حرف الميم / المُحَدَّث

           

المُحَدَّث : اسم مفعول من الفِعل الثلاثي المزيد المبني للمجهول (حُدِّث)، من (التحديث)؛ يعني: الكلام. و(الحديث) هو: الخبر، قليلاً كان أو كثيرًا؛ فهو كلامٌ يحدث منه الشيء بعد الشيء، ومنه قولهم: رجل حِدْث نساء؛ إذا كان يتحدَّث إليهنَّ[1].


[1] انظر: الصحاح (1/278) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، ومقاييس اللغة (2/36) [دار الفكر، ط2].


المُحَدَّث : «هو الذي يُحَدَّث في سِرِّه وقلبه بالشيء؛ فيكون كما يُحَدَّث به»[1].


[1] مدارج السالكين (1/39) [دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1393هـ].


سمّي المُحَدَّث بهذا الاسم؛ لأنه يخبر بما يلقى في رُوعه من الحديث؛ فكأن غيره ـ من الملائكة أو الملأ الأعلى ـ حدّثه بشيء فقاله؛ فهو يُكلَّم ويُحَدَّث من غيره.



المُحَدَّث هو: المُلهَم، والمتفرِّس، والمتوسِّم.



التحديث ليس حجة شرعيّة تعارض به نصوص الكتاب والسُّنَّة، أو تبنى عليه الشرائع والأحكام؛ وإنّما هو صالح للاستئناس والاستشهاد به، لا أنّه عمدة وأصل؛ فهو يستدلّ له بالكتاب والسُّنَّة لا به!
فالمُحدَّث ـ وغيره من البشر ممن ليس بنبي ـ ليس معصومًا من الغلط، ولا يجب على المسلم قَبول ما يقوله إن لم يدل عليه الكتاب والسُّنَّة، بل هو لا يجوز له العمل بما يلقى في قلبه إن لم يعرضه على الكتاب والسُّنَّة، فإن وافق ذلك قبله، وإن خالف ذلك رده؛ لأنّه لا يتيقن أنّه من عند الله تعالى، وقد يكون من دسيسة الشّيطان! وهذا كان حال عمر رضي الله عنه؛ فلم يكن يعتبر آراءه حقًّا وصوابًا؛ بل كان يتهم نفسه ولا يبرّئها من الخطأ.
«وبالجملة؛ فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام: أنَّه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه، وما يتقرّب إليه به ـ من فعل وترك ـ إلا عن طريق الوحي. فمن ادّعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربّه عن الرسل وما جاؤوا به، ولو في مسألة واحدة؛ فلا شكّ في زندقته. والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى»[1].


[1] أضواء البيان للشنقيطي (4/204) [دار عالم الفوائد، ط1، 1426هـ].


المُحدَّث : هو الرجل المُلهَم المُخاطَب، الصادق الظنّ، المصيب، الذي ألقي في رُوعه الصّواب والحقّ من قبل الله تعالى أو الملأ الأعلى؛ فيخبر به حدسًا وفراسة ـ ولا يعلم أنَّه من عند الله تعالى ـ فيكون كالذي حدَّثه غيره بشيء فقاله[1].
التَّحديث هو المرتبة الرابعة من مراتب هداية الله تعالى لخلقه ـ بعد: التكليم يقظة بلا واسطة، والوحي، وإرسال الرسول الملكيّ؛ وثلاثتها لا تكون إلا للأنبياء ـ، وهو دون مرتبة الوحي الخاصّ، بل هو إلهام خاص ـ وهو: الوحي لغير الأنبياء ـ، يخص الله به من يشاء من عباده، تفضّلاً وتكرّمًا.
وقد اشتهر به من بين الصحابة رضي الله عنهم الفاروق عمر رضي الله عنه، وعليه نصَّ الحديث؛ فهو أول المُحَدَّثين والمُخاطَبين الملهَمين من هذه الأمّة وسيّدهم وأفضلهم، وخصه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالذِّكر دون غيره؛ لكثرة إصاباته وإلهاماته التي وافق فيها الحق.
وليس هذا خاصًّا بعمر رضي الله عنه؛ فإمكان تحقق ووجود التّحديث والإلهام في غيره وارد ومعروف.


[1] انظر: شرح السُّنَّة للبغوي (14/83) [المكتب الإسلامي، دمشق، 1403هـ]، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/350) [مطبعة عيسى البابي الحلبي]، ومجموع الفتاوى (10/476، 20/46، 24/377)، والجواب الصحيح لمَن بدَّل دين المسيح (2/401) [دار العاصمة، ط1، 1414هـ]، وجامع الرسائل لابن تيمية (2/99) [مطبعة المدني، ط1، 1405هـ]، وإعلام الموقعين (4/142) [دار الجيل، بيروت، 1973م]، وبدائع الفوائد (1/80) [مكتبة نزار الباز، ط1، 1416هـ]، وفتح الباري لابن حجر (7/50) [دار المعرفة، 1379هـ]، وفيض القدير للمناوي (4/507) [دار المعرفة، بيروت، ط2، 1391هـ]، وعقيدة خَتم النُّبوَّة لأحمد بن سعد الغامدي124 [دار طيبة، ط1، 1405هـ].


مرتبة التحديث ذات منزلة عالية، لكنها دون مرتبة الصدّيقيّة؛ فالصِّدِّيق الذي يأخذ من مشكاة النّبوة أكمل وأفضل وأتم مقامًا من المُحَدَّث؛ لأنّه استغنى ـ بكمال صدّيقيته ومتابعته، وكمال مشربه من حوض النّبوة، وتمام رضاعه من ثدي الرّسالة ـ عن التّحديث والإلهام والكشف؛ فالصّدّيق سلّم قلبه وسرّه وظاهره وباطنه للرَّسول المعصوم صلّى الله عليه وسلّم الذي لا يتطرّق إليه الخطأ؛ فاستغنى به عمّا دونه؛ فالذي يتلقّاه من مشكاة النبوّة أتمّ مما يتلقاه غيره من التّحديث!



دلَّ على ثبوت التحديث: ما ثبت في الصحيحين؛ أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم مُحَدَّثون، فإن يك في أمتي أحد فإنّه عمر» ، زاد مسلم: قال ابن وهب [وهو أحد رواة الحديث عنده]: «تفسير مُحَدَّثون: مُلهَمون»[1].
وفي رواية للبخاري: «لقد كان فيمن كان قبلَكم من بني إسرائيل رجال يُكَلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء؛ فإن يكن من أمّتي منهم أحد فعمر»[2].


[1] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3689)، من حديث أبي هريرة، وأخرجه مسلم (كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، رقم 2398)، من حديث عائشة.
[2] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، بعد الحديث رقم 3689).


قال الطحاوي: «معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «محدَّثون» أي: مُلهمون، وكذلك يُحدَّثون؛ أي: يُلهمون حتى تنطق ألسنتهم بالحكمة كما كان لسان عمر رضي الله عنه ينطق بما كان ينطق به منها»[1].
ـ وقال الآجري: «ومعناه ـ أي: حديث الباب ـ عند العلماء ـ والله أعلم ـ: أن الله عزّ وجل يلقي في قلبه الحق، وينطق به لسانه، يلقيه الملك على لسانه وقلبه من الله عزّ وجل خصوصًا خصَّ الله الكريم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما قال علي رضي الله عنه: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر[2]»[3].
وقال ابن تيمية: «يجب على المحدَّث المُلهَم المكاشف من هذه الأمّة أن يزن ذلك بالكتاب والسُّنَّة، فإن وافق ذلك صدَّق ما ورد عليه، وإن خالف لم يلتفت إليه؛ كما كان يجب على عمر رضي الله عنه ـ وهو سيد المحدَّثين ـ إذا ألقي في قلبه شيء وكان مخالفًا للسُّنَّة لم يقبل منه؛ فإنّه ليس معصومًا؛ وإنّما العصمة للنبوّة. ولهذا كان الصّدّيق أفضل من عمر؛ فإنّ الصّدّيق لا يتلقى من قلبه؛ بل من مشكاة النّبوة ـ وهي معصومة ـ، والمحدَّث يتلقّى تارة عن قلبه، وتارة عن النّبوة، فما تلقاه عن النّبوة فهو معصوم يجب اتّباعه، وما ألهم في قلبه: فإن وافق ما جاءت به النّبوة فهو حق، وإن خالف ذلك فهو باطل»[4].


[1] شرح مشكل الآثار (4/339) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1415هـ].
[2] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (جامع معمر، رقم 20380)، وعبد الله بن أحمد في السُّنَّة (2/582) [دار ابن القيم، ط1] وغيرهما.
[3] الشريعة للآجري (4/1891) [دار الوطن، ط2، 1420هـ].
[4] مجموع الفتاوى (24/377)، بتصرُّفٍ يسيرٍ.


المسألة الأولى: زيادة: (ولا مُحَدَّث) بعد (ولا نبيّ) في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ} في قراءة ابن عباس رضي الله عنهما:
روى إسحاق بن راهويه في مسنده وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أنَّه كان يقرأ قولَه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *} [الحج] بزيادة: (ولا مُحَدَّث) بعد (ولا نبيّ)[1]. والآية ـ على هذه القراءة ـ مشكلة؛ إذ معناها: أنّ المُحَدَّث مرسل من عند الله تعالى أو يوحى إليه!
والجواب : «هذه القراءة ليست متواترة ولا معلومة الصحة، ولا يجوز الاحتجاج بها في أصول الدين. وإن كانت صحيحة؛ فالمعنى: أنّ المُحَدَّث كان فيمن كان قبلنا وكانوا يحتاجون إليه، وكان ينسخ ما يلقيه الشيطان إليه كذلك، وأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لا تحتاج إلى غير محمد صلّى الله عليه وسلّم»[2].
المسألة الثانية: كون عمر بن الخطاب رضي الله عنه محدَّثًا:
تقدم أن التحديث: إلهام خاص، يخص الله به من يشاء من عباده، تفضلاً وتكرمًا.
وقد اشتهر به من بين الصحابة رضي الله عنهم الفاروق عمر رضي الله عنه، وعليه نصَّ الحديث الذي أخرجه الشيخان في «صحيحيهما» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم مُحَدَّثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر»[3] ؛ قال الحميدي معقِّبًا على هذا الحديث: «المُلْهَم للصواب. تفرد بهذه الفضيلة عمر، لم يشركه فيها غيره» [4]، فهو أول المُحَدَّثين والمُخاطَبين الملهَمين من هذه الأمة وسيدهم وأفضلهم، وخصَّه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالذكر دون غيره؛ لكثرة إصاباته وإلهاماته التي وافق فيها الحق.
المسألة الثالثة: التزام المحدَّث بشريعة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعدم الخروج عليها:
لا يسع أحدًا ـ مهما كان حاله ومنزلته ـ الخروج عن شريعة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأحكام الدين، ولا أن يعارضها بكشف أو تحديث أو إلهام، أو يبني على ذلك شرائع أو أحكامًا؛ فرأيه يستدل له لا به؛ إذ «غير المعصوم لا ثقة بخواطره؛ لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان! وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات»[5].
فجميع المكلفين مأمورون بوزن أقوالهم وأعمالهم واعتقاداتهم بالكتاب والسُّنَّة، بما فيهم المُحَدَّث المُلهم عمر رضي الله عنه؛ فما وافقها قُبل وعمل به، وإلا رُدَّ ولم يلتفت إليه، فكيف بمن دون عمر!؟
فالواجب «على جميع الخلق: اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم وطاعته في جميع أموره الباطنة والظاهرة، ولو كان أحد يأتيه من الله ما لا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسُّنَّة؛ لكان مستغنيًا عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم في بعض دِينه! وهذا من أقوال المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم كالخضر مع موسى، ومن قال هذا فهو كافر، وقد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *} [الحج] ؛ فقد ضمن الله للرسول والنبي أن ينسخ ما يلقي الشيطان في أمنيته ولم يضمن ذلك للمُحَدَّث»[6].
المسألة الرابعة: كثرة المحدثين في الأمم السابقة، وقلَّتهم في هذه الأمة:
يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم مُحَدَّثون، فإن يك في أمتي أحد فإنّه عمر»[7] ؛ فالنبي صلّى الله عليه وسلّم جزم بوجود المحدَّثين في الأمم السابقة، وتعليقه وجودهم في أمته بحرف الشرط (إن) يدل على كمال أمته على من قبلهم ـ لا نقصانها ـ باستغنائها بالوحي عن التَّحديث، وأنّها أفضل الأمم؛ «فإنّها لكمالها وكمال نبيّها صلّى الله عليه وسلّم وكمال شريعته لا تحتاج الى مُحدَّث؛ بل إن وجد فهو صالح للمتابعة والاستشهاد، لا أنَّه عمدة؛ لأنها في غنية ـ بما بعث الله تعالى به نبيّها صلّى الله عليه وسلّم ـ عن كل منام أو مكاشفة أو إلهام أو تحديث! وأما من قبلها فللحاجة إلى ذلك جعل فيهم المُحدَّثون. وهذا دالٌّ على أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكمل خلقه، وأكملهم شريعة، وأنّ أمته أكمل الأمم»[8].


[1] أخرجه البخاري معلَّقًا مجزومًا (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، 3/16) [المكتبة السلفية، القاهرة، ط1، 1400هـ]، ووصلَه: إسحاقُ بن راهويه في مسنده (2/480) [مكتبة الإيمان بالمدينة المنوَّرة، ط1، 1412هـ]، والطحاويُّ في شرح مشكل الآثار (4/341) [مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1415هـ]، من حديث عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما، وصحَّح الحافظ ابن حجر إسنادَه إلى ابن عباس رضي الله عنهما في الفتح (7/51) [دار المعرفة].
[2] شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيميَّة (159). وانظر: شرح مشكل الآثار (4/342)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/80)، وعقيدة خَتم النُّبوَّة للغامدي (130).
[3] سبق تخريجه.
[4] أخرجه ابن شاهين في شرح مذاهب أهل السُّنَّة (98) [مؤسسة قرطبة، ط1، 1415هـ].
[5] أضواء البيان للشنقيطي (4/204).
[6] المرجع السابق (11/65).
[7] تقدم تخريجه.
[8] مفتاح دار السَّعادة (2/182)، بتصرُّف. وانظر: مدارج السالكين (1/39)، ومجموع الفتاوى (17/46)، والجواب الصحيح (2/382)، والصَّفديَّة (1/259)، وشرح العقيدة الأصفهانية (159)، وفتح الباري لابن حجر (7/50).


الفرق بين النبيّ والمُحَدَّث[1]:
النبي : يوحى إليه بوحي يعلم يقينًا أنّه وحي من عند الله تعالى؛ فلا يحتاج إلى عرضه على وحي سابق لبيان صحته. وهو معصوم من الخطأ في التبليغ عن الله عزّ وجل، وإن أخطأ ـ برأيه واجتهاده ـ نزل عليه الوحي بالحق والصواب.
أما المُحَدَّث : فهو المُلْهَم المُخَاطَب، الذي يُحَدَّث في سره وقلبه بالشيء؛ فيكون كما يُحَدَّث به، ولا يعلم أنه من عند الله تعالى.
ـ الفرق بين التَّحديث والإلهام:
يشترك التَّحديث والإلهام في أنّ كلًّا منهما موهبة مجردة لا تنال بكسب ألبتة. ويفترقان في أنّ الإلهام أعم من التَّحديث؛ فهو عام للمؤمنين بحسب إيمانهم؛ فكل مؤمن قد ألهمه الله رشده الذي حصل به الإيمان. أمّا التحديث فهو إلهام خاص لا يكون لكلّ أحد. فبين الإلهام والتَّحديث عموم وخصوص؛ فكل تحديث هو إلهام، من غير عكس[2].


[1] انظر: عقيدة خَتم النُّبوَّة للغامدي (124).
[2] انظر: مدارج السالكين (1/44).


من أبرز الثمرات المترتبة على منزلة التَّحديث في الشَّرع ومدى حجيتها، وتفضيل مرتبة الصّديقية عليها: أنَّه على قدر متابعة العبد للكتاب والسُّنَّة يكون قدر الولاية لله؛ فكلّما كان الولي أعظم اختصاصًا بالرسول وأخذًا عنه وموافقة له كان أفضل؛ إذ الولي لا يكون وليًّا لله إلا بمتابعة الرسول باطنًا وظاهرًا[1]؛ ولذا كان الصّديق أفضل وأكمل وأتم مقامًا من المُحَدَّث.
ومن الثمرات أيضًا: أنّ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم مُحدَّثون، فإن يك في أمتي أحد فإنّه عمر» [2]، وجزمه بوجود المحدَّثين في الأمم السابقة، وتعليقه وجودهم في أمته بحرف الشرط (إن)؛ يدل على: كمال أمته على من قبلهم ـ لا نقصانها ـ باستغنائها بالوحي عن التَّحديث، وأنها أفضَل الأمم؛ «فإنها لكمالها وكمال نبيّها صلّى الله عليه وسلّم وكمال شريعته لا تحتاج الى مُحَدَّث؛ بل إن وجد فهو صالح للمتابعة والاستشهاد، لا أنه عمدة؛ لأنها في غنية ـ بما بعث الله تعالى به نبيها صلّى الله عليه وسلّم ـ عن كل منام أو مكاشفة أو إلهام أو تحديث! وأما من قبلها فللحاجة إلى ذلك جعل فيهم المحدَّثون. وهذا دالٌّ على أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكمل خلقه، وأكملهم شريعة، وأنّ أمته أكمل الأمم»[3].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (2/225).
[2] سبق تخريجه.
[3] مفتاح دار السعادة لابن القيم (2/182)، بتصرّف. وانظر: مدارج السالكين له (1/39)، ومجموع الفتاوى (17/46)، والجواب الصحيح (2/382)، والصّفدية (1/259)، وشرح العقيدة الأصفهانية كلها لابن تيمية (159)، وفتح الباري لابن حجر (7/50).


سبق تقرير أنَّ التحديث والإلهام ليس حجة شرعية تعارض به نصوص الكتاب والسُّنَّة، أو تبنى عليه الشرائع والأحكام، وقد خالف في ذلك بعض الطوائف ـ كالصوفية والاتحادية منهم وغيرهم ـ؛ فارتقوا بالإلهام والكشف والذوق وجعلوها حجّة تجاوزوا بها حدود الشرع، وخرجوا بها عن أحكام الدين! فحكّموا خواطرهم وهواجسهم وقدَّموها على الكتاب والسُّنَّة، وجعلوها معصومة من الخطأ والضلال، وأطلقوا عليها اسم: العلم اللّدنِّي! وهذا من تلبيس إبليس وكيده بهم! فترى قائلهم يقول: «حدثني قلبي عن ربّي»، و«نحن أخذنا عن الحي الذي لا يموت، وأنتم أخذتم عن الوسائط»، و«أنتم تأخذون علمكم ميتًا عن ميت»، و«نحن أخذنا بالحقائق وأنتم اتبعتم الرسوم»[1]!
«ومن ظن أنه يستغني عما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم بما يلقى في قلبه من الخواطر والهواجس؛ فهو من أعظم الناس كفرًا، وكذلك إن ظن أنّه يكتفى بهذا تارة وبهذا تارة.
فما يلقى في القلوب لا عبرة به ولا التفات إليه إن لم يعرض على ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ويشهد له بالموافقة؛ وإلا فهو من إلقاء النفس والشَّيطان»[2].
وقد ارتقى بعض غلاة الشيعة بالإلهام والتحديث فجعلوه بمنزلة الوحي؛ فأثبتوه لأئمّتهم بدعوَى نزول الوحي عليهم[3]! وهذا خروج عن عقيدة ختم النّبوة ـ المتواترة تواترًا قطعيًا، والمعلومة من دين الإسلام بالضرورة ـ، وفهم باطل فاسد للتَّحديث ومدى حجّيته في الشرع! وفيما تقدم كفاية في الرّد عليهم.


[1] انظر مثلاً: الفتوحات المكيَّة لابن عربي (1/365)، والجواهر والدّرر للشعراني (268) [بهامش الإبريز، طبعة محمد علي صبيح وأولاده، مصر]، وفيض القدير للمناوي (5/401) [دار المعرفة ببيروت، ط2، 1391هـ].
[2] إغاثة اللهفان (1/123) [دار المعرفة، بيروت، ط2، 1395هـ]. وانظر: تلبيس إبليس (285، 329، 330) [دار الفكر، ط1، 1421هـ]، ومجموع الفتاوى (13/218)، وفتح الباري لابن حجر (11/345).
[3] انظر: أصول الكافي للكليني (1/176، 271) [دار الكتب الإسلامية، طهران، ط3، 1388هـ]، وبحار الأنوار للمجلسي (26/68، 73) [دار إحياء التراث، ط3، 1403هـ]، وبصائر الدَّرجات الكبرى للصَّفَّار (93) [المختصر، طبعة النجف، 1370هـ]. ولمزيد من التفصيل راجع: أصول مذهب الشيعة للقفاري (1/310).


1 ـ «بغية المرتاد»، لابن تيمية.
2 ـ «الجواب الصحيح» (ج2)، لابن تيمية.
3 ـ «شرح العقيدة الأصفهانية»، لابن تيمية.
4 ـ «الصفدية» (ج1)، لابن تيمية.
5 ـ «عقيدة ختم النّبوة»، لأحمد الغامدي.
6 ـ «فتح الباري» (ج7)، لابن حجر.
7 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
8 ـ «مدارج السالكين» (ج1)، لابن القيم.
9 ـ «مفتاح دار السعادة» (ج2)، لابن القيم.
10 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية» (ج6)، لابن تيمية.