حرف الميم / محمد صلّى الله عليه وسلّم

           

هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان[1].
ونسب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى عدنان على هذه الكيفية متفق عليه بين جميع أهل السير والأنساب[2]، قال ابن الجوزي: «ولا يختلف النسابون إلى عدنان»[3].
وقال ابن كثير بعد أن سرد نسب النبي صلّى الله عليه وسلّم على مثل ما تقدم: «وهذا النسب بهذه الصفة، لا خلاف فيه بين العلماء، فجميع قبائل عرب الحجاز ينتهون إلى هذا النسب؛ ولذا ذكر ابن عباس وغيره في قوله تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ *} [الشورى] : لم يكن بطن من بطون قريش إلا ولرسول الله صلّى الله عليه وسلّم نسب يتصل بهم[4]، وصدق ابن عباس رضي الله عنهما»[5].
وأما ما فوق عدنان من النسب فمختلف فيهم؛ في أسمائهم وعددهم، مع اتفاق الجميع على أن عدنان من صريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام[6].
وقد حفظ الله نسب نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فجعله من خير الناس نسبًا، وأزكاهم نسلاً، وأطهرهم عرقًا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بُعثت من خير قرون بني آدم قرنًا فقرنًا، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه» [7]، وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»[8].


[1] ذكره البخاري في صحيحه فقال: «باب مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم» فسرده في الترجمة دون إسناد. انظر: صحيح البخاري (كتاب مناقب الأنصار، باب مبعث النبي...) وابن هشام في السيرة (1/1، 2) [مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط2، 1375هـ]، والطبقات لخليفة بن خياط (3) [دار طيبة، الرياض، ط2، 1402هـ] والبيهقي في دلائل النبوة (2/179) [دار الكتب العلمية، ودار الريان للتراث، ط1، 1408هـ]، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم (2/195) [دار الكتب العلمية، ط1، 1412هـ]
[2] انظر: الرحيق المختوم للمباركفوري (39) [دار الهلال، بيروت، ط1]، والسيرة النبوية الصحيحة لأكرم ضياء العمري (1/90) [مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط6، 1415هـ].
[3] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (2/195).
[4] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4818).
[5] البداية والنهاية (3/360) [دار هجر، ط1]. وانظر: صحيح السيرة النبوية للألباني (9، 10) [المكتبة الإسلامية، عمّان، ط1، 1421هـ].
[6] انظر: الرحيق المختوم (39).
[7] أخرجه البخاري (كتاب المناقب، رقم 3557).
[8] أخرجه مسلم (كتاب الفضائل، رقم 2276).


ـ من أسمائه:
أ ـ محمد، ولفظ (محمد) اسم مفعول، من (حمد) فهو محمَّد؛ لكثرة نعوته التي يمدح بها. قال ابن فارس: «الحاء والميم والدال كلمة واحدة وأصل واحد يدل على خلاف الذم. يقال: حمدت فلانًا أحمده. ورجل محمود ومحمَّد؛ إذا كثرت خصاله المحمودة غير المذمومة»[1].
وقال ابن القيم: «أما محمد، فهو اسم مفعول من (حمد) فهو محمد؛ إذا كان كثير الخصال التي يحمد عليها، ولذلك كان أبلغ من (محمود)، فإن (محمودًا) من الثلاثي المجرد، و(محمد) من المضاعف؛ للمبالغة، فهو الذي يُحمد أكثر مما يُحمد غيره من البشر، ولهذا ـ والله أعلم ـ سمي به في التوراة؛ لكثرة الخصال المحمودة التي وصف بها، هو ودينه وأمته في التوراة»[2].
ب ـ أحمد، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَم يابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] ، ومن السُّنَّة الحديثان الآتيان عن جبير بن مطعم وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما.
ج ـ الماحي.
د ـ الحاشر.
هـ العاقب.
وهذه الأسماء الثلاثة فسَّرها النبي صلّى الله عليه وسلّم كما في حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن لي أسماءً: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد»[3].
هـ المقفي.
و ـ نبي التوبة.
ز ـ نبي الرحمة.
يدل عليها ما ثبت من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ أنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسمي لنا نفسه أسماءً، فقال: «أنا محمد، وأحمد، والمقفِّي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة»[4].
والمقفِّي : هو المبعوث آخر الأنبياء وخاتمهم[5].
ح ـ الرؤوف.
ط ـ الرحيم.
ويدل عليهما قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *} [التوبة] .
ـ ومن ألقابه وأوصافه:
أ ـ الشاهد.
ب ـ المبشر.
ج ـ النذير.
د ـ السراج.
هـ المنير.
يدل عليها قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا *} [الأحزاب] . قال ابن كثير: «وقوله: {وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *}؛ أي: بشيرًا للمؤمنين بجزيل الثواب، ونذيرًا للكافرين من وبيل العقاب. وقوله: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ}؛ أي: داعيًا للخلق إلى عبادة ربهم عن أمره لك بذلك. {وَسِرَاجًا مُنِيرًا *}؛ أي: وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق؛ كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يجحدها إلا معاند»[6]. وقد جاء في تفسير هذه الآية عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *} [الأحزاب] وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكّل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينًا عميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غلفًا»[7].


[1] مقاييس اللغة (2/100) [دار الفكر 1399هـ]. وانظر: تهذيب اللغة (4/252) [دار إحياء التراث العربي، بيروت ط1]، والقاموس المحيط (278) [مؤسسة الرسالة، ط8، 1426هـ].
[2] زاد المعاد في هدي خير العباد (1/87).
[3] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4896)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2354).
[4] أخرجه مسلم (كتاب الفضائل، رقم 2355).
[5] انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (1/232) [دار الفكر، 1409هـ].
[6] تفسير ابن كثير (6/439).
[7] أخرجه البخاري (كتاب البيوع، رقم 2125).


أ ـ مولده:
ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يوم الاثنين؛ لما ثبت من حديث أبي قتادة الطويل، وفيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سئل عن صوم يوم الإثنين، قال: «فيه وُلدت، وفيه أنزل عليّ»[1].
في عام الفيل؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «ولد النبي صلّى الله عليه وسلّم عام الفيل»[2].
وجاء نحوه من حديث قيس بن مخرمة، قال: «ولدت أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفيل، كنا لِدَين»[3]. وهو المجمع عليه كما يقول خليفة بن خياط[4]، وقال ابن القيم: «لا خلاف أنه ولد صلّى الله عليه وسلّم بجوف مكة، وأن مولده كان عام الفيل»[5].
واختلف في تاريخ يوم الولادة وشهره على عدة أقوال[6]، ولعل الراجح هو اليوم الثامن من ربيع الأول. قال الألباني معلّقًا على هذه الأقوال المختلفة في تحديد تاريخ يوم الولادة وشهره: «وأما تاريخ يوم الولادة فقد ذكر فيه وفي شهره أقوال ذكرها ابن كثير في الأصل، وكلها معلقة ـ بدون أسانيد ـ يمكن النظر فيها ووزنها بميزان علم مصطلح الحديث، إلا قول من قال: إنه في الثامن من ربيع الأول، فإنه رواه مالك[7] وغيره بالسند الصحيح، عن محمد بن جبير بن مطعم، وهو تابعي جليل، ولعله لذلك صحح هذا القول أصحاب التاريخ واعتمدوه، وقطع به الحافظ الكبير محمد بن موسى الخوارزمي، ورجحه أبو الخطاب بن دحية، والجمهور على أنه في الثاني عشر منه والله أعلم»[8].
وذكر بعض الفلكيين أنهم توصلوا إلى أن تاريخ يوم ولادته صلّى الله عليه وسلّم هو اليوم التاسع من ربيع الأول؛ اعتمادًا على علم الفلك، وذلك عن طريق تحويل السنين الرومية إلى الأيام، ثم تحويل الأيام إلى سنين قمرية، فينتج عنه ذاك التاريخ[9].
وأشار ابن عثيمين إلى صنيع بعض الفلكيين هذا في أثناء ردِّه على أصحاب المولد بقوله: «وقد حقق بعض الفلكيين المتأخرين ذلك، فكان في اليوم التاسع، لا في اليوم الثاني عشر»[10].
وعلى كلٍّ فالقول المستند إلى الرواية والسند أقرب للصواب من غيره فيما يبدو، والله أعلم.
ب ـ نشأته:
ولد النبي صلّى الله عليه وسلّم يتيم الأب؛ فقد توفي والده عبد الله وهو في بطن أمه، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى *} [الضحى] ، وكانت قابِلته الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف، وكانت حاضنته أم أيمن بركة الحبشية، وممن أرضعته ثويبة أَمَة عمه أبي لهب، كما ثبت من حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما؛ أنها قالت: «يا رسول الله انكح أختي بنت أبي سفيان، فقال: أوتحبين ذلك؟ فقلت: نعم لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن ذلك لا يحل لي ، قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال: بنت أم سلمة؟ قلت: نعم، فقال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي؛ إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبةُ، فلا تعرضْنَ علي بناتكنَّ ولا أخواتكنّ »[11].
ثم أخذته حليمة السعدية لترضعه، فانتقلت به إلى بادية بني سعد، ومكث هناك أربع سنين، ثم أرجعته إلى أهله. فواصل نشأته تحت رعاية أمه وكفالة جده عبد المطلب، ثم عمه أبي طالب، ولما بلغ عمره صلّى الله عليه وسلّم ست سنين توفيت والدته بالأبواء، في أثناء عودتها من زيارتها لأخوال أبيه بالمدينة، فأتت به حاضنته أم أيمن إلى جده عبد المطلب بمكة، وأخذ يحوطه بعنايته إلى أن توفي، وللنبي ثمان سنين، فأوصى به عمه أبا طالب، فأخذه أبو طالب، وأحاطه برعايته، وكان يحبه ويدنيه منه ويخصه ببعض الأمور، وقد حفظ الله نبيّه من أقذار الجاهلية، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خُلُقًا، وأعظمهم حلمًا وأمانة، وأصدقهم حديثًا، وأبعدهم من الفحش والأخلاق المدنسة للرجال. ولما بلغ الأربعين بعثه الله تعالى نبيًّا رسولاً، فصدع بأمر ربه. ولما أراد المشركون النيل منه وقف عمه سدًّا منيعًا أمامهم، ولم ينالوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئًا في حياة عمه أبي طالب، وكان يحوطه إلى أن توفي قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين[12].
نبوته:
ذكر الله نبوته ورسالته في غير آية من كتابه الكريم، قال الله عزّ وجل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا *} [الأحزاب] ، وقال الله سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] ، وقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ *} [المنافقون] ، وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ *} [التوبة] .
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثلي ومثل ما بعثني الله كمثل رجل أتى قومًا فقال: رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعته طائفة فأدلجوا على مهلهم فنجوا، وكذبته طائفة فصبَّحهم الجيش فاجتاحهم»[13].
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أُعطيت خمسًا لم يُعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأُحلت لي الغنائم، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة»[14].


[1] أخرجه مسلم (كتاب الصيام، رقم 1162).
[2] أخرجه البزار في مسنده (11/64) [مكتبة العلوم والحكم، ط1]، والطحاوي في مشكل الآثار (15/216) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم في المستدرك (كتاب تواريخ المتقدمين، رقم 4180) وصححه، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 3152).
[3] أخرجه ابن إسحاق في السيرة (48) [دار الفكر، ط1]، ومن طريقه الترمذي (أبواب المناقب، رقم 3619) وحسنه، وأحمد (29/422) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب معرفة الصحابة، رقم 5919)، وضعف سنده الألباني، لكن حسَّنه بشاهده السابق. انظر: السلسلة الصحيحة (رقم 3152). وقوله: «كنا لدين»؛ أي: مولودين في وقت واحد. انظر: الصحاح (2/554) [دار العلم للملايين].
[4] تاريخ خليفة بن خياط (53) [دار القلم، ومؤسسة الرسالة، ط2]. وانظر: صحيح السيرة للألباني (13).
[5] زاد المعاد (1/76). وانظر: البداية والنهاية (3/377).
[6] ينظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (2/245 ـ 247)، والبداية والنهاية (3/374 ـ 380).
[7] كما في السيرة لابن كثير (199) [دار المعرفة].
[8] صحيح السيرة النبوية للألباني (13).
[9] انظر: تقويم الأزمان، بواسطة كتاب: ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية لمحمد العوشن (8) [دار طيبة]، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية لرزق الله (109، 110) [مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ط1، 1412هـ].
[10] القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين (2/382) [دار ابن الجوزي، ط2، 1424هـ].
[11] أخرجه البخاري (كتاب النكاح، رقم 5107)، ومسلم (كتاب الرضاع، رقم 1449).
[12] انظر: سيرة ابن هشام (1/158 ـ 169، و179)، والدلائل للبيهقي (1/55 ـ 58)، وزاد المعاد (1/82)، وتاريخ الإسلام للذهبي (1/483، و495 ـ 497) [دار الغرب الإسلامي، ط1]، والبداية والنهاية (3/444) وما بعدها، والسيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/93 ـ 103)، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية لمهدي رزق الله (109 ـ 115).
[13] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6482)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2283).
[14] أخرجه البخاري (كتاب الصلاة، رقم 438)، ومسلم (كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم 521).


دلائل نبوة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم كثيرة، منها:
أ ـ القرآن الكريم : حجة الله الخالدة على خلقه، الذي أعجز البلغاء والشعراء الفصحاء من العرب الأقحاح عن الإتيان بمثله؛ بل عن الإتيان بعشر سور من مثله مفتريات؛ بل تحداهم الله أن يأتوا بسورة واحدة، فانقطعوا عاجزين، ووقفوا مُفحَمين مبهَتين، قال الله عزّ وجل: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا *} [الإسراء] ، وقال الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [هود] ، وقال سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *} [البقرة] .
ب ـ انشقاق القمر : طلب المشركون من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم آية تدلهم على صدقه في دعوته؛ ليؤمنوا به، فأراهم انشقاق القمر نصفين، قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ *} [القمر] . وعن أنس رضي الله عنه: «أن أهل مكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما»[1].
ج ـ حماية جنود الله له : فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فَجِئَهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا»»[2].
د ـ حنين جذع النخل له صلّى الله عليه وسلّم : كما جاء من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أنه قال: «كان المسجد مسقوفًا على جذوع من نخل، فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر وكان عليه، فسمعنا لذلك الجذع صوتًا كصوت العشار، حتى جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فوضع يده عليها فسكنت»[3].
هـ اهتزاز جبل أُحد له ولمن معه : فقد ثبت من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صعد أُحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم، فقال: «اثبت أُحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان»[4].
و ـ نبع الماء من بين أصابعه الشريفة : كما ثبت من حديث أنس رضي الله عنه قال: «أتي النبي صلّى الله عليه وسلّم بإناء وهو بالزوراء، فوضع يده في الإناء، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم، قال قتادة: قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاث مائة أو زهاء ثلاث مائة»[5].
وعنه رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحانت صلاة العصر، فالتمس الوضوء فلم يجدوه، فأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوضوء، فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده في ذلك الإناء، فأمر الناس أن يتوضؤوا منه، فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم»[6].
ز ـ تكثير الطعام القليل : فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضعيفًا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم، فأخرجت أقراصًا من شعير ثم أخرجت خمارًا لها فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت يدي ولاثتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «آرسلك أبو طلحة؟» فقلت: نعم، قال: «بطعام؟» ، فقلت: نعم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمن معه: «قوموا» ، فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هلمي يا أم سليم ما عندك» ، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ففتَّ وعصرت أم سليم عكة فأدمته، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه ما شاء الله أن يقول، ثم قال: «ائذن لعشرة» ، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: «ائذن لعشرة» ، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: «ائذن لعشرة» ، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: «ائذن لعشرة» ، فأكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً»[7].


[1] أخرجه البخاري (كتاب مناقب الأنصار، رقم 3868)، ومسلم (كتاب صفة القيامة والجنة والنار، رقم 2802).
[2] أخرجه مسلم (كتاب صفة القيامة والجنة والنار، رقم 2797).
[3] أخرجه البخاري (كتاب المناقب، رقم 3585).
[4] أخرجه البخاري (كتاب فضائل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم 3675).
[5] أخرجه البخاري (كتاب المناقب، رقم 3572)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2279).
[6] أخرجه البخاري (كتاب المناقب، رقم 3573)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2279).
[7] أخرجه البخاري (كتاب المناقب، رقم 3578)، ومسلم (كتاب الأشربة، رقم 2040).


هو القرآن الكريم، كما قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] ، وقال سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ *} [يوسف] ، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ *} [النمل] ، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً *} [الإنسان] .
وجاء من حديث المقدام بن معدي كرب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه...»[1].


[1] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4604)، والترمذي (أبواب العلم، رقم 2664) وحسنه، وأحمد (28/410) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 2643).


الكتاب : كما في هذا الحديث، وفي قوله تعالى أيضًا: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء: 105] .
والفرقان : كما في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا *} [الفرقان] .
وكان نزوله في شهر رمضان، كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] ، في اليوم الرابع والعشرين منه، فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان»[1].


[1] أخرجه أحمد (28/191) [مؤسسة الرسالة، ط2]، والطبراني في المعجم الأوسط (4/111) [دار الحرمين، القاهرة، 1415هـ]، وقال الهيثمي في المجمع (1/197) [مكتبة القدسي]: (فيه عمران بن داور القطان، ضعفه يحيى، ووثقه ابن حبان، وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث، وبقية رجاله ثقات)، وحسَّنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/104، رقم 1575) [مكتبة المعارف، ط1].


لقد أرسل الله نبيَّه محمدًا بأمرين اثنين؛ هما: العلم النافع والعمل الصالح، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ *} [التوبة] ، فالهدى: العلم النافع، ودين الحق: العمل الصالح، لذا النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا أمته إلى توحيد الله وإخلاص الدين له، ونبذ الشرك بشتى أنواعه، وإلى تقوى الله والبر وصلة الأرحام، وغير ذلك مما جاء في شريعة الإسلام، قال عزّ وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [يوسف] . قال ابن كثير في تفسيرها: «يقول الله تعالى لعبد ورسوله إلى الثقلين؛ الإنس والجن، آمرًا له أن يخبر الناس: أن هذه سبيله؛ أي: طريقه ومسلكه وسُنَّته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك، ويقين وبرهان، هو وكل من اتبعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بصيرة ويقين وبرهان شرعي وعقلي»[1].
ومما يبين هذا إجابة أبي سفيان لما سأله هرقل عن دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة»[2].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتّقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب»[3].


[1] تفسير ابن كثير (4/422).
[2] أخرجه البخاري (باب بدء الوحي، رقم 7)، ومسلم (كتاب الجهاد والسير، رقم 1773).
[3] أخرجه البخاري (كتاب الزكاة، رقم 1496)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 19).


قومه هم أهل مكة من قريش وغيرهم، لما جاءهم من عند الله كفر به كثير منهم ونسبوه إلى السحر ورموه بالكذب، كما قال الله تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ *أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ *} [ص] ، وقال تعالى: {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ *} [الحجر] ، واشترطوا للإيمان به شروطًا تعجيزية كما حكاه الله عنهم بقوله: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا *أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا *أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً *أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِّيِكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً *} [الإسراء] ، وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *} [يونس] .
وكفروا بالقرآن الكريم، وزعموا أنه أساطير الأولين اكتتبها محمد صلّى الله عليه وسلّم، كما حكاه الله عنهم بقوله: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً *} [الفرقان] .
ومنعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم من تبليغ دين الله للناس، وضيقوا عليه بعد وفاة عمه أبي طالب، وأخذ يعرض نفسه الشريفة على الناس في المواسم، كما جاء من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرض نفسه على الناس فى الموقف فقال: «ألا رجل يحملني إلى قومه؛ فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي»[1].
وقد بيَّن الله بطلان جميع ادعاءاتهم، وأن هؤلاء الكفار ضارعوا الكفار الأولين في هذه الافتراءات، فقال تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا *} [الفرقان] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ *لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ *مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ *} [فصلت] ، وقال الله سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ *لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ *ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ *فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ *وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ *وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ *وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ *وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ *فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ *} [الحاقة] .
وبعد صبر النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، دخل الناس في دين الله أفواجًا.


[1] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4734)، والترمذي (أبواب فضائل القرآن، رقم 2925) وقال: «حديث حسن صحيح»، وابن ماجه (المقدمة، رقم 201)، وأحمد (23/370) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والدارمي (كتاب فضائل القرآن، رقم 3397)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 1947).


توفي النبي صلّى الله عليه وسلّم في العام الحادي عشر، يوم الاثنين دون خلاف[1]، في الثاني عشر من ربيع الأول على المشهور من أقوال أهل العلم[2]، قال ابن خياط: «توفي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة يوم الاثنين، لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، ويقال: لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأول، سنة إحدى عشرة»[3].


[1] انظر: فتح الباري لابن حجر (8/129).
[2] انظر: فتح الباري لابن حجر (8/129)، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية لمهدي رزق الله (687)، والسيرة النبوية الصحيحة للعمري (2/553).
[3] طبقات ابن خياط (3).


المسألة الأولى: حادثة شق صدره صلّى الله عليه وسلّم:
وقعت للنبي صلّى الله عليه وسلّم حادثة شق الصدر مرتين:
الأولى: وقعت له وهو صغير، وهي أنه صلّى الله عليه وسلّم جاءه جبريل، فشق صدره واستخرج منه علقة سوداء، وقال: إنها حظ الشيطان منه، ثم غسله بماء زمزم، ولأَمَه[1] كما كان، فقد ثبت من حديث أنس بن مالك: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعني: ظئره ـ فقالوا: إن محمدًا قد قُتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره»[2]، وكانت هذه الأولى من باب التخلية.
الثانية: وقعت له ليلة الإسراء والمعراج، وكانت هذه من باب التحلية، يدل عليها حديث مالك بن صعصعة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلاً يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت فانطلق بي، فأُتيت بطست من ذهب فيها من ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا ـ قال قتادة: فقلت للذي معي: ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطنه ـ فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حُشي إيمانًا وحكمة، ثم أتيت بدابة أبيض يقال له: البراق، فوق الحمار ودون البغل...»[3].
وهذان الحديثان وما في معناهما يدلان على وقوع حادثة شق صدر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويفهم منهما وقوع ذلك مرتين، خلافًا لمن توهم وجود التعارض بين الحديثين، كما أفاده ابن كثير بقوله: «ولا منافاة؛ لاحتمال وقوع ذلك مرتين؛ مرة وهو صغير، ومرة ليلة الإسراء؛ ليتأهب للوفود إلى الملأ الأعلى، ولمناجاة الرب، والمثول بين يديه تبارك وتعالى »[4].
المسألة الثانية: فيما يتعلق بأبوي النبي صلّى الله عليه وسلّم:
توفي والدا النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل الإسلام، أما والده عبد الله فقد توفي والنبي صلّى الله عليه وسلّم في بطن أمه، وأما والدته فقد توفيت وهو في السنة السادسة من عمره، لذا هما لم يدركا الإسلام، ولكن أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم عن حالهما في بعض الأحاديث، منها ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: «في النار» ، فلما قفى دعاه فقال: «إن أبي وأباك في النار»[5].
قال النووي: «فيه: أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين... وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أبي وأباك في النار» هو من حسن العشرة للتسلية بالاشتراك في المصيبة»[6].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي» [7].
المسألة الثالثة: حكم سب النبي صلّى الله عليه وسلّم:
ويمكن إيضاحها من ثلاث جهات:
الجهة الأولى: فيما يتعلق بالحكم عليه.
الجهة الثانية: فيما يتعلق بعقوبته وحده.
الجهة الثالثة: في حكمه إذا تاب.
أما الجهة الأولى: فمعلوم «أن كل ساب وشاتم فمستخف بالمشتوم مستهزئ به، فالاستخفاف والاستهزاء شيء واحد»[8]. فمن «سبَّه أو تنقَّصه صلّى الله عليه وسلّم فقد ظهرت علامة مرض قلبه وبرهان سر طويته وكفره»[9]؛ لقول الله تعالى: {...قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ *} [التوبة] ، وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِيناً *} [الأحزاب] . فبيّن الله تعالى أن من فعل ذلك فهو كافر ملعون في الدنيا والآخرة، ومتوعد بأليم العذاب وشديد العقاب، وعليه فهذه النصوص وما في معناها تدل على كفر ساب النبي صلّى الله عليه وسلّم من غير مرية، وعلى هذا فقهاء الملة، وعلماء الأمة وسائر أهل السُّنَّة القائلين بأن الإيمان قول وعمل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن سبَّ الله أو سبَّ رسوله صلّى الله عليه وسلّم كفر ظاهرًا وباطنًا، وسواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلًّا له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السُّنَّة القائلين بأن الإيمان قول وعمل.
وقد قال الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه، وهو أحد الأئمة يعدل بالشافعي وأحمد: قد أجمع المسلمون أن من سبَّ الله أو سبَّ رسوله صلّى الله عليه وسلّم أو دفع شيئًا مما أنزل الله، أو قتل نبيًّا من أنبياء الله أنه كافر بذلك، وإن كان مقرًّا بما أنزل الله»[10].
ونقل الحافظ ابن حجر عن أبي بكر الفارسي ـ أحد أئمة الشافعية ـ قوله: «إن من سب النبي صلّى الله عليه وسلّم مما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء» [11].
وأما الجهة الثانية: وهي المتعلقة بعقوبته، فقد دلَّت النصوص من الكتاب الكريم والسُّنَّة الصحيحة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ومأثور سلف الأمة، وإجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين على قتل سابِّ النبي صلّى الله عليه وسلّم مسلمًا كان أو كافرًا[12]. قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *} [التوبة] .
ووجه الاستدلال بها هو أننا «أمرنا بقتالهم إلى أن يعطوا الجزية وهم صاغرون، فلا يجوز الإمساك عن قتالهم، إلا إذا كانوا صاغرين حال إعطائهم الجزية، ومعلوم أن إعطاء الجزية من حين بذلها والتزامها إلى حين تسليمها وإقباضها، فإنهم إذا بذلوا الجزية شرعوا في الإعطاء ووجب الكف عنهم إلى أن يقبضوناها فيتم الإعطاء، فمتى لم يلتزموها، أو التزموها أولاً وامتنعوا من تسليمها ثانيًا، لم يكونوا معطين للجزية؛ لأن حقيقة الإعطاء لم توجد، وإذا كان الصَّغار حالاً لهم في جميع المدة، فمن المعلوم أن من أظهر سبَّ نبينا في وجوهنا، وشتم ربنا على رؤوس الملأ منا، وطعن في ديننا في مجامعنا، فليس بصاغر؛ لأن الصّاغر: الذليل الحقير، وهذا فعل متعزز مراغم؛ بل هذا غاية ما يكون من الإذلال لنا والإهانة»[13].
وجاء من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَن لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فقال محمد بن مسلمة: أنا، فأتاه فقال: أردنا أن تسلفنا وسقًا أو وسقين، فقال: ارهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب، قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهن أبناءنا فيسب أحدهم، فيقال رهن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللأَّمة ـ قال سفيان: يعني السلاح ـ فوعده أن يأتيه، فقتلوه ثم أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه»[14].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلّى الله عليه وسلّم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلّى الله عليه وسلّم وتشتمه، فأخذ المِغْوَل فوضعه في بطنها، واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام. فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلتها. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا اشهدوا أن دمها هدر »[15].
قال ابن القيم بعد أن ذكر طائفة من الأحاديث الواردة في هذا المعنى: «وفي ذلك بضعة عشر حديثًا ما بين صحاح وحِسان ومشاهير، وهو إجماع الصحابة»[16].
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن «من سبَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم من مسلم أو كافر فإنه يجب قتله، هذا مذهب عليه عامة أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن حدَّ من سبَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم القتل. وممن قاله: مالك والليث وأحمد وإسحاق وهو مذهب الشافعي، قال: وحكي عن النعمان: لا يقتل ـ يعني: الذمي ـ الذي هم عليه من الشرك أعظم.
وقد حكى أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي إجماع المسلمين على أن حدّ من سبَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم القتل، كما أن حدّ من سبَّ غيره الجلد، وهذا الإجماع الذي حكاه هذا محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين، أو أنه أراد به إجماعهم على أن سابّ النبي صلّى الله عليه وسلّم يجب قتله إذا كان مسلمًا، وكذلك قيده القاضي عياض، فقال: أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين وسابّه[17]، وكذلك حُكي عن غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره.
وقال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الأئمة الأعلام: أجمع المسلمون على أن من سبَّ الله، أو سبَّ رسوله صلّى الله عليه وسلّم أو دفع شيئًا مما أنزل الله عزّ وجل، أو قتل نبيًّا من أنبياء الله عزّ وجل أنه كافر بذلك، وإن كان مقرًّا بكل ما أنزل الله. وقال الخطابي: لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله.
وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلّى الله عليه وسلّم والمتنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر.
وتحرير القول فيها: أن السابّ إن كان مسلمًا فإنه يكفر، ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك من الأئمة مثل إسحاق بن راهويه وغيره، وإن كان ذميًّا فإنه يقتل أيضًا في مذهب مالك وأهل المدينة... وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث، وقد نصَّ أحمد على ذلك في مواضع متعددة»[18].
ويقول في موضع آخر بعد أن ذكر بعض ألفاظ السب: «فهذا كله إذا صدر من مسلم، أو معاهد، فهو سب، فأما المسلم فيقتل به بكل حال، وأما الذمي فيقتل بذلك إذا أظهره»[19].
الجهة الثالثة: في حكمه إذا تاب.
اختلف في ذلك على أقوال، كما حكاها غير واحد، منهم ابن تيمية، حيث قال عن الحنابلة: «إن أصحابنا حكوا في الساب إذا تاب ثلاث روايات:
إحداهن: يقتل بكل حال، وهي التي نصروها كلُّهم، ودلَّ عليها كلام الإمام أحمد في نفس هذه المسألة، وأكثر محققيهم لم يذكروا سواها.
والثانية: تقبل توبته مطلقًا.
والثالثة: تقبل توبة الكافر، ولا تقبل توبة المسلم. وتوبة الذمي التي تقبل إذا قلنا بها أن يسلم، فأما إذا أقلع وطلب عقد الذمة له ثانيًا لم يعصم ذلك دمه رواية واحدة»[20].
وقال ابن القاسم عن مالك: «أن من شتم النبي صلّى الله عليه وسلّم من المسلمين قتل ولم يستتب»[21].
وقال ابن تيمية: «وأما مذهب مالك رضي الله عنه فقال مالك في رواية ابن القاسم ومطرف: من سبَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قتل ولم يستتب، قال ابن القاسم: من سبَّه أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل كالزنديق، وقال أبو مصعب وابن أبي أويس: سمعنا مالكًا يقول: من سبَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أو شتمه أو عابه أو تنقصه قُتل، مسلمًا كان أو كافرًا، ولا يستتاب، وكذلك قال محمد بن عبد الحكم: أخبرنا أصحاب مالك أنه قال: من سبَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أو غيره من النبيين، مسلمًا كان أو كافرًا قُتل ولم يستتب. قال: وروى لنا مالك إلا أن يسلم الكافر، قال أشهب عنه: من سبَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب. فهذه نصوصه نحو من نصوص الإمام أحمد، والمشهور من مذهبه أنه لا تقبل توبة المسلم إذا سب النبي صلّى الله عليه وسلّم»[22]. ويقتل عندهم حدًّا لا كفرًا[23].
قال القاضي عياض: «فاعلم أن مشهور مذهب مالك وأصحابه وقول السلف وجمهور العلماء قتله حدًّا لا كفرًا إن أظهر التوبة منه، ولهذا لا تقبل عندهم توبته... وقال ابن سحنون: من شتم النبي صلّى الله عليه وسلّم من الموحدين ثم تاب عن ذلك لم تُزل توبته عنه القتلَ»[24].
وأما الذمي إذا سبَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم تاب وأسلم، فهل إسلامه يُسقط عنه القتل أم لا؟ لهم فيه روايتان[25].
وأما الشافعية فلهم وجهان في ساب النبي صلّى الله عليه وسلّم:
الوجه الأول: أنه كالمرتد، إذا تاب سقط عنه القتل.
الوجه الثاني: أنه يقتل، ولا يسقط عنه القتل بالتوبة[26].
وأما السابّ إذا كان ذميًّا فقد اختلف أصحاب الشافعي فيه على قولين؛ فـ«منهم من قال: يجب قتل الساب حتمًا وإن خير في غيره. ومنهم من قال: هو كغيره من الناقضين للعهد، وفيه قولان: أضعفهما أنه يلحق بمأمنه، والصحيح منهما جواز قتله»[27].
لكن المنصوص عن الشافعي نفسه أنه ينتقض عهده بسبّه النبي صلّى الله عليه وسلّم ويُقتل[28].
قال الخطابي في سابِّ النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله، ولكن إذا كان الساب ذميًّا فقد اختلفوا فيه، فقال مالك بن أنس: من شتم النبي صلّى الله عليه وسلّم من اليهود والنصارى قتل، إلا أن يسلم، وكذلك قال أحمد بن حنبل، وقال الشافعي: يقتل الذمي إذا سب النبي صلّى الله عليه وسلّم وتبرأ منه الذمة»[29].
وأما أبو حنيفة فقد نقل عنه قولان:
أحدهما: أنه يقول بقتل سابِّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يقبل توبته كبقية الأئمة؛ مالك، والشافعي في المنصوص عنه، وأحمد وغيرهم. قال القاضي عياض: «قال أبو بكر بن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن من سبَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم يقتل، وممن قال ذلك: مالك بن أنس، والليث، وأحمد، وإسحاق، وهو مذهب الشافعي، قال القاضي أبو الفضل: وهو مقتضى قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولا تقبل توبته عند هؤلاء، وبمثله قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأهل الكوفة والأوزاعي في المسلمين، لكنهم قالوا: هي ردة، وروى مثله الوليد بن مسلم عن مالك، وحكى الطبري مثله عن أبي حنيفة وأصحابه فيمن تنقَّصَه صلّى الله عليه وسلّم أو برئ منه أو كذبه، وقال سحنون فيمن سبَّه: ذلك ردة كالزندقة، وعلى هذا وقع الخلاف في استتابته وتكفيره، وهل قتله حد أو كفر»[30].
وأما قوله الآخر: فيوافق قول الشافعية في الوجه الأول، وهو أن سابَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا كان مسلمًا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كالمرتد، وأما إذا كان ذميًّا فيرى أبو حنيفة أنه لا ينتقض عهده، ولكن يعزر على إظهار ذلك[31].
ويشير ابن تيمية إلى اتفاق هذه الأقوال في وجوب قتل سابِّ النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الاختلاف في سبب حكم قتله، فيقول: «فهذا الباب كله مما عدَّه العلماء سبًّا وتنقّصًا يجب قتل قائله ولم يختلف في ذلك متقدمهم ومتأخرهم وإن اختلفوا في سبب حكم قتله[32].
وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه فيمن تنقصه أو برئ منه أو كذبه: إنه مرتد. وكذلك قال أصحاب الشافعي: كل من تعرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما فيه استهانة، فهو كالسبِّ الصريح؛ فإن الاستهانة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم كفر، وهل يتحتم قتله أو يسقط بالتوبة؟ على الوجهين، وقد نص الشافعي على هذا المعنى.
فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقص له كفر مبيح للدم، وهم في استتابته على ما تقدم من الخلاف»[33].
وقال ابن عثيمين ردًّا على سؤال: «هل تقبل توبة من سبَّ الله عزّ وجل أو سب الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟» فأجاب بقوله: «اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: أنها لا تقبل توبة من سبَّ الله، أو سبَّ رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهو المشهور عند الحنابلة، بل يقتل كافرًا، ولا يصلى عليه، ولا يدعى له بالرحمة، ويدفن في محل بعيد عن قبور المسلمين.
القول الثاني: أنها تقبل توبة من سبَّ الله أو سبَّ رسوله صلّى الله عليه وسلّم إذا علمنا صدق توبته إلى الله، وأقر على نفسه بالخطأ، ووصف الله تعالى بما يستحق من صفات التعظيم، وذلك لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة؛ كقوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] ، ومن الكفار من يسب الله ومع ذلك تقبل توبتهم، وهذا هو الصحيح، إلا أن سابّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم تقبل توبته ويجب قتله، بخلاف من سبَّ الله، فإنها تقبل توبته ولا يقتل؛ لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد، بأنه يغفر الذنوب جميعًا. أما ساب الرسول صلّى الله عليه وسلّم فإنه يتعلق به أمران:
أحدهما: أمر شرعي؛ لكونه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهذا يقبل إذا تاب.
الثاني: أمر شخصي، وهذا لا تقبل التوبة فيه؛ لكونه حق آدمي لم يعلم عفوه عنه، وعلى هذا فيقتل، ولكن إذا قتل غسلناه، وكفناه، وصلينا عليه، ودفناه مع المسلمين.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية... فإن قيل: أليس قد ثبت أن من الناس من سبَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته وقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم توبته؟
أجيب: بأن هذا صحيح، لكن هذا في حياته صلّى الله عليه وسلّم، والحق الذي له قد أسقطه، وأما بعد موته فإنه لا يملك أحد إسقاط حقه صلّى الله عليه وسلّم، فيجب علينا تنفيذ ما يقتضيه سبه»[34].
المسألة الرابعة: وجوب الاقتداء به صلّى الله عليه وسلّم: لقد دلَّت النصوص من الكتاب والسُّنَّة على وجوب الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *} [الحشر] ، وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [آل عمران] ، وقال عزّ وجل: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *} [الأعراف] .
قال شيخ الإسلام في هذه الآيات وأمثالها: «فعلى الخلق كلهم اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم، فلا يعبدون إلا الله، ويعبدونه بشريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم لا بغيرها»[35]. وقال في موضع آخر: «فليس لأحد أن يسلك إلى الله إلا بما شرعه الرسول لأمته، فهو الداعي إلى الله بإذنه، الهادي إلى صراطه الذي من أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، فهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي»[36].
وقال ابن كثير في قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ}: «أي: اسلكوا طريقه واقتفوا أثره: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *}؛ أي: إلى الصراط المستقيم»[37].
وقد مدح الله المقتدين بالرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما جاءهم به، وحصر الفلاح فيهم، فقال سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [الأعراف] .
وثبت من حديث جابر رضي الله عنه؛ أنه قال: «رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه »[38].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى»[39].
وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومًا فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبَّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق»[40].
والآثار السلفية المؤكدة على ضرورة الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم كثيرة جدًّا، منها ما جاء عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: «يا معشر القراء استقيموا؛ فقد سبقتم سبقًا بعيدًا، فإن أخذتم يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا»[41].
قال ابن حجر موضحًا كلام حذيفة رضي الله عنه هذا: «والمراد: أنه خاطب بذلك من أدرك أوائل الإسلام، فإذا تمسك بالكتاب والسُّنَّة سبق إلى كل خير؛ لأن من جاء بعده إن عمل بعمله، لم يصل إلى ما وصل إليه من سبقه إلى الإسلام، وإلا فهو أبعد منه حسًّا وحكمًا، قوله: «فإن أخذتم يمينًا وشمالاً» أي: خالفتم الأمر المذكور. وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] »[42].
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، كل بدعة ضلالة»[43].
وجملة القول: إن الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم والإتيان بالعبادة على وفق هديه، هو أحد شرطي قبول العبادة؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *} [الكهف] ، وقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7] ، قال ابن كثير في هذه الآية: «ولم يقل: أكثر عملاً، بل: {أَحْسَنُ عَمَلاً}، ولا يكون العمل حسنًا حتى يكون خالصًا لله عزّ وجل على شريعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمتى فقد العمل واحدًا من هذين الشرطين بطل وحبط»[44]، فالطرق كلها والسبل جميعها منذ مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى قيامة الساعة مسدودة على الخلق إلا طريق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، فطريقه هو الموصل إلى الله، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقَيمٍ *} [الشورى] .
المسألة الخامسة: حكم من لم يؤمن به صلّى الله عليه وسلّم:
من يوم بعث الله محمدًا صلّى الله عليه وسلّم نبيًّا ورسولاً، نسخت كل الشرائع السابقة، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48] .
وأصبح الناس جميعًا مخاطبين بشريعة الإسلام التي جاء بها نبيُّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمره الله أن يعلن للناس بأنه رسول الله إليهم كافة، وأن يدعوهم إلى الله جميعا، كما قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *} [الأعراف] .
وكل من بلغته رسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ولم يؤمن بها، وبما جاء به من القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة فهو كافر به وبجميع الرسل عليهم السلام، ومكذب لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخبرا به، وإن مات على هذا فهو خالد مخلد في النار وبئس القرار، قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *} [البقرة] ، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا *} [النساء] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِيناً *وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *} [النساء] .
قال ابن كثير: «فحكم عليهم بالكفر المحقق؛ إذ آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم»[45].
قال السعدي: «هنا قسمان قد وضحا لكل أحد: مؤمن بالله وبرسله كلهم وكتبه، وكافر بذلك كله.
وبقي قسم ثالث: وهو الذي يزعم أنه يؤمن ببعض الرسل دون بعض، وأن هذا سبيل ينجيه من عذاب الله، إن هذا إلا مجرد أماني؛ فإن هؤلاء يريدون التفريق بين الله وبين رسله. فإن من تولى الله حقيقة تولى جميع رسله؛ لأن ذلك من تمام توليه، ومن عادى أحدًا من رسله عليهم السلام فقد عادى الله وعادى جميع رسله، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ} الآيات. وكذلك من كفر برسول فقد كفر بجميع الرسل؛ بل بالرسول الذي يزعم أنه به مؤمن، ولهذا قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا}؛ وذلك لئلا يتوهم أن مرتبتهم متوسطة بين الإيمان والكفر»[46].
وثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار»[47].


[1] لأمه: من التئام الجرح؛ إذا التصق الجسم المقطوع بعضه ببعض. قال ابن فارس في المقاييس (5/226): «لأمت الجرح، ولأمت الصدع؛ إذا سددت».
[2] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 162).
[3] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3207)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 164).
[4] البداية والنهاية (3/418).
[5] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 203).
[6] شرح النووي على صحيح مسلم (3/79) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1392هـ].
[7] أخرجه مسلم (كتاب الجنائز، رقم 976).
[8] المحلى لابن حزم (11/412) [إدارة الطباعة المنيرية، مصر، ط1، 1352هـ].
[9] الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/223).
[10] الصارم المسلول على شاتم الرسول (3/955، 956) [مكتبة رمادي، ط1، 1417هـ].
[11] فتح الباري لابن حجر (12/281).
[12] انظر: زاد المعاد (5/58 ـ 60) [مؤسسة الرسالة، ومكتبة المنار الإسلامية، ط26، 1422هـ].
[13] الصارم المسلول (2/32، 33).
[14] أخرجه البخاري (كتاب الرهن، رقم 2510)، ومسلم (كتاب الجهاد والسير، رقم 1801).
[15] أخرجه أبو داود (كتاب الحدود، رقم 4361)، والنسائي (كتاب تحريم الدم، رقم 4070)، والحاكم في المستدرك (كتاب الحدود، رقم 8044)، وصححه على شرط مسلم، وكذا قال الألباني في الإرواء (5/92) [المكتب الإسلامي، ط1، 1405هـ].
[16] زاد المعاد (5/55).
[17] الشفا للقاضي عياض (2/211).
[18] الصارم المسلول لابن تيمية (2/13 ـ 16).
[19] المصدر نفسه (3/1005).
[20] المصدر نفسه (3/563).
[21] النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات (14/526) [دار الغرب الإسلامي، ط1].
[22] الصارم المسلول (3/571 ـ 573). وانظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/216، 217).
[23] انظر: مختصر الصارم المسلول للبعلي (94) [دار عالم الفوائد، ط1، 1422هـ].
[24] الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/254، 255).
[25] انظر: الصارم المسلول (3/573 ـ 575)، والمجموع شرح المهذب للنووي (19/427)، ومختصر الصارم المسلول للبعلي (94).
[26] انظر: الصارم المسلول (3/575 ـ 577)، والمجموع شرح المهذب للنووي (19/427)، وتقريب الصارم المسلول لصلاح الصاوي (188).
[27] انظر: الصارم المسلول (2/29، 30، و3/556).
[28] انظر: الصارم المسلول (2/26).
[29] معالم السنن للخطابي (3/296).
[30] الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/215). وانظر: حاشية ابن عابدين (4/215) [دار الفكر، 1421هـ].
[31] انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (5/192) [مكتبة الرشد، الرياض، ط2، 1423هـ]، والصارم المسلول (2/31، و3/556).
[32] انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/219).
[33] الصارم المسلول (3/982، 983).
[34] مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (2/150، 151).
[35] مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/523).
[36] مجموع الفتاوى (11/586).
[37] تفسير ابن كثير (3/491).
[38] أخرجه مسلم (كتاب الحج، رقم 1297).
[39] أخرجه البخاري (كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، رقم 7280).
[40] أخرجه البخاري (كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، رقم 7283)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2283).
[41] أخرجه البخاري (كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، رقم 7282).
[42] فتح الباري لابن حجر (13/257).
[43] أخرجه الدارمي في سننه (كتاب العلم، رقم 211)، ووكيع في الزهد (590) [مكتبة الدار، ط1]، والمروزي في السُّنَّة (28) [مؤسسة الكتب الثقافية، ط1] وغيرهم.
[44] تفسير ابن كثير (4/308).
[45] تفسير ابن كثير (1/341).
[46] تفسير السعدي (ص212).
[47] أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 153).


1 ـ «سيرة» (ج1)، لابن هشام.
2 ـ «الطبقات»، لخليفة بن خياط.
3 ـ «تاريخ خليفة بن خياط».
4 ـ «دلائل النبوة» (ج2)، للبيهقي.
5 ـ «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» (ج2)، لابن الجوزي.
6 ـ «زاد المعاد في هدي خير العباد» (ج1)، لابن القيم.
7 ـ «البداية والنهاية»» (ج3)، لابن كثير.
8 ـ «صحيح السيرة النبوية» للألباني.
9 ـ «السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية»، لمهدي رزق الله.
10 ـ «السيرة النبوية الصحيحة» (ج1)، لأكرم ضياء العمري.