حرف اللام / لوط عليه السلام

           

لوط هو: ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام؛ هاران بن آزر[1].


[1] انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (50/306) [دار الفكر،1415هـ]، والمنتظم في التاريخ (1/262) [دار الكتب العلمية، ط1]، والبداية والنهاية (1/346، و408) [دار هجر، ط1، 1418هـ]، وتفسير ابن كثير (6/157) [دار طيبة، ط2].


اختلف في لفظ (لوط)؛ أهو عربي أم أعجمي؟ على قولين:
القول الأول: أنه اسم عربي مشتق من: لاط الشيء بقلبه؛ إذا تعلق به. قال ابن فارس: «اللام والواو والطاء كلمة تدل على اللصوق. يقال: لاط الشيء بقلبي؛ إذا لصق»[1].
وقال الراغب: «لوط: اسم علم، واشتقاقه من: لاط الشيء بقلبي يلوط لوطًا وليطًا... وهذا أمر لا يلتاط بصفري؛ أي: لا يلصق بقلبي، ولطت الحوض بالطين لوطًا: ملطته به»[2].
القول الثاني: أنه اسم أعجمي، قال الجوهري: «ولوط: اسم ينصرف مع العجمة والتعريف»[3]. وأورده الجواليقي في (المعرّب)، وذكر أنه اسم أعجمي معرب ولم يذكر له معنى[4]. وبه احتج الدكتور ف. عبد الرحيم على أن لوطًا اسم أعجمي، فقال: «الصحيح أنه معرَّب، قال الجوهري: «لوط اسم ينصرف مع العجمة والتعريف». وهو بالعبرية: ( \raster="rg1" )، وبالسريانية: ( \raster="rg2" )[5]. وممن رجح القول الثاني بدر الدين العيني، فقال: «وذكر الله لوطًا في القرآن في سبعة عشر موضعًا، وهو اسم أعجمي، وفيه العَلَمية والعجمة، ولكنه صُرف لسكون وسطه، وقيل: اسم عربي من: لاط؛ لأن حبه لاط بقلب إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم؛ أي: تعلق ولصق»[6].


[1] مقاييس اللغة (5/221) [دار الفكر، 1399هـ] وانظر: تهذيب اللغة (14/18، 19) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1]، والصحاح للجوهري (3/1158) [دار العلم للملايين، ط4].
[2] المفردات في غريب القرآن (750، 751) [دار القلم، ط1، 1412هـ].
[3] الصحاح للجوهري (3/1158).
[4] انظر: المعرَّب من كلام الأعجمي (563) [دار القلم، ط1، 1410هـ].
[5] المعرب من كلام الأعجمي (563) الحاشية.
[6] عمدة القاري شرح صحيح البخاري (15/267) [دار إحياء التراث العربي، بيروت].


الظاهر: أن لوطًا ولد في أرض الكلدانيين، وهي أرض بابل، ونشأ بها، لما ذكره ابن كثير[1] من أن إبراهيم ولد في أرض الكلدانيين، وأن أخاه هاران توفي فيها، فهاجر منها آزر بابنه إبراهيم وابن ابنه لوط إلى أرض الكنعانيين، وهي بلاد بيت المقدس، ومعلوم أن إبراهيم أكبر من لوط، وأنه اهتدى على يديه، كما قال الله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [العنكبوت] ، ثم أشار إليه إبراهيم أن ينزل إلى سدوم، فنزل بها[2]، وفيها وفي إقليمها أرسل بعد ذلك في حياة إبراهيم[3]، والله أعلم.


[1] انظر: البداية والنهاية (1/325).
[2] انظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (1/283)، والبداية والنهاية (1/325)، وقصص الأنبياء لابن كثير (1/254) [دار التأليف، القاهرة، ط1، 1388هـ]، وصحيح قصص الأنبياء لسليم الهلالي (159).
[3] انظر: تفسير ابن كثير (6/273).


ذكر الله نبوة لوط عليه السلام ورسالته بقوله تعالى: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ *} [الصافات] .



دعا لوط قومه إلى الله عزّ وجل؛ أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم، ونهاهم عن معصية الله، وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه في العالم، مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله، من إتيان الذكران دون الإناث[1].
كما حكاه الله تعالى عنه بقوله سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ *إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ *فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ *وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ *أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ *وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ *} [الشعراء] .
وبقوله سبحانه: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ *أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ *} [النمل] .
وبقوله: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ *وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَال ياقَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ *قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ *قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ *} [هود] .
وبقوله عزّ وجل: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 28، 29] .
قال ابن كثير في هذه الآية: «يقول تعالى مخبرًا عن نبيِّه لوط عليه السلام أنه أنكر على قومه سوء صنيعهم، وما كانوا يفعلونه من قبيح الأعمال، في إتيانهم الذكران من العالمين، ولم يسبقهم إلى هذه الفعلة أحد من بني آدم قبلهم. وكانوا مع هذا يكفرون بالله، ويكذبون رسوله ويخالفونه ويقطعون السبيل؛ أي: يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم»[2].
وقال السعدي: «أرسل الله لوطًا إلى قومه، وكانوا مع شركهم، قد جمعوا بين فعل الفاحشة في الذكور، وتقطيع السبيل، وفشو المنكرات في مجالسهم، فنصحهم لوط عن هذه الأمور، وبيَّن لهم قبائحها في نفسها، وما تؤول إليه من العقوبة البليغة»[3].


[1] انظر: تفسير ابن كثير (6/157).
[2] تفسير ابن كثير (6/276).
[3] تفسير السعدي (630) [مؤسسة الرسالة، ط1].


قوم لوط كانوا أمة عظيمة، قد بعثه الله إليهم في حياة إبراهيم، وكانوا يسكنون في (سدوم)[1] وأعمالها التي أهلكها الله بها، وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة، وهي مشهورة ببلاد الغور، متاخمة لجبال البيت المقدس، بينها وبين بلاد الكرك والشوبك[2]. قال ابن الجوزي: «بُعث إلى أهل سدوم، فكانوا أهل كفر بالله وركوب الفاحشة»[3].
ولذا واجهوا نبيّهم لوطًا عليه السلام بالتكذيب والتهديد بالإبعاد إن لم يكف عن دعوتهم إلى توحيد الله وطاعته ونبذ الشرك، والخضوع له، ونهيهم عن الفواحش، لا سيما التي انفردوا بها عن العالمين، كما حكاه الله سبحانه عنهم فقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ *} [الشعراء] ، وقال: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ *وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ *} [الحج] ، وقال: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ *} [الشعراء] ، وقال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ *} [النمل] ، وقال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ *} [العنكبوت] .
وبعد إصرارهم على الشرك والكفر، والتكذيب لنبي الله لوط، وتحديهم إياه بالإتيان بالعذاب إن كان من الصادقين، وتهديده وتوعده بالانتقام، ويأسه منهم، وعلمه باستحقاقهم العذاب، لجأ لوط إلى ربه بطلب النصر والتأييد، ودعا على هؤلاء المفسدين[4]، كما في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ *} [العنكبوت] ، فاستجاب الله دعاءه وأرسل إليه الملائكة لإهلاكهم، وأنجاه وأهله إلا امرأته، وأهلك أهل الكفر والتكذيب والعناد، كما قال تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ *وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ *} [النمل] ، وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ *وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ *قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ *وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ *إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ *} [العنكبوت] ، وقال: {قَالُوا يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ *} [هود] .
ولمّا أراد الله إهلاك قوم لوط أمر الملائكةُ لوطًا أن يسري بأهله ليلاً، ولما أصبحوا قلب الله عليهم ديارهم، فجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل متتابعة حتى أبادتهم وأهلكتهم، فصاروا سَمَرًا من الأسمار، وعبرة من العِبر[5].
قال ابن كثير: «إن الله تعالى أهلكهم عن آخرهم؛ بتكذيبهم نبي الله لوطًا عليه السلام وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين»[6].


[1] سدوم: هي إحدى مدائن قوم لوط. انظر: معجم البلدان للحموي (3/200) [الناشر: دار صادر].
[2] انظر: تفسير ابن كثير (4/340، و5/354، و6/157).
[3] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (1/283).
[4] وانظر: تفسير السعدي (630).
[5] انظر: تفسير السعدي (630).
[6] تفسير ابن كثير (4/174).


قيل: إن لوطًا عليه السلام توفي عن ثمانين سنة، وعلى هذا القول تكون وفاته قبل نبي الله إبراهيم عليه السلام بسنين[1].


[1] انظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (1/285).


المسألة الأولى: حكم تسمية عمل قوم لوط باللواطة:
هذه التسمية غير جائزة لأمرين:
الأمر الأول: أن لوطًا لا صلة له بهذه الفاحشة النكراء، فنسبة فاعلها إليه في غاية الشناعة.
الأمر الثاني: أن في تسمية عمل قوم لوط باللواطة ترويج لهذه الفاحشة وتسمية لها بغير اسمها؛ لأن عمل قوم لوط في غاية الفساد في الأرض، وأما اللواطة فمن معانيها الإصلاح، كما جاء في حديث خروج الدجال وفيه: «وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله»[1] ، وعليه فلا ينبغي أن يسمى إلا باسمه الذي سماه به النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما في حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به»[2] ، لهذه الأمور كلها لا يجوز نسبة فاعل عمل قوم لوط إلى لوط عليه السلام[3].
وأما استعمالات بعض أهل العلم لهذا المصطلح فلا حجة فيه؛ لأن الحجة في قول الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقد علم مخالفة هذا المصطلح للشرع واللغة، واستعمالات العلماء لهذا المصطلح مبني على اجتهاد مأجورين عليه، لا سيما وأن هناك روايات ضعيفة فيها هذه التسمية، ولا حجة فيما لم يصح، والله أعلم.
المسألة الثانية: خيانة امرأة لوط عليه السلام لزوجها وبيان نوع هذه الخيانة:
لقد تقدم بيان هلاك زوج نبي الله لوط ونجاة بقية أهله، كما في قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ *} [النمل] ، وجاء في النصوص الشرعية بيان سبب هلاكها ودخولها في النار، وهو خيانة زوجها في قول الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامَرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ *} [التحريم] .
والمراد بهذه الخيانة هنا: هي خيانة الدين وهي الكفر برسالتهما وتكذيب نبوتهما وشريعتهما، وعدم الدفاع عنهما، فقد أخرج ابن جرير بسند حسن[4] عن قتادة؛ أنه قال في الآية: «هاتان زوجتا نبيَّي الله، لما عصتا ربهما لم يغن أزواجهما عنهما من الله شيئًا»[5]. ولم تكن هذه الخيانة بالزنا، وإنه لم تزن زوجة نبي قط[6]، قال ابن كثير: ({فَخَانَتَاهُمَا}؛ أي: في الإيمان، لم يوافقاهما على الإيمان، ولا صدقاهما في الرسالة، فلم يُجد ذلك كله شيئًا، ولا دفع عنهما محذورًا؛ ولهذا قال: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [التحريم] ؛ أي: لكفرهما، {وَقِيلَ}؛ أي: للمرأتين: {ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ *} وليس المراد: {فَخَانَتَاهُمَا} في فاحشة، بل في الدين؛ فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة؛ لحرمة الأنبياء، كما قدمنا في سورة النور»[7].
المسألة الثالثة: عصمة الأنبياء:
اتفق أهل العلم على أن الأنبياء معصومون بعد النبوة من الشرك وكبائر الذنوب[8]، ومعصومون في التبليغ عن الله، ومن الصغائر الخسيسة[9]، وأما ما دونها من الصغائر فيجوز وقوعها منهم، لكنهم لا يقرون عليها، بل يتوبون منها وأن الله يسددهم[10].
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بعدما حكى الخلاف بين الأصوليين في عصمة الأنبياء من الصغائر: «الذي يظهر لنا أنه الصواب في هذه المسألة أن الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ لم يقع منهم ما يزري بمراتبهم العلية، ومناصبهم السامية، ولا يستوجب خطأً منهم، ولا نقصًا فيهم ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ، ولو فرضنا أنه وقع منهم بعض الذنوب؛ لأنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة، والإخلاص، وصدق الإنابة إلى الله حتى ينالوا بذلك أعلى درجاتهم، فتكون بذلك درجاتهم أعلى من درجة من لم يرتكب شيئًا من ذلك. ومما يوضح هذا قوله تعالى: {...وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى *} [طه] ، فانظر أي أثر يبقى للعصيان والغي بعد توبة الله عليه واجتبائه؛ أي: اصطفائه إياه، وهدايته له، ولا شك أن بعض الزلات ينال صاحبها بالتوبة منها درجة أعلى من درجته قبل ارتكاب تلك الزلة. والعلم عند الله تعالى»[11].
وأما قبل النبوة فهل كانوا على عقيدة أقوامهم من الشرك ونحوه أم لا؟ وهل يدل على ذلك قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] ، وقوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنِا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ *} [إبراهيم] ، ففي الآية الأولى أن لوطًا آمن، وفي الثانية أن الأنبياء هُدّدوا؛ إما بالإخراج من القرية وإما العودة إلى ملة أقوامهم وهم لم يدخلوا فيها أصلاً، وقد أجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن على هذا الإشكال، وهو العودة إلى ملة الأقوام، فقال: «فاعلم أن المسألة شاعت وذاعت واشتهرت وانتشرت، والخلاف فيها قديم بين أهل السُّنَّة والمعتزلة، وبين أهل السُّنَّة بعضهم لبعض، والذي روى ابن أبي حاتم عن عطية عن ابن عباس: «كانت الرسل والمؤمنون يستضعفهم قومهم ويقهرونهم ويدعونهم إلى العودة إلى ملتهم، فأبى الله لرسله والمؤمنين أن يعودوا في ملتهم وفي ملة الكفر، وأمرهم أن يتوكلوا عليه»[12]، وقد رواه السدي عن أشياخه، وتأوله عطية على أنه العود إلى السكوت كما كان الرسل قبل الرسالة؛ وأنهم كانوا أغفالاً قبل؛ أي: لا علم بما جاءهم من عند الله، قال: وذلك عند الكفار عود في ملتهم. وهذا الذي رأيته منصوصًا عن أئمة السلف»[13].
وبعضهم فرّق بين حال نبيّنا محمد الذي كان معصومًا من الوقوع في الشرك، كما هو معروف من سيرته، وغيره من الأنبياء، فذكروا أنه لا يستحيل أن يكون على ملة قومه، ولا يلزم أن يكون قد عبد الأصنام، بل يظل على السكوت وعدم الإنكار عليهم[14].


[1] أخرجه مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 2940).
[2] أخرجه أبو داود (كتاب الحدود، رقم 4462)، والترمذي (أبواب الحدود، رقم 1456)، وابن ماجه (كتاب الحدود، رقم 2561)، وأحمد (4/464) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب الحدود، رقم 8049) وصححه، وصححه ابن عبد الهادي في المحرَّر (1/624) [دار المعرفة، ط3]، والألباني في الإرواء (8/16) [المكتب الإسلامي، ط2].
[3] انظر: معنى لفظ (لوط) اللغوي المتقدم، ومعجم المناهي اللفظية لبكر أبو زيد (461) [دار العاصمة، ط3] وفبهداهم اقتده لعثمان الخميس (260) [دار إيلاف الدولية، ط1، 1431هـ].
[4] الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور لحكمت بشير ياسين (4/512) [دار المآثر، المدينة النبوية، ط1].
[5] تفسير الطبري (23/114) [دار هجر، ط1].
[6] انظر: تفسير القرطبي (9/46) [دار عالم الكتب، الرياض، 1423هـ]، وتفسير ابن كثير (4/327)، وتفسير السعدي (874).
[7] تفسير ابن كثير (8/171).
[8] انظر: فتح الباري لابن حجر (8/69)، وإرشاد الفحول للشوكاني (1/190) [دار الفضيلة، ط1، 1421هـ]، والقول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين (2/309)، وفبهداهم اقتده لعثمان الخميس (33).
[9] انظر: البرهان في أصول الفقه للجويني (فقرة: 386 وما بعدها) [دار الأنصار، القاهرة]، وفبهداهم اقتده لعثمان الخميس (33).
[10] انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/253) [ط6، 1417هـ].
[11] أضواء البيان للشنقيطي (4/119).
[12] أخرجه الطبري في تفسيره (16/544) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن أبي حاتم (7/2237) [مكتبة نزار الباز، ط3].
[13] عيون الرسائل والأجوبة على المسائل لعبد اللطيف آل الشيخ (1/342 ـ 344) [مكتبة الرشد، ط1].
[14] المرجع السابق (1/342) الحاشية رقم (5).


1 ـ «تفسير الطبري» (ج23).
2 ـ «تاريخ دمشق» (ج50)، لابن عساكر.
3 ـ «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» (ج1)، لابن الجوزي.
4 ـ «تفسير القرطبي» (ج9).
5 ـ «البداية والنهاية»» (ج1)، لابن كثير.
6 ـ «تفسير ابن كثير» (ج6).
7 ـ «قصص الأنبياء» (ج1) لابن كثير.
8 ـ «صحيح قصص الأنبياء»، لسليم الهلالي.
8 ـ «معجم المناهي اللفظية»، لبكر أبو زيد.
9 ـ «فبهداهم اقتده: قراءة تأصيلية في سير وقصص الأنبياء عليهم السلام»، لعثمان الخميس.
10 ـ «الأحاديث الصحيحة من أخبار وقصص الأنبياء عليهم السلام»، لإبراهيم العلي.