حرف اللام / لا إله إلا الله

           

شهادة التوحيد وكلمة الإخلاص (لا إله إلا الله) مشتملة على جزأين في المعنى، النفي في قول: (لا إله)، والإثبات في قول: (إلا الله)، وبيان كل منهما من جهة اللغة والشرع في غاية الأهمية.
الإله : هو الله تعالى؛ قال ابن فارس رحمه الله: «الهمزة واللام والهاء أصل واحد: وهو التعبد، فالإله: الله تعالى، وسمِّي بذلك؛ لأنه معبود، ويقال: تألَّه الرجل: إذا تعبَّد»[1].
الله : مشتق من (إلاه) على وزن (فِعال)، يقال: ألِهَ يَألَه إِلَهَةً وأُلوهِيَةً وأُلْهانية، فهو إلاه، بمعنى مألوه؛ فِعال بمعنى مفعول؛ أي: معبود، والتَّأَلُّه: التَّعَبُّد، فلما دخلت عليه الألف واللام حُذفت الهمزة تخفيفًا؛ لكثرته في الكلام، وقُطعت الهمزة في النداء للزومها تفخيمًا لهذا الاسم[2].


[1] مقاييس اللغة (1/127) [دار الجيل، ط 1420هـ].
[2] انظر: العين (4/90) [مكتبة الهلال، ط1، 1993م]، وتهذيب اللغة (6/422) [الدار المصرية، ط1، 1387هـ]، والصحاح (6/2223) [دار العلم للملايين، ط4].


لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله، أو لا معبود يستحق العبادة إلا الله تعالى.
قال الطبري: «فإنه لا إله إلا هو. يقول: لا معبود يستحق عليك إخلاص العبادة له إلا الله»[1].
وقال الشوكاني: «قوله: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [البقرة: 255] ؛ أي: لا معبود بحق إلا هو»[2].
وقال سليمان بن عبد الله: «ومعنى (لا إله إلا الله)؛ أي: لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له»[3].


[1] تفسير الطبري (12/32).
[2] فتح القدير (1/466) [دار الوفاء، ط1، 1428هـ].
[3] تيسير العزيز الحميد (1/177) [دار الصميعي، ط1].


(لا إله إلا الله) أسماء عديدة جاءت بها نصوص الكتاب والسُّنَّة النبوية، فهي تسمى بكلمة الإخلاص، وكلمة التقوى، وكلمة الحق، والكلمة الباقية، وكلمة السواء، وشهادة التوحيد، والقول الثابت، إلى غير ذلك من الأسماء.



شهادة (لا إله إلا الله) هي أصل الإيمان، وهي ركن من أركان الإسلام، وقاعدة الدين، ومبنى العقيدة الإسلامية، فبقولها يدخل العبد الإسلام فيعصم دمه، وماله، وبجحدها أو الامتناع من قولها يكون العبد كافرًا خارجًا عن ملة الإسلام، وهي أول واجب على المكلف، وأول ما دعت إليه الرسل كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *} [الأنبياء] .
قال ابن تيمية رحمه الله: «وهذا مما اتفق عليه أئمة الدين، وعلماء المسلمين؛ فإنهم مجمعون على ما علم بالاضطرار من دين الرسول: أن كل كافر فإنه يدعى إلى الشهادتين، سواء كان معطلاً، أو مشركًا، أو كتابيًّا، وبذلك يصير الكافر مسلمًا، ولا يصير مسلمًا بدون ذلك»[1].


[1] درء التعارض (8/7) [جامعة الإمام، ط2].


حقيقة كلمة التوحيد (لا إله إلا الله): النفي والإثبات:
1 ـ نفي في قول: لا إله.
2 ـ إثبات في قول: إلا الله.
و(لا إله): نفت الألوهية عن كل من سوى الله عزّ وجل من مَلَك مقرَّب أو نبي مرسل، فضلاً عن غيرهم، فليسوا بإله ولا لهم من العبادة شيء.
و(إلا الله): تثبت الألوهية لله وحده لا شريك له، فهو الإله الحق، وما اتخذ من دونه من آلهة فكلها باطلة كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62] .
وتتمثل حقيقة لا إله إلا الله في إخلاص العبادة لله عزّ وجل وحده لا شريك له والبراءة من عبادة ما سواه، والقرآن الكريم والسُّنَّة النبوية حافلان بالنصوص التي تقرر هذه الحقيقة.
قال السعدي رحمه الله: «وحقيقة تفسير التوحيد العلم والاعتراف بتفرد الرب بجميع صفات الكمال وإخلاص العبادة له، وذلك يرجع إلى أمرين:
الأول: نفي الألوهية كلها عن غير الله بأن يعلم ويعتقد أنه لا يستحق الإلهية ولا شيئًا من العبودية أحد من الخلق، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا غيرهما، وأنه ليس لأحد من الخلق في ذلك حظ ولا نصيب.
والأمر الثاني: إثبات الألوهية لله تعالى وحده لا شريك له، وتفرده بمعاني الألوهية كلها، وهي نعوت الكمال كلها، ولا يكفي هذا الاعتقاد وحده حتى يحققه العبد بإخلاص الدين كله لله فيقوم بالإسلام والإيمان والإحسان، وبحقوق الله وحقوق خلقه قاصدًا بذلك وجه الله وطالبًا رضوانه وثوابه، ويعلم أن من تمام تفسيرها وتحقيقها البراءة من عبادة غير الله، وأن اتخاذ أنداد يحبهم كحب الله أو يطيعهم كطاعة الله أو يعمل لهم كما يعمل لله ينافي معنى (لا إله إلا الله) أشد المنافاة، فتبين بذلك أنه لا بدَّ من اعتقاد وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، ومن الإقرار بذلك اعتقادًا ونطقًا، ولا بدَّ من القيام بعبودية الله وحده طاعة لله وانقيادًا، ولا بدَّ من البراءة مما ينافي ذلك عقدًا وقولاً وفعلاً، ولا يتم ذلك إلا بمحبة القائمين بتوحيد الله ومولاتهم ونصرتهم، وبغض أهل الشرك ومعاداتهم، ولا تغني في هذا المقام الألفاظ المجردة، ولا الدعاوي الخالية من الحقيقة، بل لا بدَّ أن يتطابق العلم والاعتقاد والقول والعمل، فإن هذه الأشياء متلازمة متى تخلَّف واحد منها تخلفت البقية، والله أعلم»[1].


[1] القول السديد للسعدي (3/16، 17) ضمن المجموعة الكاملة [مركز صالح بن صالح الثقافي، ط2].


كلمة التوحيد والإخلاص (لا إله إلا الله) أعلى شعب الإيمان وأصل الدين وأساسه ورأس أمره وساق شجرته، وهي الكلمة التي قامت بها السماوات والأرض وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وأرسل بها جميع الرسل، وشرعت لأجلها الشرائع، وأقيم الجهاد ونصبت الموازين، وبها انقسمت الخليقة إلى مؤمنين وكفار ومتقين وفجار، وهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وهي حق الله تعالى على العباد، وعنها يُسأل الأولون والآخرون، فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين: (ماذا كنتم تعبدون؟)، و(ماذا أجبتم المرسلين؟)، وجواب الأولى: بتحقيق (لا إله إلا الله) معرفة وإقرارًا وعملاً، وجواب الثانية: بتحقيق أن (محمدًا رسول الله) معرفة وانقيادًا وطاعة[1].
قال ابن القيِّم رحمه الله: «وهي الكلمة التي قامت بها الأرض والسماوات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أُسِّست الملة، ونصبت القبلة، وجرِّدت سيوف الجهاد، وهي محض حق الله على جميع العباد، وهي الكلمة العاصمة للدم والمال والذرية في هذه الدار، والمنجية من عذاب القبر، وعذاب النار، وهي المنشور الذي لا يدخل أحد الجنة إلا به، والحبل الذي لا يصل إلى الله من لم يتعلق بسببه، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وبها انقسم الناس إلى شقي وسعيد، ومقبول وطريد، وبها انفصلت دار الكفر من دار الإيمان، وتميزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان، وهي العمود الحامل للفرض والسُّنَّة»[2].


[1] لا إله إلا الله معناها ومكانتها وفضلها للفوزان (6، 7).
[2] الداء والدواء لابن القيم (455) [دار عالم الفوائد، ط1، 1429هـ].


قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ *} [البقرة] ، وقال تعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] ، وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد: 19] ، وقال تعالى: {أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ *} [النحل] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *} [الأنبياء] .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى بها عبد غير شاك فيحجب عن الجنة»[1].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله؛ إلا حرَّمه الله على النار»[2].
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله»[3]
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله» الحديث[4].


[1] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 27).
[2] أخرجه البخاري (كتاب العلم، رقم 128)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 32)، واللفظ له.
[3] أخرجه البخاري (كتاب الصلاة، رقم 425)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 33).
[4] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 25)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 22).


قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فإن الشهادة لله بأنه لا إله إلا هو تتضمن إخلاص الإلهية له؛ فلا يجوز أن يتأله القلب غيره، لا بحب، ولا خوف، ولا رجاء، ولا إجلال، ولا إكرام، ولا رغبة، ولا رهبة، بل لا بدَّ أن يكون الدين كله لله»[1].
وقال ابن القيم رحمه الله: «وروح هذه الكلمة وسرها: إفراد الرب ـ جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، وتبارك اسمه، وتعالى جدّه، ولا إله غيره ـ بالمحبة، والإجلال، والتعظيم، والخوف، والرجاء، وتوابع ذلك من التوكل، والإنابة والرغبة والرهبة، فلا يحب سواه، وكل ما يحب غيره فإنما يحب تبعًا لمحبته، وكونه وسيلة إلى زيادة محبته، ولا يخاف سواه، ولا يرجى سواه، ويجتمع ذلك كله في حرف واحد، وهو أنه لا يعبد إلا إياه بجميع أنواع العبادة، فهذا تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله»[2].
وقال ابن رجب رحمه الله: «وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد: لا إله إلا الله يقتضي أن لا إله له غير الله، والإله: الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالاً، ومحبة وخوفًا ورجاء، وتوكلاً عليه، وسؤالاً منه، ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عزّ وجل، فمن أشرك مخلوقًا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحًا في إخلاصه في قول: لا إله إلا الله، ونقصًا في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق، بحسب ما فيه من ذلك»[3].


[1] اقتضاء الصراط المستقيم (2/843) [مكتبة الرشد].
[2] الداء والدواء (457).
[3] كتاب التوحيد لابن رجب (49) [دار القاسم، ط1].


المراد بشروط (لا إله إلا الله): الأمور التي يجب على العبد لزومها وتحقيقها حتى تتحقق شهادة (لا إله إلا الله)، وصحة الشهادة بها مُعلّقة بوجود تلك الشروط واجتماعها، والتزامها والقيام بها علمًا وعملاً، وهذه الشروط بمنزلة الأسنان للمفتاح كما قال وهب بن منبه رحمه الله لمن سأله: أليس (لا إله إلا الله) مفتاح الجنة؟ فقال: «بلى؛ ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك»[1].
وقد بلغت بالتتبع والاستقراء لنصوص الكتاب العزيز والسُّنَّة النبوية ثمانية شروط نظمها بعضهم بقوله:
علم يقين وإخلاص وصدقك مع
محبة وانقياد والقَبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما
سوى الإله من الأنداد قد أُلِّها
فهذه الشروط الثمانية لا ينتفع قائل: (لا إله إلا الله) إلا باجتماعها والتزامها، وبيانها فيما يلي:
الأول: العلم بمعناها نفيًا وإثباتًا.
الثاني: اليقين، وهو كمال العلم بها المنافي للشك والريب.
الثالث: الإخلاص المنافي للشرك، وهو ما تدل عليه (لا إله إلا الله).
الرابع: الصدق المانع من النفاق، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم غير معتقدين لمدلولها.
الخامس: المحبة لهذه الكلمة ولما دلَّت عليه، والسرور بذلك بخلاف ما عليه المنافقون.
السادس: الانقياد بأداء حقوقها، وهي الأعمال الواجبة إخلاصًا لله وطلبًا لمرضاته، وهذا هو مقتضاها.
السابع: القبول المنافي للرد، وذلك بالتزام أوامر الله وترك ما نهى عنه.
الثامن: الكفر بما يُعبد من دون الله، وهو البراءة من دين المشركين[2].
وهذه الشروط يتفاوت الناس في تحقيقها زيادة ونقصانًا؛ لأنها من الإيمان، والإيمان يزيد وينقص كما هو معتقد أهل السُّنَّة والجماعة، وليس الشأن في حفظها، إنما الشأن في تحققها في قلب العبد ووجود كمالها الواجب في قلبه ولسانه وجوارحه، فكم من عامي اجتمعت فيه والتزمها، ولو قيل له: اعددها لم يحسن ذلك، وكم حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم وتراه يقع في كثير مما يناقضها[3].


[1] ذكره البخاري في صحيحه معلقًا (كتاب الجنائز، ص246) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1431هـ].
[2] انظر: معارج القبول (2/516 ـ 528) [دار ابن الجوزي، ط6، 1430هـ]، والشهادتان معناها وما تستلزم كل منهما للفوزان (103 ـ 108).
[3] معارج القبول (2/516).


المسألة الأولى: إعراب (لا إله إلا الله):
عُني العلماء ببيان إعراب (لا إله إلا الله) من جهة علم النحو؛ ليتضح معناها الذي شرع النطق بها من أجله والعمل بمقتضاه، وإعرابها فيما يلي:
لا : نافية للجنس.
إله : اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب، والخبر مرفوع مقدر تقديره (حق)؛ أي: لا إله حق، ومن زعم أن الخبر المقدر لفظة (موجود) كما قدره المتكلمون فذلك باطل؛ فإن الآلهة الموجودة كثيرة فيلزم على ذلك كذب المعنى، كما أن تقدير الخبر (بموجود) يدل على معنى باطل، وهو أن كل موجود فهو الله ـ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا ـ وهذا مذهب أهل الحلول والاتحاد.
إلا : أداة استثناء والاستثناء هنا مفرغ.
الله : اسم الله بدل من لفظ (إله) وهو بدل بعض من كل، والجملة مع خبرها المقدر: لا إله حق إلا الله[1].
المسألة الثانية: هل يكفي مجرد النطق بـ(لا إله إلا الله)؟
من عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة أن مجرد النطق بكلمة (لا إله إلا الله) من غير اعتقاد القلب لها والعمل بمقتضاها ليس كافيًا لاستحقاق الجنة والنجاة من النار؛ إذ لو كان الأمر كذلك لتساوت منزلة المؤمنين والمنافقين عند الله عزّ وجل، وليس الأمر كذلك؛ فإن الله تعالى أخبر عن مآل المنافقين في الآخرة، أنهم في الدرك الأسفل من النار، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا *} [النساء] ، مع أنهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله، وكان منهم من يصلي ويصوم ويزكي ويتصدق، فاستبان بذلك أنه لا بدَّ مع النطق بها من اعتقاد معناها والعمل بمقتضاها، وهذا ما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها[2].
وبما أنه وردت نصوص قد يتوهم منها ما توهمه المرجئة وغيرهم: أن مجرد التلفظ ب (لا إله إلا الله)، يكفي في دخول الجنة، أو النجاة من النار وإن لم يعمل أي عمل، كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله»[3] ، وكذلك ما جاء من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعاذ رديفه على الرحل، فقال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله إلا حرّمه الله على النار»[4] ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؛ لا يلقى بها عبد غير شاك فيحجب عن الجنة»[5] ، وغيرها من الأحاديث.
والقول الصواب فيها: أن من قال هذه الكلمة، عارفًا لمعناها، عاملاً بمقتضاها من نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله تعالى مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته من ذلك والعمل به فهذا هو المسلم حقًّا، فإن عمل بها ظاهرًا من غير اعتقاد فهو المنافق، وإن عمل بخلافها مع الشرك فهو الكافر ولو قالها بلسانه، فجماع القول في هذه المسألة: أنه لا بدَّ من الإتيان بشروط (لا إله إلا الله)، حتى يفوز العبد بالجنة، وينجو من النار.
قال ابن القيِّم رحمه الله: «وما جاء من الضرب من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظن بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قيلت قبل ورود الأوامر والنواهي، واستقرار الشرع، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود، وقال المعنى: لا يدخلها خالدًا، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة. والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان، فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام؛ فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلا بدَّ من قول القلب، وقول اللسان، وقول القلب يتضمن معرفتها، والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته، من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب: علمًا، ومعرفة، ويقينًا، وحالاً، ما يوجب تحريم قائلها على النار»[6].
الثمرات:
من أعظم وأجلّ ثمرات كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) أنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، وكل عمل صالح مرضي لله ثمرة هذه الكلمة الطيبة، فمثلها كمثل شجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي ثمرها وأكلها كل حين، ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت، بحسب ثباتها في قلب المؤمن، ومحبة القلب له، وإخلاصه فيها، وقيامه بحقوقها، وقد أخبر الله تعالى أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها الأعمال الصالحة كل وقت وحين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء[7].
الآثار[8]:
لهذه الكلمة إذا قيلت بصدق وإخلاص وعمل بمقتضاها ظاهرًا وباطنًا واستجمعت شروطها آثار حميدة وثمرات يانعة وفوائد جمة وعواقب مرضية على الفرد والجماعة في العاجل والآجل، ومن أهم آثارها وأبرزها:
1 ـ اجتماع الكلمة التي تحقق القوة للمسلمين، والانتصار على عدوهم؛ إذ هم يدينون بدين واحد وعقيدة واحدة، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] .
2 ـ توفر الأمن والطمأنينة في المجتمع الواحد الذي يدين بمقتضى (لا إله إلا الله).
3 ـ حصول السيادة والاستخلاف في الأرض، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] .
4 ـ حصول الطمأنينة النفسية والاستقرار الذهني لمن قال: (لا إله إلا الله) وعمل بمقتضاها؛ لأنه يعبد ربًّا واحدًا يعرف مراده فيفعل ما يرضيه ويعرف ما يسخطه فيتقيه.
5 ـ حصول السموّ والرفعة لأهل (لا إله إلا الله) في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ *} [الحج] .
6 ـ عصمة الدم والمال والعرض لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه»[9].
هذه نبذة يسيرة من آثارها وإلا فليس شيء من الأشياء له من الآثار الحسنة والعواقب الحميدة مثل ما لكلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، فهي جماع كل خير في الدنيا والآخرة.


[1] بيان كلمة التوحيد والرد على الكشميري (337).
[2] انظر: مجموع الفتاوى (35/202) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط2، 1425هـ].
[3] تقدم تخريجه.
[4] تقدم تخريجه.
[5] تقدم تخريجه.
[6] مدارج السالكين (1/279) [مؤسسة المختار، ط1، 1422هـ].
[7] انظر: إعلام الموقعين (2/299، 300) [دار ابن الجوزي، ط1، 1423هـ].
[8] انظر: (لا إله إلا الله) للفوزان (36 ـ 41).
[9] أخرجه البخاري (كتاب الزكاة، رقم 1399)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 20).


فسَّر أهل الكلام كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)؛ بمعنى: أنه لا قادر على الاختراع إلا الله، وهذا التفسير قاصر؛ إذ يجعل معناها محصورًا في توحيد الربوبية، وهذا ما فسره البغدادي وهو من أعلام المتكلمين، ونسبه إلى أبي الحسن الأشعري فيقول: «واختلف أصحابنا في معنى (الإله)؛ فمنهم من قال: إنه مشتق من الإلهية وهي قدرته على اختراع الأعيان، وهو اختيار أبي الحسن الأشعري، وعلى هذا يكون مشتقًّا من صفة، وقال القدماء من أصحابنا: إنه يستحق هذا الوصف لذاته»[1].
فأهل الكلام إذًا يجعلون توحيد الربوبية هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن أهل الكلام: «يجعلون معنى الإلهية القدرة على الاختراع، ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا مقرين بالقدر، وهم مع هذا مشركون»[2].
وقال أيضًا: «وليس المراد بالإله هو القادر على الاختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين؛ حيث ظن أن الألوهية هي القدرة على الاختراع وأن من أقر بأن لا إله إلا هو القادر على الاختراع دون غيره، فقد شهد أن لا إله إلا الله، فإن المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون»[3].
وتفسير أهل الكلام للإله بالقادر على الاختراع باطل، وبطلانه من وجوه:
أولها: أن هذا القول لا يعرف في لغة العرب وليس من استعمالهم، والقرآن جاء بلسان عربي مبين فلا يصح أن يفسر بغير لغته.
ثانيها: أن هذا القول مخالف لما جاء في القرآن من مدلول هذا اللفظ.
ثالثها: أن قولهم مخالف لأقوال الصحابة والتابعين وأهل السُّنَّة والجماعة.
رابعها: أنه ترتب على هذا القول الاكتفاء بتوحيد الربوبية دون الألوهية، وهذا من أعظم الباطل لمخالفته للقرآن والسُّنَّة ودعوات الأنبياء وحال المشركين، وعلى هذا فتفسيرهم للإله بالقادر على الاختراع بدعة محدثة في اللغة وفي الشرع فبطلانه في غاية الوضوح والظهور[4].


[1] أصول الدين للبغدادي (123) [دار الكتب العلمية، ط1، 1423هـ].
[2] مجموع الفتاوى (3/98).
[3] المصدر السابق (3/101).
[4] حقيقة التوحيد بين أهل السُّنَّة والمتكلمين لعبد الرحيم السلمي (477) [دار المعلمة].


1 ـ رسالة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يجيب فيها عن سؤال حول معنى «لا إله إلا الله».
2 ـ «تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد»، للصنعاني.
3 ـ «الشرك ومظاهره»، لمبارك الميلي.
4 ـ «الشهادتان وما يستلزمه كل منهما»، لابن جبرين.
5 ـ «كلمة الإخلاص»، لابن رجب.
6 ـ «عقيدة التوحيد»، للفوزان.
7 ـ «لا إله إلا الله معانيها مكانتها فضلها»، للفوزان.
8 ـ «منهج أهل السُّنَّة والجماعة ومنهج الأشاعرة»، لخالد عبد اللطيف.
9 ـ «المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية»، لإبراهيم البريكان.
10 ـ «معارج القبول»، لحافظ حكمي.