حرف الميم / المتين

           

قال ابن فارس: «الميم والتاء والنون أصل صحيح واحد يدل على صلابة في الشيء مع امتداد وطول»[1].
والمتين بوزن (فعيل) صفة مشبهة، أصله الثلاثي: (متن) الدال على صلابة في الشيء مع امتداد وطول، يقال: مَتُن يمتن متانة فهو متين؛ إذا قوي واشتد وصلب، والمتن من الأرض ما صلب وارتفع وانقاد، وجمعه: مِتان ومتون، ومَتْنُ كل شيء ما ظهر منه.
والمتين من كل شيء: القوي الشديد، يقال: حبل متين، ورأي متين. ومتَّن الشيء: صيّره متينًا.
والمماتنة: المباعدة في الغاية، يقال: سار سيرًا مماتنًا؛ أي: بعيدًا، ويقال أيضًا: ماتن فلان فلانًا؛ إذا عارضه في جدل وخصومة[2].


[1] مقاييس اللغة (2/497) [دار الكتب العلمية، ط 1420هـ].
[2] انظر: تهذيب اللغة (14/305، 306) [الدار المصرية]، والصحاح (6/2200) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، ومفردات ألفاظ القرآن (758) [دار القلم، ط2، 1418]، والقاموس المحيط (1591) [مؤسسة الرسالة، ط5، 1416هـ]، والمعجم الوسيط (2/853) [دار إحياء التراث العربي].


المتين : هو القوي الشديد المتناهي في القوة والقدرة، الذي لا تتناقص قوته ولا تضعف قدرته، والذي لا يلحقه في أفعاله مشقة ولا كلفة ولا تعب[1].
ومن فسَّره بنفس معنى اسمه تعالى (القوي) لا يعني أنه مرادف له من كل وجه؛ فإن القوة تدل على القدرة التامة، والمتانة تدل على شدة القوة.
فالله عزّ وجل من حيث إنه بالغ القدرة تامها قوي، ومن حيث إنه شديد القوة متين[2].


[1] انظر: تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج (55) [دار الثقافة العربية، ط1، 1974م]، شأن الدعاء (77) [دار الثقافة، ط3، 1412هـ]، أحكام القرآن لابن العربي (2/345) [دار الكتب العلمية، ط1]، فقه الأسماء الحسنى (155) [دار التوحيد، ط1، 1429].
[2] انظر: المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (99، 100) [دار الكتب العلمية]، ولوامع البينات شرح أسماء الله تعالى والصفات (298) [دار الكتاب العربي، ط2].


يجب الإيمان بهذا الاسم (المتين)، وما دلَّ عليه من صفة المتانة؛ لدلالة القرآن الكريم على ذلك، ويجب إثبات ذلك لله تعالى، كما يليق بجلاله وكبريائه وعظمته سبحانه، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تمثيل[1].


[1] انظر: تفسير البغوي (5/143) [دار الفكر، ط1، 1422هـ]، ومختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية (44) [مطابع المدينة، ط13، 1421هـ]، وشرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/205) [دار ابن الجوزي، الدمام، ط6، 1421هـ].


ورد اسم المتين في القرآن الكريم مرة واحدة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ *} [الذاريات] .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني أنا الرزاق ذو القوة المتين»[1]


[1] أخرجه أبو داود (كتاب الحروف والقراءات، رقم 3993)، والترمذي (أبواب القراءات، رقم 2940) وقال: حسن صحيح، وأحمد (6/285) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب التفسير، رقم 2983) وصححه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/493، رقم 3993) [مكتبة المعارف، الرياض، ط2، 1421هـ].


قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {الْمَتِينُ *}: «الشديد»[1]. قال ابن عثيمين معلقًا على قول ابن عباس المذكور: «أي: الشديد في قوته، الشديد في عزته، الشديد في جميع صفات الجبروت، وهو من حيث المعنى توكيد للقوي»[2].
وقال ابن جرير الطبري: «والصواب من القراءة في ذلك عندنا: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ *} رفعًا على أنه من صفة الله جلَّ ثناؤه؛ لإجماع الحجة من القراءة عليه»[3].
وقال البغوي: «{ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ *} هو القوي المقتدر المبالغ في القوة والقدرة»[4].
وقال ابن عثيمين: «في هذه الآية إثبات اسمين من أسماء الله، هما: الرزاق والمتين، وإثبات ثلاث صفات، وهي: الرزق والقوة، وما تضمنه اسم المتين»[5].
وقال عبد العزيز السلمان: «ومن أسمائه تعالى المتين، والمتانة تدل على القوة، فالله تعالى بالغ القوة والقدرة»[6]. وقال أيضًا: «وما يؤخذ من الآية إثبات المتانة وهي من الصفات الذاتية»[7].


[1] أخرجه الطبري في التفسير (9/7642) [دار السلام، القاهرة، ط3، 1429هـ]، وابن أبي حاتم (10/3313) [المكتبة العصرية، 1419هـ]، والبيهقي في الأسماء والصفات (1/118) [مكتبة السوادي، ط1، 1413هـ]، كما في الصحيح المسبور (4/392) [دار المآثر، المدينة المنورة، ط1، 1420هـ].
[2] شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/205).
[3] تفسير الطبري (9/7642).
[4] تفسير البغوي (5/143) [دار الفكر، بيروت، ط1، 1422هـ].
[5] شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/205).
[6] مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية (44).
[7] الكواشف الجلية عن معاني الواسطية (144) [رئاسة إدارة البحوث العلمية ولإفتاء، ط11، 1982م].


المسألة الأولى: حكم الإخبار عن الله بأنه شديد:
المتين معناه: الشديد، البالغ في الشدة والقوة غايتها، ولكن المتين من أسماء الله تعالى دون الشديد؛ لورود الأول في النص دون الثاني، ولكن يجوز الإخبار به؛ لأن باب الإخبار أوسع من باب الأسماء، قال ابن عثيمين: «يجوز أن نخبر عن الله بأنه شديد، ولا نسمي الله بالشديد، بل نسميه بالمتين؛ لأن الله سمى نفسه بذلك»[1]. فباب الأسماء والصفات توقيفي، ويجب الوقوف في هذا الباب على ما جاء به الكتاب والسُّنَّة، ويجب التقيد بألفاظهما، ولا يتجاوز القرآن والحديث.


[1] شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/205).


الفرق بين القوي والمتين:
هناك فرق بين اسم الله تعالى القوي والمتين؛ فإن المتين فيه زيادة معنى عن القوي؛ فالقوة تدل على القدرة التامة، والمتانة تدل على شدة القوة.
فالله عزّ وجل من حيث إنه بالغ القدرة تامها قوي، ومن حيث إنه شديد القوة متين[1].


[1] انظر: المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى (99، 100) [دار الكتب العلمية]، ولوامع البينات شرح أسماء الله تعالى والصفات (298).


إن الله قوي متين، بالغ في القوة والقدرة والشدة غايتها، وأي قوة مهما عظمت فلن تقابل قوة الله تعالى، فهو سبحانه لا يعجزه شيء، ولا يغلبه غالب، ولا يرد قضاءه راد، فمن نصره الله فهو منصور، ومن خذله الله فهو مخذول، وهذا يوجب الخضوع لله، والانكسار بين يديه، والخوف منه، واللجوء إليه، والاعتصام به، والتوكل عليه، وتفويض الأمور إليه، والتبرؤ من الحول والقوة إلا به سبحانه[1]، قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ *} [آل عمران] ، وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ *} [المجادلة] .
قال ابن عثيمين: «الفائدة المسلكية في الإيمان بصفة القوة والرزق: أن لا نطلب القوة والرزق إلا من الله تعالى، وأن نؤمن بأن كل قوة مهما عظمت، فلن تقابل قوة الله تعالى»[2].


[1] انظر: فقه أسماء الله الحسنى لعبد الرزاق البدر (157) [مطابع الحميضي، ط1، 1429هـ].
[2] شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (1/205).


لا شكَّ أن الله عزّ وجل قوي متين، ومن شواهد قوته الكاملة وقدرته التامة المشار إليها في الآية المذكورة: أنه سبحانه تكفَّل بإيصال الرزق إلى جميع العالمين، ولا يستطيع ذلك أحد سواه، بل لا يستطيع أحد أن يضيق عطاء الله لأحد أو يمنع عنه ما أراد الله له، ولو اجتمع لذلك الخلق كله، فلا حول ولا قوة إلا بالله تعالى[1].


[1] انظر: تفسير السعدي (113) [دار الصميعي، ط1، 1418هـ]، وأسماء الله الحسنى لماهر مقدم (128، 129) [مكتبة الإمام الذهبي، الكويت، ط4، 1431هـ].


ذهب بعض من فسّر هذا الاسم إلى أن إطلاق هذا اللفظ في حق الله مجاز، بناءً على أن المدلول اللغوي لهذا الاسم يدور حول الغلظة والشدة والصلابة، وهذا في حق الله محال؛ وإنما المراد به وصف الله بالقوة والمبالغة في ذلك[1].
والصواب: أنه لا داعي لهذا التأويل؛ لأن حبر هذه الأمة فسّر المتين بالشديد، وكذلك وافقه على ذلك الكثير من الشراح والمفسرين، وهذا المعنى هو أحد المعاني المباشرة التي يدل عليها هذا الاسم في اللغة، وتفسيره باللازم مع دعوى أن حقيقته مجاز خطأ لا محالة؛ لأن الله عزّ وجل غاير بين الوصفين، فوصف نفسه بالقوة وبالمتن في هذه القوة، وهو يفيد كمال هذه الصفة والمبالغة فيها وحصول الغاية والنهاية فيها.


[1] انظر: اشتقاق أسماء الله (194) [مؤسسة الرسالة، ط2]، ولوامع البينات شرح أسماء الله تعالى والصفات (299).


1 ـ «الأسماء والصفات»، للبيهقي.
2 ـ «أسماء الله الحسنى: جلالها ولطائف اقترانها وثمراتها في ضوء الكتاب والسُّنَّة»، لماهر مقدم.
3 ـ «تفسير أسماء الله الحسنى»، للزجاج.
4 ـ «شرح العقيدة الواسطية»، لابن عثيمين.
5 ـ «شأن الدعاء»، للخطابي.
6 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي بن عبد القادر السقاف.
7 ـ «فقه أسماء الله الحسنى»، لعبد الرزاق البدر.
8 ـ «الكواشف الجلية عن معاني الواسطية»، لعبد العزيز السلمان.
9 ـ «معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى»، لمحمد بن خليفة التميمي.