه واستمراره، حيث جعلوا في مقدرة الولي أن يطلع ويدرك بالكشف العوالم غير المتناهية، ويطلع به على أخبار الماضي والمستقبل[14]، وجعلوه أمرًا مستمرًّا لمن زعموا فيهم الولاية، والحق أنه أمر عارض للمؤمنين، وليس مستمرًّا، بل يحصل في بعض الأحوال، كأن يكون فيه نصرة للدين، أو إغاثة كربة لمضطر ونحو ذلك.


[1] انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (19/5) [مكتبة ابن تيمية، ط2].
[2] انظر: درء التعارض (8/46) [دار الكتب العلمية، 1417هـ].
[3] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/45، 46).
[4] انظر: مدارج السالكين (3/222، 223، 226).
[5] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/65، 203).
[6] أخرجه البخاري (كتاب التعبير، رقم 6990).
[7] انظر: التنكيل للمعلمي (2/241 ـ 243) [المكتب الإسلامي، ط2]، والمنهج السلفي للقوسي (259، 260).
[8] قطر الولي للشوكاني (250، 251) بتصرف يسير. وانظر: مدارج السالكين (1/494، 495).
[9] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/266)، ومنهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد (2/655، 668).
[10] انظر: إحياء علوم الدين (3/21 ـ 23).
[11] المرجع السابق (3/21 ـ 22).
[12] المرجع السابق (3/104).
[13] درء التعارض (5/348).
[14] تحفة السفرة إلى حضرة البررة لابن عربي (13).


المسألة الأولى: معنى حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن يكن في أمتي محدَّثون فعمر»:
الإلهام هو المقصود بالتحديث الذي جاء في حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ كان يقول: «قد كان يَكونُ في الأُممِ قَبلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فإِن يكن في أمّتي منهم أحد فإن عمر بن الخطّاب منهم»[1] . والتحديث المذكور هنا قد جاء تفسيره بالإلهام عن أحد رواة الحديث وهو ابن وهب، فقد قال بعد روايته: «تفسير مُحَدَّثُونَ: مُلْهَمُونَ»[2]. وهذا التفسير هو الثابت عن أكثر أهل العلم[3].
ومع ذلك فلم يكن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحكم في أمر من شرع الله بمجرد ما يلقى في قلبه، بل كان يعرضه على الكتاب والسُّنَّة، فإن وافق ما يقع له من كشف وإلهام ما في الوحي قَبِلَه، وإن خالفه ردَّه[4].
المسألة الثانية: الجواب عن حديث: «فإنه ينظر بنور الله»:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتّقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله» [5]. وهذا الحديث ضعيف؛ ضعفه جمع من أهل العلم[6]، فلا يصح الاعتماد عليه في إثبات مصدر للتشريع، ويبقى النظر فيما يبدو للمؤمن من كشوف وإلهامات بحسب ما تقدم، فما وافق الشرع قُبل، وما لم يوافقه رُدَّ وطُرح[7].


[1] أخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2398)، واللفظ له. وأخرجه البخاري أيضًا (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3469)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] في رواية مسلم السابقة.
[3] انظر: فتح الباري لابن حجر (7/50).
[4] انظر منهاج السُّنَّة (8/70)، وبغية المرتاد (387، 388)، ودرء تعارض العقل والنقل (5/349).
[5] أخرجه الترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3127) وقال: «حَدِيثٌ غَرِيبٌ»، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (رقم 1821)، وستأتي الإشارة أيضًا إلى من ضعفه من أهل العلم. وقد روي من غير حديث أبي سعيد، وكلها ضعيفة لا تثبت، كما بيَّن الألباني في السلسلة الضعيفة (الموضع السابق).
[6] ممن ضعَّفه: ابن الجوزي في الموضوعات (2/332، 333) [دار الكتب العلمية، ط1، 1415هـ]، والصغاني في الموضوعات له (51) [دار المأمون، ط2، 1405هـ]، والألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (4/299، رقم 1821).
[7] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/473) (13/68، 69)، والروح لابن القيم (238) [دار الكتب العلمية، ط 1395هـ]، ومدارج السالكين (1/129).


من الآثار الفاسدة للاعتماد على الكشف في أحكام الشريعة والعقيدة ما يلي:
1 ـ مخالفة الأمر الرباني، والطعن في أصل دين الإسلام، المقتضي للرجوع إلى الكتاب والسُّنَّة في الاحتجاج الشرعي، والاستسلام لأمر الله، وهو ما ثبت بالتواتر والإجماع، وعلم بالضرورة من الدين، وذلك بالنظر لما يدعيه الغلاة من أن الكشف يصل بصاحبه إلى الاستغناء عن الوحي، حتى جعلوا الكشف مقدمًا على الوحي، والوحي تابع له عندهم.
2 ـ مناقضة ما ثبت بالضرورة من الدين من تفرد الله بالعلم بالغيب؛ إذ يدعي أصحاب الكشف أنهم ينظرون في عالم الملكوت، واللوح المحفوظ، وهذا مما اختص الله بعلمه.
3 ـ أن القول بالكشف يستلزم الاستغناء عن رسل الله، ذلك أن الكشف عندهم كاف في إثبات الأحكام ونفيها، فأي حاجة للأنبياء بعدها، وبطلان ذلك اللازم معلوم الفساد، بل هو من الكفر والإلحاد[1].
4 ـ الاضطراب والاختلاف في الدين، حيث إن ما يدَّعى من كشوفات باطلة تختلف من شخص إلى شخص، فكلٌّ يحلل ويحرم، ويثبت وينفي بحسب ما يدَّعيه كشفًا.
5 ـ أن في الركون إلى الكشف فتحًا للباب لمن أراد أن يبتدع في الدين، ويغير من شريعة رب العالمين، ويبطل ما ثبت في الشرع، أو يزيد فيه، ويدَّعي أن ذلك كشف قد كشف له، وهذا ما وقع بالفعل، حيث أتى الغلاة بكثير من العقائد الكفرية المناقضة لما قرره الأنبياء، وادَّعوا أنها من طريق الكشف، كعقيدة الاتحاد والحلول ووحدة الوجود.


[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/266).


1 ـ «التعريفات»، للجرجاني.
2 ـ «جناية التأويل الفاسد»، لمحمد أحمد لوح.
3 ـ «قطر الولي على حديث الولي»، للشوكاني.
4 ـ «مجموع الفتاوى» (ج10)، لابن تيمية.
5 ـ «مدارج السالكين» (ج1)، لابن القيم.
6 ـ «المصادر العامة للتلقي عند الصوفية»، لصادق سليم.
7 ـ «معجم نصوص المصطلح الصوفي في الإسلام»، لنظلة الجبوري.
8 ـ «منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد»، لعثمان علي حسن.
9 ـ «موقف ابن تيمية من الأشاعرة»، لعبد الرحمن المحمود.