حقيقة المحبة معروفة محسوسة، لا يُفسرها شيء مثل لفظها، فهو سبحانه يحب أنبياءه ورسله وأولياءه وعباده المؤمنين، ومحبته سالمة من عوارض المحبة للمخلوق؛ من كونها محبة حاجة أو تملق أو انتفاع[1].
فهي صفة فعلية ثابتة لله تعالى، بأنه تعالى يحب من عباده من أطاعه واتقاه، وهذا تفضل وإنعام على من أحبه، وهو وصف على غاية الكمال والجلال والغنى، لا يعتريه نقص، ولا يرد عليه تشبيه.
وقد فسَّر أهل العلم من السلف محبة الله بلفظها ومعناها دون تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه[2]. قال ابن القيم: «محبته لمحبيه وأوليائه سلام من عوارض محبة المخلوق للمخلوق؛ من كونها محبة حاجة إليه أو تملق له أو انتفاع بقربه، وسلام مما يتقوله المعطلون فيها»[3].
[1] انظر: مدارج السالكين لابن القيم (3/156)، بدائع الفوائد لابن القيم (2/182)، الحق الواضح المبين لابن سعدي (69)، وشرح العقيدة الواسطية لصالح الفوزان (45).
[2] انظر: تفسير الطبري (6/182)، وتفسير ابن كثير (1/358).
[3] بدائع الفوائد لابن القيم (2/118).
أما أدلة الكتاب الكريم: فمنها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] .
وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] .
وقوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي *} [طه] .
وقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ *} [البقرة] ، وأيضًا ورد في آيات عدة أنه يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب المتقين.
ومن السُّنَّة المطهرة : حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لأعطين الراية غدًا رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله»[1].
وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي»[2].
أما الإجماع : فقد حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: «وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له، وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام»[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 3009)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة، رقم 2406).
[2] أخرجه مسلم (كتاب الزهد والرقائق، رقم 2965).
[3] مجموع فتاوى ابن تيمية (2/354).
ذكر النسائي بعض ما يوصف الله تعالى به فقال: «الحب والكراهية»[1]، وقال: «الحب والبغض»[2]، وذكر الأدلة في إثبات ذلك.
وقال الدارمي في ردِّه على المريسي إنكاره بعض الصفات ومنها الحب: «وسنقص عليه بعض ما روي في بعض هذه الأبواب من الحب والبغض والسخط والكراهية وما أشبهه»[3]، ثم ذكر الأدلة.
وقال أبو العباس ابن تيمية: «ووصف نفسه بالمحبة ووصف عبده بالمحبة فقال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ومعلوم أن مشيئة الله ليس مثل مشيئة العبد، ولا إرادته مثل إرادته، ولا محبته مثل محبته، ولا رضاه مثل رضاه»[4].
وقال ابن أبي العز: «ولكن محبة الله وخلَّته، كما يليق به تعالى، كسائر صفاته»[5].
[1] كتاب النعوت (359).
[2] المصدر السابق (363).
[3] نقض الدارمي على بشر المريسي (2/868).
[4] الرسالة التدمرية (10).
[5] شرح العقيدة الطحاوية (396).
المسألة الأولى: إطلاق اسم (المُحب) على الله:
اشتق بعض أهل العلم من صفة المحبة اسمًا لله وهو (المحب)، والمحب (مُفعِل) من أبنية اسم الفاعل، من: أحب يحبّ حبًّا ومحبة فهو محبّ.
ولا يصح إطلاق اسم المُحبّ على الله عزّ وجل، وإنما هو من باب الأفعال، وباب الأفعال أوسع من باب الأسماء، وليس كل ما يصح إطلاقه فعلاً يصح اسمًا، والله أعلم[1].
وقد استدل من أثبت هذا الاسم من أهل العلم بقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] . ومن المعلوم أن أسماء الله تعالى توقيفية، ولم يثبت نص صحيح في إثباته اسمًا لله تعالى، ولم يرد هذا الاسم في أي من طرق حديث تعيين الأسماء المشهور[2].
ولم يورد هذا الاسم من أهل العلم سوى ابن العربي المالكي[3]، والشرباصي[4].
المسألة الثانية: علامة محبة العبد لله تعالى:
أن يحب ما يحبه الله تعالى، ويبغض ما يسخطه الله، فيمتثل أوامره، ويجتنب مناهيه، ويوالي أولياءه، ويعادي أعداءه[5].
المسألة الثالثة: من أسباب محبة الله تعالى لعبده أمور عدة:
أ ـ اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [آل عمران] .
ب ـ عبادة الله وحده لا شريك له وعدم الإشراك به.
ج ـ فعل الطاعات واجتناب المعاصي، ومن ذلك:
توبة العبد إلى الله تعالى، والتطهر، والثبات أمام العدو، وغيرها من الأمور.
د ـ التقرب إلى الله تعالى بالنوافل مع فعل الواجبات.
هـ دوام ذكر الله تعالى، فالذكر باب المحبة وشارعها الأعظم، وصراطها الأقوم[6].
[1] انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/346) [دار الكتب العلمية، ط1]، ومعتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى (109، 241) [أضواء السلف، ط1].
[2] انظر: معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى للتميمي (79 ـ 84).
[3] انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/346).
[4] انظر: موسوعة (له الأسماء الحسنى) (2/) [دار الجيل، ط3، 1996م].
[5] انظر: أعلام السُّنَّة المنشورة للحكمي (9)، ومعارج القبول له (2/424).
[6] انظر: الزهد والورع لابن تيمية (43)، والوابل الصيب لابن القيم (61)، والقول المفيد لابن عثيمين (2/8)، وشرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنميان (2/287).
الفرق بين الإرادة والمحبة:
الإرادة قد تكون للشيء دون رضًا له، بخلاف المحبة التي تقتضي الرضا عن المحبوب دومًا.
فما أراده الله تعالى قضاءً وقدرًا ليس من لازمه أن يحبه ويرضاه، وذلك راجع للحكمة البالغة التي يكون بها فعل الله تعالى وتقديره، فالإرادة ملازمة للحكمة، فما أراده الله تعالى فهو غاية الحكمة، والحكمة حين تتعلق بإيجاد شيء مبغوض في نفسه فهذا يعني أنه مراد لغيره، وما يحصل من إيجاده من حكم وغايات محمودة خارجة عنه، كخلق إبليس، فالله أراد إيجاده لحكم يريدها، وإن كان هو في نفسه مبغوضًا إلى الله تعالى.
فالإرادة والمحبة بينهما من الاتفاق والاختلاف ما يرجع تحديده إلى دلالة السياق.
فما يقع في هذا الوجود فهو مما أراده الله عزّ وجل كونًا، سواء أحبه أو لم يحبه.
وما أراده الله شرعًا فهو ما يحبه ويرضاه سواء وقع أو لم يقع[1].
[1] ينظر: الحجة في بيان المحجة (1/423)، ومجموع فـتـاوى ابـن تـيـمـيـة (8/188)، ومدارج السالكين (1/251).
1 ـ ما يورثه التفكر في الصفة من زيادة محبة لله عزّ وجل؛ فهو مع غناه وعظمته سبحانه يحب عبده المتقي، بل يحب عبده المذنب المقصر في حقه حين يعود إليه ويتوب! فسبحانه من رب رؤوف رحيم، جعل السبيل إلى محبته اليسير من القول والعمل، ولكن العباد يجنون على أنفسهم بالبعد والإعراض.
2 ـ مسارعة المؤمن في أسباب محبة الله تعالى للعبد، وخاصة حين يعلم مدى اليسر والسهولة فيها، مما فيه الدلالة الظاهرة على لطف الله تعالى، ورحمته بعباده.
3 ـ إلحاح المؤمن في الدعاء أن يرزقه الله تعالى محبته، والرضا عنه، كما في الحديث: «أسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرب إلى حبك»[1].
4 ـ التعبد لله عزّ وجل بمحبة كل ما يحبه الله، ومن يحبه الله، وبغض كل ما يبغضه الله سبحانه، ومن ذلك موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين.
5 ـ تواضع كل المحبوبات والمرغوبات أمام محبة الله تعالى، فيطيب المؤمن عيشًا بذلك، ويزكو نفسًا، فليس دون محبة الله عزّ وجل شيء يزاحم مطلبه الأعلى، ومقصده الأسمى.
[1] أخرجه الترمذي (أبواب تفسير القرآن، رقم 3235)، وأحمد (36/422) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح»، ونقل عن البخاري أنه قال فيه مثل ذلك.
1 ـ القلوب الطاهرة والنفوس المطمئنة التي سمت وعلت بمحبة الله تعالى، فكانت نورًا يضيء للسالك الطريق، وشاهدًا جليًّا على أن العزة والرفعة لمن أحبه الله عزّ وجل.
2 ـ شرع الله تعالى اليسير الموصل إلى أعظم ما يقصده المؤمنون، وهو محبة الله تعالى.
3 ـ التوفيق والحفظ والنصر والعاقبة الحسنة التي يجعلها الله تعالى للمؤمنين مما هو ظاهر الدلالة على محبته لهم.
4 ـ عاقبة السوء والهلاك الواقع على الظالمين؛ وهذا من عدم محبة الله تعالى لهم؛ فهو سبحانه لا يحب الظالمين، ولا يحب الكافرين، ولا يحب المعتدين.
المحبة : صفة من الصفات الفعلية الاختيارية التي أنكرها منكرو الصفات بالكلية من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة المعطلة، كما أنكرها الكُلابية ومن وافقهم الذين ينكرون صفات الأفعال الاختيارية، وهذا بناء على ما أصَّلوه في نفي الصفات، بحجة التشبيه والتجسيم.
وقالوا في المحبة: إنها ضعف ولين في القلب، وإنها ميل المحب إلى ما يناسبه، والله تعالى منزه عن ذلك، فالله عزّ وجل عندهم لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ، وأوّلوا نصوص الكتاب والسُّنَّة التي تذكر المحبة بإرجاعها إلى الإرادة؛ فيفسرون المحبة بإرادة الإنعام أو إرادة الرحمة[1]. أو بإرجاعها إلى صفة الكلام فتكون محبة الله لعباده الله هي مدحه إياهم وثناؤهم عليهم[2]، فأوَّلوا المحبة بإرادة الثواب كما هو عند الأشاعرة، أو إلى نفس الثواب المعطى للمحبوب كما هو عند المعتزلة[3].
وهو تأويل باطل، فالمحبة لها حقيقة غير حقيقة الإنعام والرحمة وإن كان بين هذه الصفات دلالات تضمُّن واستلزام.
[1] انظر: فتح القدير للشوكاني (1/333).
[2] انظر: الكشاف للزمخشري (3/229 و6/350).
[3] ينظر: الكشاف للزمخشري (1/680) تفسير قوله تعالى: (يحبهم ويحبونه)، ومفاتيح الغيب للرازي (9/23) تفسير قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير).
أن أهل الحق يثبتون المحبة صفة حقيقية لله عزّ وجل على ما يليق به، فلا تقتضي عندهم نقصًا ولا تشبيهًا، كما يثبتون لازم تلك المحبة، وهي إرادته سبحانه إكرام من يحبه وإثابته[1].
وأما تأويلهم لها بصفة الإرادة أو بالثواب نفسه، فيقال لهم: يلزمكم في إثبات الإرادة نظير ما يلزمكم في إثبات المحبة؛ لأن للمخلوق إرادة، فإثبات الإرادة لله تعالى يستلزم التشبيه على قاعدتكم، وإذا فسَّرتموها بالثواب، فالثواب مخلوق مفعول لا يقوم إلا بخالق فاعل، والفاعل لا بد له من إرادة الفعل، وإثبات الإرادة مستلزم للتشبيه على قاعدتكم.
ثم يقال: إثباتكم إرادة الثواب أو الثواب نفسه مستلزم لمحبة العمل المثاب عليه، ولولا محبة العمل ما أثيب فاعله، فصار تأويلكم مستلزمًا لما نفيتم؛ فإن أثبتموه على الوجه المماثل للمخلوق ففي التمثيل وقعتم، وإن أثبتموه على الوجه المختص بالله واللائق به أصبتم ولزمكم إثبات جميع الصفات على هذا الوجه[2].
[1] شرح الواسطية للهراس (135).
[2] انظر: تقريب التدمرية (27).
1 ـ «بدائع الفوائد»، لابن القيم.
2 ـ «الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين»، للسعدي.
3 ـ «شرح العقيدة الواسطية»، لصالح الفوزان.
4 ـ «قاعدة في المحبة»، لابن تيمية.
5 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
6 ـ «مدارج السالكين»، لابن القيم.
7 ـ «الحجة في بيان المحجة»، لقوام السُّنَّة التيمي.
8 ـ «تقريب التدمرية»، لابن عثيمين.
9 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز.
10 ـ «نقض الدارمي على بشر المريسي».