المجيء : قال ابن فارس: «الجيم والياء والهمزة كلمتان من غير قياس بينهما. يقال: جاء يجيء مجيئًا. ويقال: جاءاني فجئته؛ أي: غالبني بكثرة المجيء، فغلبته. والجيئة: مصدر جاء. والجيئة: مجتمع الماء حوالي الحصن وغيره. ويقال: هي جِيّة؛ بالكسر والتثقيل»[1]. والمراد هنا هو المعنى الأول، فالمجيء في اللغة هو الإتيان، يقال: جاء يجيء مجيئًا، ويقال: جاءاني فجئته؛ أي: غالبني بكثرة المجيء فغلبته[2].
والإتيان : الهمزة والتاء والواو أصل يدل على مجيء الشيء وإصحابه وطاعته، تقول: أتاني فلانٌ إتْيانًا وأَتْيًا وأَتْيَةً وأَتْوَةً واحدة[3].
[1] مقاييس اللغة (1/255) [دار الكتب العلمية، 1420هـ].
[2] انظر: مقاييس اللغة (1/255)، والصحاح (1/42) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م].
[3] مقاييس اللغة (1/41)، ولسان العرب (1/36).
المجيء والإتيان : صفتان فعليتان خبريتان، ثابتتان لله بالكتاب والسُّنَّة، فهو سبحانه يجيء ويأتي يوم القيامة للفصل والقضاء بين عباده، بمشيئته وقدرته، وذلك كما يليق بجلاله وعظمته[1].
[1] انظر: شرح العقيدة الواسطية لهراس (112) [دار الهجرة]، والصفات الإلهية لمحمد أمان الجامي (248 ـ 257) [الجامعة الإسلامية بالمدينة، ط1، 1408هـ]، وصفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة للسقاف (45 و310) [دار الهجرة الرياض، ط3].
يوصف الله تعالى بالإتيان والمجيء حقيقة كما يليق بجلاله وعظمة سلطانه، مع انتفاء المماثلة بينه وبين خلقه، فهو سبحانه يأتي إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، ويأتي إلى السماء الدنيا عشية يوم عرفة ويباهي بهم الملائكة، ويأتي يوم القيامة للقضاء بين عباده حقيقة، ولا يعلم كيفية إتيانه ومجيئه إلا هو سبحانه وتعالى؛ لأن الخوض في الكيفية خوض فيما لا مدرك للعقل فيه، ولا يمكن الوصول إليه، إلا بوحي منزل، وقد جاء القرآن والسُّنَّة بإثبات ذلك على المعلوم المعهود من لغة العرب، ولم يأت بذكر الكيفية، فوجب الكف عن الخوض فيها[1].
[1] انظر: عقيدة السلف أصحاب الحديث (27)، والفتوى الحموية الكبرى (45 ـ 56) [دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1426هـ].
ما جاء بلفظ المجيء: قال تعالى: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا *وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر] .
ما جاء بلفظ الإتيان: قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ وقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ *} [البقرة] ، وقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ *} [الأنعام] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل تضارُّون في القمر ليلة البدر؟» . قالوا: لا، يا رسول الله. قال: «فهل تضارُّون في الشمس ليس دونها سحاب؟» . قالوا: لا، يا رسول الله. قال: «فإنكم ترونه كذلك، يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها شافعوها أو منافقوها ـ شك إبراهيم ـ فيأتيهم الله، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاءنا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه» الحديث[1].
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يرويه عن ربه قال: «إذا تقرب العبد إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإذا تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة»[2].
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله عزّ وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا لقيته بمثلها مغفرة»[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7437)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 182).
[2] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7536)، وأخرجه مسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2687).
قال أبو الحسن الأشعري: «وأجمعوا على أنه عزّ وجل يجيء يوم القيامة والملك صفًّا صفًّا»[1].
وقال أبو نعيم الأصبهاني: «وأجمعوا أن الله فوق سماواته عال على عرشه مستو عليه، وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفًّا صفًّا، كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر] ، وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، فيغفر لمن يشاء من مذنبي الموحدين ويعذب من يشاء»[2].
وقال أيضًا: «وأجمعوا أن الله فوق سماواته عال على عرشه مستو عليه وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفًّا صفًّا، كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر] ، وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، فيغفر لمن يشاء من مذنبي الموحدين ويعذب من يشاء»[3].
وقال أبو عثمان الصابوني في بيانه لعقيدة السلف: «وكذلك يثبتون ما أنزله الله عزَّ اسمه في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين في قوله عزّ وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ} [البقرة: 210] ، وقوله عزَّ اسمه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر] »[4].
وقال ابن عبد البر: «وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يَنْزِل ربُّنَا إلى السماء الدنيا»[5] عندهم مثل قول الله عزّ وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] ، ومثل قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر] ، كلهم يقول: ينزل ويتجلّى ويجيء، بلا كيف، لا يقولون: كيف يجيء؟ وكيف يتجلّى؟ وكيف ينزل؟ ولا من أين جاء؟ ولا من أين تجلّى؟ ولا من أين ينزل؟ لأنه ليس كشيءٍ من خلقه، وتعالى عن الأشياء، ولا شريك له»[6].
وقال ابن تيمية: «وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده؛ فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستواءه على العرش. وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر»[7].
وقال ابن القيم: «وصف نفسه بالسمع والبصر والفعل باليدين والمجيء والإتيان، وذلك ضد صفات الأصنام التي جعل امتناع هذه الصفات عليها منافيًا لإلهيتها»[8].
[1] رسالة إلى أهل الثغر (236) [الجامعة الإسلامية بالمدينة، ط2، 1427هـ].
[2] نقله عنه ابن تيمية في الفتوى الحموية الكبرى (45 ـ 56) [دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1426هـ].
[3] نقله عنه ابن تيمية في الفتوى الحموية الكبرى (45، 56).
[4] عقيدة السلف أصحاب الحديث (27).
[5] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7494)، ومسلم (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 758).
[6] التمهيد (7/153) [وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المملكة المغربية، 1399هـ].
[7] مجموع الفتاوى (5/466) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1416هـ].
[8] الصواعق المرسلة (3/915، 916) [دار العاصمة الرياض، ط3، 1418هـ].
المسألة الأولى: إثبات المجيء والإتيان لله تبارك وتعالى لا يلزم منه تشبيه الخالق بالمخلوق:
إثبات المجيء والإتيان وعدَّها من صفات الله تعالى الفعلية الخبرية، لا يستلزم مماثلتها لمجيء الخلق وإتيانهم، بل هو إتيان ومجيء خاص به لا يماثله فيه شيء، والاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في الصفات، والاتفاق في الاسم الكلي المطلق لا يستلزم الاتفاق بعد الإضافة والتقييد والتخصيص، فكما أن ذاته لا يماثلها شيء من الذوات فكذلك صفاته تعالى لا يماثلها شيء لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات.
المسألة الثانية: الإتيان والمجيء من الله تعالى نوعان: مطلق ومقيد:
إذا كان مجيء رحمته أو عذابه كان مقيدًا، كما في الحديث حتى جاء الله بالرحمة والخير، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ *} [الأعراف] ، والنوع الثاني: المجيء والإتيان المطلق؛ كقوله عزّ وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر: 22] وهذا لا يكون إلا مجيئه سبحانه[1].
المسألة الثالثة: لا بد من النظر في كل آية وحديث بخصوصه وسياقه وما يبين معناه من القرائن والدلالات:
هذا أصل عظيم ونافع جدًّا في فهم الكتاب والسُّنَّة والاستدلال بهما، فالنصوص الدالة على مجيء الله تعالى وإتيانه سبحانه قد يراد بها مجيء الله وإتيانه، وقد يراد بها غير ذلك. قال ابن تيمية: «وينظر في النص الوارد، فإن دلَّ على هذا حمل عليه، وإن دلَّ على هذا حمل عليه، وهذا كما في لفظ الإتيان والمجيء، وإن كان في موضع قد دلَّ عندهم على أنه هو يأتي، ففي موضع آخر دلَّ على أنه يأتي بعذابه، كما في قوله تعالى: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26] ، وقوله: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2] فتدبر هذا، فإنه كثيرًا ما يغلط الناس في هذا الموضع»[2]. فالإتيان والمجيء قد يراد بهما إتيان الرب تعالى ومجيئه سبحانه، وقد يراد بهما إتيان عذاب الله أو آياته، فلا بد من النظر في النص الوارد في ذلك وما احتفت به من القرائن والأحوال والسياق والسباق.
[1] مختصر الصواعق المرسلة (384).
[2] مجموع الفتاوى (6/14).
من آثار الإيمان بصفة الإتيان لله عزّ وجل الخوف من هذا المقام في ذلك المشهد العظيم الذي يأتي فيه الرب عزّ وجل للفصل بين عباده وتنزل الملائكة وتصطف، ولا منجى يومئذ إلا برحمة الله، فالإيمان بهذه الصفة يولد للإنسان رهبة وخوفًا من الله سبحانه وتعالى واستقامة على دينه[1].
[1] انظر: شرح الواسطية للعثيمين (1/283).
المجيء صفة من الصفات الفعلية الاختيارية، فهي من جملة الصفات التي أنكرتها الفلاسفة والجهمية والمعتزلة الذين ينكرون الصفات بالكلية، ومن جملة الصفات التي أنكرتها الكُلابية ومن وافقهم الذين ينكرون صفات الأفعال الاختيارية[1].
ونفاة هذه الصفة يؤوِّلون النصوص الواردة فيها بظهور آياته أو إتيان بأسه وعذابه ونقمته، وهذا كله من التأويلات البعيدة يردها النظم القرآني؛ لأن الله تعالى ذكر في القرآن الكريم مجيئه ومجيء الملائكة، بل ذكر إتيانه وإتيان الملائكة وإتيان بعض آياته في آية واحدة، فإن كان الذي يأتي ملكًا فهو داخل في مجيء الملائكة، وإن كان شيئًّا غير الملك فهو آية من آيات الله فيكون داخلاً في إتيان الآيات، ولذلك تفسير إتيان الرب في الآيات المذكورة بمجيء أمره وعذابه وآياته دون إتيان الرب سبحانه وتعالى تفسير خاطئ وتأويل باطل، وكلام الله تعالى منزه عن الحشو والركاكة والتكرار المستهجن.
والقول الحق: أنه يجب إثبات هذه الصفة لله كما يليق بجلال الله وعظمته، لدلالة الكتاب والسُّنَّة على ذلك.
[1] انظر من كتب أهل السُّنَّة: نقض الدارمي على المريسي (154 ـ 161) [أضواء السلف، ط1، 1419هـ]، ومختصر الصواعق المرسلة (2/106 ـ 109)، وانظر من كتب المعتزلة: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (229، 230) [مكتبة وهبة، ط2، 1408هـ]، وتفسير الكشاف للزمخشري (1/419 و2/415 و6/373) [مكتبة العبيكان، ط1، 1418هـ]، ومن كتب الماتريدية: مدارك التنزيل للنسفي (1/100 و354 و4/338).
1 ـ «الحجة في بيان المحجة» (ج2)، للتيمي.
2 ـ «رسالة إلى أهل الثغر»، لأبي الحسن الأشعري.
3 ـ «شرح العقيدة الواسطية»، لمحمد خليل هراس.
4 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي بن عبد القادر السقاف.
5 ـ «عقيدة السلف أصحاب الحديث»، للصابوني.
6 ـ «الفتوى الحموية الكبرى»، لابن تيمية.
7 ـ «القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى»، لابن عثيمين.
8 ـ «مجموع الفتاوى» (ج5 و6)، لابن تيمية.
9 ـ «مختصر الصواعق المرسلة» (ج2)، لابن القيم.
10 ـ «نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله في التوحيد»، للدارمي.