حرف اللام / اللعن

           

قال ابن فارس: «اللام والعين والنون أصل صحيح يدلُّ على إبعاد وإطراد»[1]. وقال الجوهري: «اللعن: الطرد والإبعاد من الخير»[2].


[1] مقاييس اللغة (2/478) [دار الكتب العلمية، 1420هـ].
[2] الصحاح (6/2196) [دار العلم للملايين، ط4].


اللعن صفة من الصفات الفعلية الاختيارية ثابتة لله كما يليق بجلاله وعظمته، والله عزّ وجل يلعن ويطرد من رحمته الكفار والفجار وغيرهم من شاء من خلقه إذا شاء[1].


[1] انظر: صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة للسقاف (305) [دار الهجرة الرياض، ط3، 1426هـ]، ومعجم ألفاظ العقيدة (363) [مكتبة العبيكان، ط2، 1420هـ].


يجب الإيمان بهذه الصفة لدلالة القرآن والحديث عليها، ويجب إثباتها لله تعالى كما يليق بجلاله وكبريائه وعظمته سبحانه، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.



حقيقة لعن الله عزّ وجل هو طرده وإبعاده من رحمته سبحانه من شاء من خلقه.



قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا *} [النساء] ، وقال تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ *} [هود] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا *} [الأحزاب] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة»[1].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده»[2].
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «المدينة حرم من كذا إلى كذا. لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث، من أحدث فيها حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»[3].


[1] أخرجه البخاري (كتاب اللباس، رقم 5933).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الحدود، رقم 6783)، ومسلم (كتاب الحدود، رقم 1687).
[3] أخرجه البخاري (كتاب فضائل المدينة، رقم 1867) واللفظ له، ومسلم (كتاب الحج، رقم 1366).


استشهد ابن تيمية بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93] على إثبات صفة الغضب واللعن لله تعالى.
وقال محمد خليل الهرَّاس عن هذه الآية وغيرها: «تضمنت هذه الآيات إثبات بعض صفات الفعل لله من: الرضا، والغضب، واللعن، والكره، والسخط، والمقت والأسف، وهي عند أهل الحق صفات حقيقية لله عزّ وجل على ما يليق به، ولا تشبه ما يتصف به المخلوق من ذلك، ولا يلزم منها ما يلزم في المخلوق... واللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، واللعين والملعون: من حقت عليه اللعنة، أو دعي عليه بها»[1].
وقال عبد العزيز السلمان: «تضمنت هذه الآيات الكريمات إثبات بعض الصفات الفعلية من الرضا والغضب واللعن والكره والسخط والأسف والمقت، وهذه الصفات يثبتها أهل السُّنَّة والجماعة حقيقة على ما يليق بجلاله وعظمته يفعلها متى شاء»[2].
وقال الفوزان: «الشاهد من الآيات: أن فيها وصف الله بالغضب والرضا واللعن والانتقام والكراهية والأسف والمقت، وهذه كلها من صفات الأفعال التي يفعلها متى شاء إذا شاء كيف شاء. وأهل السُّنَّة يثبتون ذلك لله كما أثبته لنفسه على ما يليق بجلاله»[3].


[1] مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية على الواسطية للسلمان (72 ـ 74) [الجامعة الإسلامية بالمدينة، ط13].
[2] مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية (53) [مطابع المدينة، ط13، 1421هـ].
[3] شرح العقيدة الواسطية للفوزان (48) [الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، الرياض، ط8، 1429هـ].


المسألة الأولى: اللعن المطلق لا يستلزم لعن المعين:
اللعن هنا عام لكل من اتصف بصفة من تلك الصفات المذكورة في النصوص، ولكن ذلك لا يدل على جواز لعن الشخص المعيَّن المتصف بصفة من تلك الصفات، فإن الحكم الخاص يختلف عن الحكم العام؛ ولذلك يجب التفريق بين الحكم العام المطلق وبين الحكم الخاص المقيد.
فقد جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه لعن في شأن الخمر عشرة أصناف من الناس؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له»[1].
فالنبي صلّى الله عليه وسلّم لعن في شأن الخمر عشر مجموعات من الناس لعنًا عامًّا مطلقًا من غير تعيين، ولكن لما جيء إليه بشارب الخمر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضربه وتأديبه، ولما لعنه بعض القوم؛ نهاهم عن ذلك؛ فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ أن رجلاً على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم كان اسمُه عبدَ الله، وكان يُلَقَّبُ حِمَارًا، وكان يُضْحِك رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد جلده في الشراب، فأتي به يومًا فأمر به فَجُلِدَ، فقال رجل من القوم: اللَّهُمَّ العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تلعنوه، فوالله! ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله»[2].
فالنبي صلّى الله عليه وسلّم لعن في شأن الخمر عشرة أصناف لعنًا عامًّا مطلقًا من غير تعيين، ولكن لما جيء إليه بشارب الخمر الذي قد سبق أن جلده في الشراب نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن لعنه، وهذا شخص معيَّن، ففي لعنه صلّى الله عليه وسلّم عشرة أصناف في شأن الخمر لعنًا عامًّا مع نهيه عن لعن هذا الشارب المعين دلالة على وجوب التفريق بين اللعن العام المطلق واللعن الخاص المعين وبين الحكم العام والحكم الخاص، والله أعلم[3].
المسألة الثانية: لعن المسلم:
المسلم إذا ارتكب شيئًا جاءت النصوص بلعن فاعله، فهو يلعن على وجه العموم كما جاءت النصوص، مثل: لعن الله السارق، ولعن الله آكل الربا[4]، ولعن الله الواصلة، ولعن الله من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا، ولعن الله الكاسيات العاريات[5] ونحوها، فصاحبها يلعن كما جاءت به النصوص؛ أي: على وجه الصفة والجنس، ولكن لا يلعن على وجه التعيين والتشخيص، وهذا واضح جدًّا لمن نظر وتأمل صنيع الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع شارب الخمر حين جيء به إليه، مع لعنه صلّى الله عليه وسلّم عشرة أصناف من أجل الخمر؛ فالصحيح من أقوال أهل العلم أنه لا يجوز لعن المسلم المعين[6].
المسألة الثالثة: لعن عموم الكفار:
لعن الكفار من اليهود والنصارى والمشركين على سبيل العموم جائز ومشروع من أجل التحذير من أفعالهم، وقد دلَّت على ذلك كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وفيما يلي ذكر بعضها:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *} [البقرة] ، وقال تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصُوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ *وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ *} [هود] .
وعن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال ـ وهو كذلك ـ: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . يحذر ما صعنوا[7]. والأحاديث في ذلك كثيرة.
فهذه النصوص من الكتاب والسُّنَّة تدل على جواز لعن الكفار على وجه العموم من باب التحذير من أفعالهم والإبعاد والتنفير من صنيعهم[8].
المسألة الرابعة: لعن الكافر المعين:
ذهبت طائفة من أهل العلم إلى عدم جواز لعن الكافر المعين الحي، وذلك لأننا لا ندري ما يختم الله له، وقد جاء عن عبد الله بن عمر؛ أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الآخرة من الفجر، يقول: «اللَّهُمَّ العن فلانًا وفلانًا وفلانًا» بعدما يقول: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» ، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ} إلى قوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ *} [آل عمران] [9].
وذهب آخرون إلى جواز لعن الكافر المعيَّن، ومما يدل على ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في شارب الخمر حين لعنه أحد الحاضرين: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله»[10] ، فهذا دليل على جواز لعن من لا يحب الله ورسوله، والكافر لا يحب الله ورسوله، وهذا أمر معلوم، ولكن الأفضل تركه، فإن فيه تنفيرًا لهم عن الإسلام، والمسلم لا يكون طعانًا، ولا لعانًا، ولا سبابًا، واللَّعان لا يصل درجة الشهداء والشفعاء عند الله يوم القيامة، ولكن إذا تعدى الواحد منهم حده وبلغ أذاه المسلمين فلا بأس في لعنه بالتعيين والدعاء عليه[11].


[1] أخرجه الترمذي (أبواب البيوع، رقم 1295) وقال: هذا حديث غريب، وابن ماجه (كتاب الأشربة، رقم 3381)، والضياء في المختارة (6/181) [دار خضر، ط1]، وصححه الألباني في غاية المرام (رقم 60) [المكتب الإسلامي، ط3].
[2] أخرجه البخاري (كتاب الحدود، رقم 6780).
[3] انظر: مجموع الفتاوى (10/329 ـ 330) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1416هـ]، وفتح الباري لابن حجر (1/1044) [بيت الأفكار الدولية].
[4] كما عند البخاري (كتاب الطلاق، رقم 5347)، ومسلم (كتاب المساقاة، رقم 1597).
[5] كما عند أحمد (11/654) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب الحظر والإباحة، رقم 5753)، والحاكم (كتاب الفتن والملاحم، رقم 8346) وصححه، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 2683).
[6] انظر: مجموع فتاوى لابن تيمية (20/287، 288).
[7] أخرجه البخاري (كتاب الصلاة، رقم 435)، ومسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 531).
[8] انظر: التمهيد لابن عبد البر (17/404 ـ 406) [وزارة الأوقاف بالمغرب، 1412هـ]، وشرح السُّنَّة للبغوي (13/137 ـ 138) [المكتب الإسلامي، بيروت، ط2]، وشرح صحيح مسلم للنووي (5/177 و16/73، 74) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1392هـ].
[9] أخرجه البخاري (كتاب المغازي، رقم 4069).
[10] تقدم تخريجه.
[11] انظر: التمهيد لابن عبد البر (17/404 ـ 406)، وشرح السُّنَّة للبغوي (13/137 ـ 138)، واللعن في القرآن الكريم لعبد القادر الجزائري (19، 20) [مكتبة الرشاد، الجزائر، 1427هـ] ورفع اللثام عن أحكام اللعان لمراد محمد شحرور (33 ـ 35) [ط1، 1429هـ].


إن إيمان العبد بلعن الله عزّ وجل وطرده من رحمته سبحانه وتعالى كل من اتصف بتلك الصفات المقتضية للعن يُوَلِّد في قلب المؤمن النفور من تلك الصفات والاجتناب من تلك الأفعال، فيبتعد المؤمن من تلك القبائح والمعاصي كل الابتعاد ويحذرها كل الحذر حتى لا يتعرض للعن الله عزّ وجل.



اللعن صفة من الصفات الفعلية الاختيارية، فهي من جملة الصفات التي أنكرتها الفلاسفة والجهمية والمعتزلة الذين ينكرون الصفات بالكلية، ومن جملة الصفات التي أنكرتها الكلابية ومن وافقهم الذين ينكرون صفات الأفعال الاختيارية. وهذه الصفة كغيرها من الصفات التي جاءت النصوص بإثباتها، فيجب إثباتها لله كما يليق بجلال الله وعظمته، لدلالة القرآن الكريم والأحاديث النبوية على ذلك.



1 ـ «التمهيد» (ج17)، لابن عبد البر.
2 ـ «شرح السُّنَّة» (ج13)، للبغوي.
3 ـ «شرح صحيح مسلم» (ج5 و16)، للنووي.
4 ـ «شرح العقيدة الواسطية»، للفوزان.
5 ـ «شرح العقيدة الواسطية»، لمحمد خليل هراس.
6 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي بن عبد القادر السقاف.
7 ـ «فتح الباري» (ج1)، لابن حجر العسقلاني.
8 ـ «مجموع الفتاوى» (ج10 و20)، لابن تيمية.
9 ـ «مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية»، لعبد العزيز المحمد السلمان.
10 ـ «معجم ألفاظ العقيدة»، لعامر عبد الله فالح.
11 ـ «وسطية أهل السُّنَّة بين الفرق»، لمحمد باكريم محمد باعبد الله.