الكوني : منسوب إلى (الكون)، وهو مصدر للفعل (كان). يقال: كان يكون كونًا؛ أي: وجد واستقر[1]. قال ابن فارس: «الكاف والواو والنون أصل يدل على الإخبار عن حدوث شيء، إما في زمان ماض أو زمان راهن. يقولون: كان الشيء يكون كونًا؛ إذا وقع وحضر»[2].
والكون : الحدث، والكائنة: الأمر الحادث. وكوّنه فتكوَّن: أحدثه فحدث. وكوّن الله الشيءَ: أحدثه وأوجده بأن أَخرجه من العدم إلى الوجود[3].
والشرعي : منسوب إلى (الشرع)، قال ابن فارس: «الشين والراء والعين أصل واحد، وهو شيء يفتح في امتداد يكون فيه، من ذلك: الشريعة، وهي مورد الشاربة الماء. ويقال: أشرعت طريقًا؛ إذا أنفذته وفتحته»[4]. والشرع: نهج الطريق الواضح[5]. وشرع لهم يشرع شرعًا؛ أي: سنّ[6]. والشريعة والشِّرعة: ما سن الله من الدين وأمر به[7].
[1] النهاية في غريب الحديث والأثر (4/211) [المكتبة العلمية، 1399هـ].
[2] مقاييس اللغة (5/148) [دار الفكر، 1399هـ].
[3] تهذيب اللغة (10/205) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 2001م]، ولسان العرب (13/363 ـ 365) [دار صادر، ط3، 1414هـ]، وتاج العروس (36/71) [وزارة الإعلام بالكويت، ط 1408هـ].
[4] مقاييس اللغة (3/262).
[5] مفردات ألفاظ القرآن للراغب (1/532) [دار القلم].
[6] الصحاح (3/1236) [دار العلم، ط4، 1990م]. والقاموس المحيط (732) [مؤسسة الرسالة، ط8، 1426هـ].
[7] لسان العرب (8/176).
المراد بالكوني هو إحداث الشيء وإيجاده بأن يُخرج من العدم إلى الوجود، وهذا خاص بالله تعالى[1]، وهو صادر عن علمه الشامل وقدرته المطلقة. والكوني مطابق للمشيئة، والمقصود به: أن كل ما يحصل في هذا الكون فهو بمشيئة الله وقدرِه وخلقه. وهذا لا يخرج عنه شيء مهما صغُر ودقّ. وأما الشرعي فهو النهج الواضح والدين القويم الذي سنّه الله تعالى وأمر به[2]، والناس في الأخذ به متفاوتون[3].
[1] تهذيب اللغة (10/205)، ولسان العرب لابن منظور (13/363 ـ 365)، وتاج العروس (36/71).
[2] لسان العرب (8/176).
[3] وانظر: طريق الهجرتين (1/37 ـ 39) [دار السلفية، ط2، 1394هـ].
قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54] ، قال السعدي رحمه الله: «أي: له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها وسفليها، أعيانها وأوصافها وأفعالها والأمر المتضمن للشرائع والنبوات، فالخلق: يتضمن أحكامه الكونية القدرية، والأمر: يتضمن أحكامه الدينية الشرعية، وثم أحكام الجزاء، وذلك يكون في دار البقاء»[1].
وقال تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12] ، «فكُتبه كلماته التي يأمر بها وينهى ويحل ويحرِّم، وكلماته التي يخلق بها ويكوّن»[2].
ومن السُّنَّة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء»[3].
وعن أبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»[4].
وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فهو فضلي أوتيه من أشاء»[5].
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله عزّ وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده، قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطًا وسلفًا بين يديها»[6] الحديث.
[1] تفسير السعدي (291) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[2] شفاء العليل (282).
[3] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7471).
[4] أخرجه مسلم (كتاب القدر، رقم 2664).
[5] أخرجه البخاري (كتاب مواقيت الصلاة، رقم 557).
[6] أخرجه مسلم (كتاب الفضائل، رقم 2288).
قال ابن عيينة رحمه الله: «فرّق الله بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما فقد كفر[1]»[2].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «وأما لفظ (الكلمات)، فقال في الكلمات الكونية: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12] ، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر» [3] الحديث. وكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر: هي التي كوَّن بها الكائنات فلا يخرج بر ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته وقدرته.
وأما كلماته الدينية: وهي كتبه المنزلة وما فيها من أمره ونهيه فأطاعها الأبرار وعصاها الفجار. وأولياء الله المتقون هم المطيعون لكلماته الدينية، وجعله الديني، وإذنه الديني، وإرادته الدينية.
وأما كلماته الكونية التي لا يجاوزها بر ولا فاجر؛ فإنه يدخل تحتها جميع الخلق حتى إبليس وجنوده وجميع الكفار وسائر من يدخل النار، فالخلق وإن اجتمعوا في شمول الخلق والمشيئة والقدرة والقدر لهم، فقد افترقوا في الأمر والنهي والمحبة والرضا والغضب. وأولياء الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور وتركوا المحظور وصبروا على المقدور فأحبهم وأحبوه ورضي عنهم ورضوا عنه. وأعداؤه أولياء الشياطين وإن كانوا تحت قدرته فهو يبغضهم ويغضب عليهم ويلعنهم ويعاديهم»[4].
وقال رحمه الله أيضًا: «والله تعالى له الخلق والأمر، فلفظ الإرسال، والبعث، والإرادة، والأمر، والإذن، والكتاب، والتحريم، والقضاء، والكلام ينقسم إلى: خَلقي، وأمري، وكوني، وديني»[5].
وقال ابن القيم رحمه الله: «فما كان من كوني فهو متعلق بربوبيته وخلقه، وما كان من الديني فهو متعلق بإلهيته وشرعه، وهو كما أخبر عن نفسه سبحانه له الخلق والأمر، فالخلق قضاؤه وقدره وفعله والأمر شرعه ودينه، فهو الذي خلق وشرع وأمر وأحكامه جارية على خلقه قدرًا وشرعًا.
ولا خروج لأحد عن حكمه الكوني القدري، وأما حكمه الديني الشرعي فيعصيه الفجار والفساق والأمران غير متلازمين؛ فقد يقضي ويقدر ما لا يأمر به ولا شرعه، وقد يشرع ويأمر بما لا يقضيه ولا يقدره ويجتمع الأمران فيما وقع من طاعات عبادة وإيمانهم وينتفي الأمران عما لم يقع من المعاصي والفسق والكفر وينفرد القضاء الديني والحكم الشرعي في ما أمر به وشرعه ولم يفعله المأمور، وينفرد الحكم الكوني فيما وقع من المعاصي»[6].
[1] ومراده رحمه الله: أن من جعل الأمر من جملة ما خلقه فقد كفر.
[2] أورده القرطبي في تفسيره (7/221) [دار الكتب المصرية، ط2، 1384هـ].
[3] أخرجه أحمد (24/202) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1421هـ]، وذكر الهيثمي في المجمع (10/127) [مكتبة القدسي]: أن رجال بعض أسانيده رجال الصحيح. وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (رقم 840) [مكتبة المعارف، ط1، 1415هـ].
[4] مجموع الفتاوى (13/270، 271) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1416هـ].
[5] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/149) [دار العاصمة، ط2، 1419هـ].
[6] شفاء العليل (280).
ورد في الشرع ألفاظ عديدة تنقسم إلى معنيين؛ الكوني والشرعي، وهذه الألفاظ هي:
1 ـ القضاء:
ودليل القضاء الكوني قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] . ودليل القضاء الشرعي، قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] أي: أمر.
2 ـ الأمر:
قال تعالى في الأمر الكوني: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [يس] . وأما الأمر الديني فمثل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] .
3 ـ التحريم:
ودليل التحريم الكوني قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12] ، وقوله: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي} [المائدة: 26] . وأما التحريم الشرعي فدليله قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] ، وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] .
4 ـ الكلمات:
فالكلمات الكونية مثل قوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ *} [يونس] . ومنه قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأََمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *} [هود] . وأما الكلمات الشرعية فدليلها قوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64] .
5 ـ الإذن:
الإذن الكوني مثل قوله في السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] . ودليل الإذن الشرعي قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ أآلله أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] .
6 ـ الكتاب:
ودليل الكتاب الكوني قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] . وقوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] . ودليل الكتاب الشرعي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] .
7 ـ الإرادة:
فدليل الإرادة الكونية، قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] . وقال تعالى في الإرادة الدينية: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا *يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا *} [النساء] .
8 ـ البعث:
فالبعث الكوني دليله قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء: 5] . وقوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 31] . وأما البعث الشرعي فدليله قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2] .
9 ـ الإرسال:
الإرسال الكوني دليله قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا *} [مريم] . وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان: 48] . وأما الإرسال الشرعي فدليله قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] .
10 ـ الجعل:
أما الجعل الكوني فدليله قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ *وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ *} [يس] ، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] . وأما الجعل الشرعي فدليله قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} [المائدة: 103] ؛ أي: ما شرع ذلك ولا أمر به وإلا فهو مخلوق له واقع بقدره ومشيئته.
11 ـ الإيتاء:
أما الإيتاء الكوني فدليله قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 247] . وأما الإيتاء الشرعي فكقوله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] .
12 ـ الآيات:
أما الآيات الكونية فدليلها قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلونَ *} [البقرة] ، وقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] . وأما الآيات الشرعية فدليلها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *} [البقرة] ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ *} [البقرة] [1].
[1] انظر: الجواب الصحيح (1/149 ـ 154)، وشفاء العليل (280 ـ 283).
ـ التسوية بين الإرادة والمشيئة:
منشأُ الضلال الذي وقعت فيه القدرية والجبرية يكمن في التسوية بين المشيئة الكونية والإرادة الشرعية، حيث ظنُّوا أن المشيئة والإرادة (الكونية) مستلزمة للمحبة والرضا.
فالقدرية زعموا أن الكفر والفسوق والعصيان لا يمكن إدخالهم تحت إرادة الله وتقديره؛ لأن الأمر عندهم يستلزم الإرادة، فكل ما أمر به فقد أراده، والله تعالى لم يأمر بالكفر والفسوق والعصيان، فهو غير مريد لها؛ لأن الله لا يحبها ولا يرضاها.
أما الجبرية؛ فزعموا أن الكفر والفسوق والعصيان مرادة له محبوبة له، وقد جبرهم عليها ولا خيار لهم في تركها؛ لأن الأمر عندهم لا يستلزم الإرادة، وإذا كان الله تعالى لم يأمر بالكفر والفسوق والعصيان إلا أنه أراد ذلك وقدَّره وشاءه[1].
ومذهب أهل السُّنَّة قائم على التفريق بين المشيئة والمحبة والرضا، إذ إن النصوص دالة على أن كل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وإرادته، وهذا يشمل الطاعات والمعاصي، ثم إن النصوص دلَّت على أن الله لا يحب الكفر ولا المعاصي ولا الفساد، وقد اتفقت الأمة على أن الله يكره المنهيات دون المأمورات، ويحب المأمورات دون المنهيات، فالطاعات يريدها الله من العباد الإرادة المتضمنة لمحبته لها، ورضاه بها، إذا وقعت وإن لم يفعلها، والمعاصي يبغضها ويكره من يفعلها من العباد وإن شاء أن يخلقها هو لحكمة اقتضت ذلك، ولا يلزم إذا كرهها للعبد لكونها تضر بالعبد أن يكره أن يخلقها هو لما له فيه من الحكمة[2].
[1] انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي (336، 431) [مكتبة وهبة، ط3، 1416هـ]، والمحيط بالتكليف له (340) [المؤسسة المصرية العامة للتأليف]، والملل والنحل للشهرستاني (1/87) [مؤسسة الحلبي]، والفرق بين الفرق للبغدادي (211).
[2] انظر: منهاج السُّنَّة النبوية (3/156 ـ 163).
الفرق بين الكوني والشرعي:
ـ الكوني يكون فيما يحبه الله، وفيما لا يحبه، أما الشرعي فلا يكون إلا فيما يحبه الله خاصة.
ـ الكوني لا بدَّ أن يقع، فكل ما في هذا الكون، وكل ما يكون ويوجد، فإن الله أراده كونًا وقدرًا من خير وشر، وصحة وعافية، وعز وإذلال، وكفر وإيمان، وفقر وغنى، ومعصية وطاعة، وسعادة وشقاوة، أما الشرعي المتعلق بالأمر والنهي، وهو ما طلب الله من العباد تطبيقه والعمل به من الأحكام الشرعية، وهذا لا يستلزم الوقوع إذ قد يقع وقد لا يقع. فقد أمر الله أبا جهل بالإيمان ولم يؤمن[1].
ولا تلازم بين الأمرين الكوني والشرعي؛ بل قد يتعلق كل منهما بما لا يتعلق به الآخر، فبينهما عموم وخصوص من وجه. فالأمر الكوني أعم من جهة تعلقه بما لا يحبه الله ويرضاه من الكفر والمعاصي، وأخص من جهة أنه لا يتعلق بمثل إيمان الكافر وطاعة الفاسق. والأمر الشرعي أعم من جهة تعلقه بكل مأمور به واقعًا كان أو غير واقع، وأخص من جهة أن الواقع بالأمر الكوني قد يكون غير مأمور به. والحاصل أن النوعين قد يجتمعان معًا في مثل إيمان المؤمن، وطاعة المطيع.
وينفرد الأمر الكوني في مثل كفر الكافر، ومعصية العاصي. وينفرد الأمر الشرعي في مثل إيمان الكافر، وطاعة العاصي[2].
[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/440، 476)، وشفاء العليل (47، 48)، وشرح الطحاوية (69).
[2] مراتب القضاء والقدر للدبيخي (69) بتصرف. وانظر: شفاء العليل (280).
ضلّ في هذا الباب طائفتان؛ هما: القدرية والجبرية.
فالقدرية أثبتوا الإرادة الشرعية وأنكروا الإرادة الكونية، وزعموا أن الله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان، فلا يدخل تحت إرادة الله وتقديره؛ لأن الأمر عندهم يستلزم الإرادة، فكل ما أمر به فقد أراده، والله تعالى لم يأمر بالكفر والفسوق والعصيان، فهو غير مريد لها؛ لأن الله لا يحبها ولا يرضاها[1].
أما الجبرية فأثبتوا الإرادة الكونية وأنكروا الإرادة الشرعية وزعموا أن الكفر والفسوق والعصيان مرادة له محبوبة له، وقد جبرهم عليها ولا خيار لهم في تركها؛ لأن الأمر عندهم لا يستلزم الإرادة، وإذا كان الله تعالى لم يأمر بالكفر والفسوق والعصيان إلا أنه أراد ذلك وقدَّره وشاءه[2].
[1] انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (336، 431)، والمحيط بالتكليف (340).
[2] الملل والنحل للشهرستاني (1/87)، والفرق بين الفرق للبغدادي (211).
ما ذهبوا إليه مخالف للنصوص الشرعية التي دلَّت على الفرق بين المشيئة والمحبة وقد تقدم ذكر بعضها، ومذهب السلف قائم على التفريق بين الإرادتين وعدم التسوية بينهما، وأنه لا تلازم بين المشيئة والإرادة وبين المحبة والرضا، فالمعاصي داخلة تحت مشيئة الله الكونية؛ إذ لا يحصل في ملكه شيء خارج عن إرادته، لكنها غير داخلة تحت إرادته الشرعية ومحبته، وهذا جائز عقلاً وحسًّا ـ ولله المثل الأعلى ـ لهذا نجد أن المريض يشرب من الدواء بإرادته وهو لا يحبه، كذلك ما يحصل في الكون فهو بإرادة الله الكونية، وإن كان بعضه قد لا يحبه سبحانه، ولكنه أذن به ومكَّن العبد من فعله لحكمة ترجع إليه سبحانه، وهو قادر على منعه من ذلك إذا لم يرده إرادة كونية، فحصول المعاصي مراد لله كونًا وغير مراد شرعًا. فتعذيب العصاة على معاصيهم ليس ظلمًا لهم، وإن كانت مقدَّرة عليهم؛ لأنهم يعذبون على أعمالهم التي عملوها باختيارهم وإرادتهم بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتحذيرهم منها[1].
[1] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (8/222)، ومنهاج السُّنَّة (3/156، 157، 180)، وشفاء العليل (44) وما بعدها، وشرح الطحاوية (71، 72، 228، 229) [وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، ط1، 1418هـ]، والقضاء والقدر للمحمود (347) وما بعدها [دار الوطن، ط2]، ومراتب القضاء والقدر للدبيخي (61) وما بعدها.
1 ـ «الإرادة الكونية والإرادة الشرعية في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية»، لنوال علي الزهراني.
2 ـ «إيثار الحق على الخلق»، لابن الوزير.
3 ـ «شرح الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي.
4 ـ «شفاء العليل»، لابن القيِّم.
5 ـ «طريق الهجرتين»، لابن القيِّم.
6 ـ «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان»، لابن تيمية.
7 ـ «القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسُّنَّة ومذاهب الناس فيه»، لعبد الرحمن المحمود.
8 ـ «مجموع الفتاوى» (ج8)، لابن تيمية.
9 ـ «مراتب القضاء والقدر»، لسليمان الدبيخي.
10 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية» (ج3)، لابن تيمية.