حرف الكاف / الكيد

           

الكاف والياء والدال أصل صحيح يدل على معالجة لشيء بشدة ثم يتسع الباب، وكله راجع إلى هذا الأصل، قال أهل اللغة: الكيد المعالجة، هذا هو الأصل في الباب، ثم سموا المكر كيدًا[1].
فيطلق الكيد على المكر، والاجتهاد، والاحتيال، كاده يكيده كيدًا ومكيدة، وكذلك المكايدة، وربما سميت الحرب كيدًا[2].


[1] انظر: مقاييس اللغة (5/149).
[2] انظر: الصحاح (2/59)، ولسان العرب (3/383)، القاموس المحيط (403).


صفة فعلية ثابتة لله تعالى في مقابل كيد الكائدين، وردّ مكر الماكرين. وحقيقتها إظهار أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراده.
وصفة الكيد: هي كيده سبحانه بأهل الكيد مقابلة لهم بفعلهم، وجزاء لهم بجنس عملهم[1].
وهي بمعنى التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم، وهي في محلها صفة كمال يحمد عليها[2].
ولذلك فوصف الله تعالى بها جاء مقيدًا بما يفيد الكمال والعظمة، والعدل والحكمة.


[1] انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/388، 2/114). وراجع: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/129).
[2] انظر: شرح الواسطية لابن عثيمين (1/335).


العلاقة ظاهرة بين المعنيين، لكن المعنى المتعلق بوصف الله تعالى هو على جهة الكمال الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه، ولذلك لا يأتي إلا مقيدًا بما يفيد المدح والحمد، بخلاف ما قد يوصف به المخلوق من الكيد، فإنه قد يكون تعدِّيًا وظلمًا.



وجوب إثبات ما أضافه الله تعالى إلى نفسه من صفة الكيد على وجه الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأن يؤتى بذلك مقيدًا كما ورد في النصوص الشرعية، بما يفيد الكمال، ويزيل إيهام النقص.



إن الله جلّ جلاله يوصف بالكيد على وجه الكمال، فإنه جلّ جلاله عادل في عباده، وموقعه بأهله، ومن يستحقه، قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا *وَأَكِيدُ كَيْدًا *} [الطارق] [1].
ولما كانت صفة الكيد ـ من حيث الإطلاق ـ من الصفات المنقسمة التي تقبل المدح وتقبل الذم، جاء وصف الله تعالى بها مقيدًا بما يدل على المدح والكمال المطلق.
فالكيد حين يتعلق بمن يستحق الكيد وفي المواقف الموجبة له يعدُّ مدحًا لدى كل عاقل.
وذلك أن الكيد إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، فإن كان ذلك الغير يستحق ذلك الشر كان كيدًا حسنًا، وإلا كان كيدًا سيئًا.
والله سبحانه إنما يمكر ويكيد ويستهزئ بمن يستوجب ذلك فيأخذه من حيث لا يحتسب[2].


[1] انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (2/114).
[2] انظر: الفتاوى الكبرى (6/129).


قال الله تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] ، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا *وَأَكِيدُ كَيْدًا *} [الطارق] ، وقال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ *} [الأعراف: 183] .



قال ابن تيمية: «وهكذا وصف نفسه بالمَكْر والكيد، كما وصف عبده بذلك، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال: 30] ، وقال: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا *وَأَكِيدُ كَيْدًا *} [الطارق] ، وليس المَكْر كالمَكْر ولا الكيد كالكيد»[1].
وقال ابن القيِّم: «وكذلك المكر ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن حقيقته إظهار أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراده. فمن المحمود: مكره تعالى بأهل المكر مقابلة لهم بفعلهم وجزاء لهم، وكذلك الكيد ينقسم إلى نوعين، قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ *} [الأعراف] »[2].
وقال ابن كثير: «ولهذا قال تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة»[3].


[1] التدمرية (26). وانظر: غريب الحديث للحربي (1/94) [جامعة أم القرى، ط1، 1405هـ].
[2] إغاثة اللهفان (1/388).
[3] تفسير القرآن العظيم (4/401).


1 ـ التعبُّد لله تعالى بالخوف منه، وعدم أمن مكره وكيده، مع رجائه وحسن الظن به.
2 ـ التجاء المؤمن إلى ربه عزّ وجل في رد كيد الكائدين، وصرف أذى المبطلين.
3 ـ الحذر من الكيد المؤدي إلى إحقاق باطل، أو إبطال حق؛ فمن كاد للباطل يكيد الله عليه للحق.
4 ـ يقين المؤمنين بنصر الله تعالى؛ فهو جاعل العاقبة للمتقين، وهو لا يهدي كيد الخائنين.
5 ـ قيام ما خلق الله تعالى بالعدل والحكمة؛ فمن كاد ظلمًا وعدوانًا لا يدوم له كيد وإن فرح به زمنًا؛ فالله تعالى لا يهدي كيد الخائنين، وكيده الحق هو الغالب على كل كيد.
6 ـ ما يكون لرسل الله وأنبيائه وأوليائه من النصر والعاقبة الحسنة، مع قلة ذات يد لديهم؛ لكنه نصر الله تعالى الذي يكيد لهم ويمكر لهم.
7 ـ ما يقع على الظالمين من العقوبة والعذاب، فهم وإن فرحوا بكيدهم واعتدائهم زمانًا إلا أن المآل القريب هلاك وخسران، فهم يكيدون كيدًا، والله يكيد كيدًا، والله غالب على أمره.



خالف عموم المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة في إثبات هذه الصفة، وهذا بناء على ما أصَّلوه في نفي الصفات.
فمخالفة الجهمية بناء على أصلهم الفاسد في أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه[1].
ومخالفة المعتزلة بناء على أصلهم في نفي الصفات؛ لاستلزامها التشبيه، ولأن تعدد الصفات يلزم منه تعدد القدماء[2]، فيثبتون الكيد باعتبار أثره، ويؤوِّلونه بإنزال العقوبة[3].
ومخالفة الأشاعرة مبنية على أصلهم في نفي الصفات الفعلية؛ لأن إثباتها يستلزم حلول الحوادث في ذات الله تعالى، وكذلك توهم النقص في إثبات هذه الصفة نظرًا لجانب النقص الذي يحتمله إثباتها، فأولوها إلى صفة الإرادة التي يثبتونها ضمن الصفات العقلية السبع التي يثبتونها، فتكون الصفة عندهم بمعنى إرادة العقوبة، أو بمعنى الكيد الواقع على المكيد[4].


[1] الفرق بين الفرق للبغدادي (221) [دار التراث]، والملل والنحل للشهرساني (1/98) [دار المعرفة، ط2].
[2] شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار المعتزلي (162) [مكتبة وهبة، ط3، 1416هـ].
[3] انظر: تنزيه القرآن عن المطاعن لعبد الجبار (358).
[4] انظر: مفاتيح الغيب للرازي (15/419).


ـ بنفي ما أحدثوه من لوازم باطلة، فإثبات الصفات لا يلزم منه تعدد القدماء، ولا التشبيه، ولا أيٌّ من اللوازم الباطلة التي يجعلها النفاة مانعة لإثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، وأثبته له رسوله صلّى الله عليه وسلّم من الأسماء والصفات.
فالله تعالى أثبت لنفسه صفات، وأثبتها لخلقه، كالعلم، والقدرة، والإرادة، والعظمة إلخ، ومن ذلك صفة الكيد، ولم يلزم من هذا الإثبات أي معنى للتشبيه والتنقص الذي يزعمه هؤلاء النفاة، بل المتقرر شرعًا وعقلاً ما أخبر به تعالى عن نفسه بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] .
فأهل السُّنَّة والجماعة في إثباتهم لجميع ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله صلّى الله عليه وسلّم يقررون هذا الأصل الجامع لكل الصفات، المانع من أي ظن كاذب أو لازم باطل، ومنها صفة الكيد.
وكذلك فإن إثبات الصفات الفعلية لا يلزم منه أن تكون ذاته محلًّا لحوادث مخلوقة، فهو لم يزل ولا يزال فعالاً لما يريد، والنصوص الدالة على تعدد أفعاله وتنوعها لا تكاد تحصى، وليس في شيء منها ما يدل على أن شيئًا من المخلوقات يحل في ذاته.
فنثبت فعله سبحانه بمشيئته واختياره بثبوت الدليل الشرعي عليه، ولا نرد دلالة الدليل باللوازم الباطلة.
بل إن نفي المشيئة والاختيار في أفعاله تعالى هو النقص الذي يجب أن ينزه عنه، فإثبات الكمال والحمد له أنه يخلق ما يشاء، ويغفر لمن يشاء، ويعفو عمن يشاء، ويفعل ما يريد، وأنه لم يزل ولا يزال فعالاً لما يريد.
فمسألة الصفات الاختيارية هي من تمام حمده، فمن لم يقر بها لم يمكنه الإقرار بأن الله محمود ألبتة، ولا أنه رب العالمين؛ فإن الحمد ضد الذم والحمد هو الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة له، والذم هو الإخبار بمساوئ المذموم مع البغض له.
والله تعالى يحمد نفسه بأفعاله، فإذا لم يكن له فعل يقوم به باختياره امتنع ذلك كله[1].


[1] انظر: رسالة في الصفات الاختيارية لابن تيمية، ضمن جامع الرسائل (2/57) [دار العطاء، ط1].


1 ـ «إعلام الموقعين عن رب العالمين»، لابن القيم.
2 ـ «إغاثة اللهفان»، لابن القيم.
3 ـ «الرسالة التدمرية»، لابن تيمية.
4 ـ «شرح العقيدة الواسطية»، لابن عثيمين.
5 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي السقاف.
6 ـ «الفتاوى الكبرى»، لابن تيمية.