المَدْحُ : نقيض الهجاء، وهو: الثناء الحسن، يقال: مَدَحَهُ وامتدَحه بمعنًى، والمَدْح المصدر والمِدْحَة الاسم، والجمع: مِدَحٌ، وهو المَدِيحُ، والجمع: المَدائحُ والأَماديح، ونظيره في الأماديح حَديثٌ وأَحاديثُ[1].
والمدح من قولهم: انمدحت الأرض؛ إذا اتسعت، وتمدحت خواصر الماشية؛ أي: اتسعت شبعًا، فكأن معنى مدحته: وسعت شكره[2].
[1] انظر: مقاييس اللغة (5/308) [دار الجيل، ط1]، ولسان العرب (2/589) [دار الفكر، ط1، 1410هـ].
[2] انظر: الصحاح (1/403) [دار الملايين، ط3، 1404هـ]، والمصباح المنير للفيومي (462).
المدح : هو كل ما يدل على الإخبار عن محاسن الغير، مع التجرد عن الحب والتعظيم[1].
وقد تنوعت عبارات العلماء في تعريفه، فقيل:
1 ـ هو الإخبار عن كون الممدوح مستحقًّا؛ لأن يفعل به ما يفرح به أو يتلذذ به، نقله ابن القيم عن بعض المتكلمين[2].
2 ـ وقيل : هو كل ما يدل على اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل، قاله السفاريني وغيره[3].
[1] انظر: بدائع الفوائد (2/93) [دار الكتاب العربي]، وتفسير الرازي (1/131) [دار الفكر للطباعة، ط1].
[2] انظر: الصواعق المرسلة (4/1471) [دار العاصمة].
[3] انظر: لوامع الأنوار (1/332).
1 ـ حكم المدح في حق المخلوق:
ورد التحذير من المدح والتزكية في عدد من النصوص، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء: 49] ، قال ابن كثير رحمه الله: «قيل: نزلت في ذم التمادح والتزكية»[1].
وعن المقداد رضي الله عنه؛ أن رجلاً جعل يمدح عثمان، فجثا المقداد على ركبتيه فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان رضي الله عنه: ما شأنك؟ قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب» [2]. قال أبو سليمان الخطابي: «المداحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادةً، وجعلوه بضاعة يستأكلون به الممدوح»[3].
وقد اختلف العلماء في حكم مدح المخلوق على ثلاثة أقوال:
القول الأول: التحريم مطلقًا، لظاهر حديث المقداد رضي الله عنه وغيره من الأحاديث، واختار ذلك بعض العلماء أخذًا بظاهر الأحاديث، وهو وظاهر كلام ابن الجوزي[4].
القول الثاني: الكراهة مطلقًا، إلا في بعض الحالات التي يكون فيها، كذب أو إطراء فيحرم، ورجح ذلك البغوي وغيره[5].
القول الثالث: القول بالجواز لما ورد من الأحاديث والآثار الدالة على ذلك، وأما ما ورد مما يدل على التحريم كحديث المقداد رضي الله عنه ونحوه، فيحمل على ما كان فيه إطراء ومجازفة، أو من يخاف عليه الفتنة بالمدح ونحو ذلك، وقد رجح ذلك جمع من العلماء المحققين؛ كالخطابي وابن بطال والنووي وابن حجر وغيرهم، بل قد نسبه النووي إلى العلماء[6].
وقال ابن حجر: «قال ابن بطال: حاصل النهي: أن من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه لم يأمن على الممدوح العجب؛ لظنه أنه بتلك المنزلة، فربما ضيع العمل والازدياد من الخير؛ اتكالاً على ما وصف به، وأما من مدح بما فيه فلا يدخل في النهي، فقد مدح صلّى الله عليه وسلّم في الشعر والخطب والمخاطبة، ولم يحث في وجه مادحه ترابًا انتهى ملخصًا»[7].
2 ـ حكم مدح الله تعالى:
إن الثناء على الله تعالى ومدحه وتسبيحه وتعظيمه وتقديسه من الطاعات والقربات التي ندب إليها سبحانه وتعالى في كل وقت وفي أكثر من موضع، ومن غير تقييد، ومدح الله يكون بالثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى وصفاته العلا والتمعن في معانيها التامة، فكل اسم وصفة ثبت في الكتاب والسُّنَّة شرع للمسلم مدحه بها والعمل بمقتضاها، ويكون أيضًا بذكر أفعاله الحسنة وجوده وكرمه على عباده ولطفه وصبره وحلمه على كفرهم وأذاهم وعدله مع أعدائه وفضله على أوليائه. ويكون أيضًا بالاشتغال بذكر الحمد والتسبيح والتمجيد والتهليل والمداومة على ذلك عند تجدد النعم ونزول النقم[8].
[1] تفسير ابن كثير (1/561) [دار الفيحاء، ط1، 1413هـ].
[2] أخرجه مسلم (كتاب الزهد والرقاق، رقم 3002).
[3] معالم السنن للخطابي (4/111) [المكتبة العلمية، ط2، 1401هـ].
[4] الآداب الشرعية لابن مفلج (3/453).
[5] انظر: شرح السُّنَّة (13/151).
[6] انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (18/126).
[7] فتح الباري لابن حجر (10/477) [دار الريان، ط2، 1409هـ].
[8] انظر: بدائع الفوائد (2/93)، ونضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (4/1452) وما بعدها.
المدح : هو الإخبار عن محاسن الغير، إما أن يكون إخبارًا مجردًا من حب وإرادة، وإما مقرونًا بحبه وإرادته، فإن كان الأول فهو المدح، وإن كان الثاني فهو الحمد، فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه، ولهذا كان خبرًا يتضمن الإنشاء، بخلاف المدح فإنه خبر مجرد[1].
[1] بدائع الفوائد (2/93) [دار الكتاب العربي، بيروت].
المسألة الأولى: المدح في حق الرب سبحانه وتعالى:
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا أحد أغير من الله، ولذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شيء أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه»[1].
فالله ـ تعالى وتقدس ـ يحب أن يمدحه العباد، ولهذا مدح نفسه بالصفات التي هو بها أهل، سبحانه وتعالى.
ولكماله المطلق مدح نفسه؛ لأنه أهل المدح والثناء، ولأن الخلق لا يقدرون على مدحه بما يستحق، كما قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»[2].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإذا كان العباد يحمدونه ويثنون عليه ويحبونه فهو سبحانه أحق بحمد نفسه، والثناء على نفسه، والمحبة لنفسه، كما قال أفضل الخلق: «لا أحصي ثناء عليك أنت، كما أثنيت على نفسك» ، فلا ثناء من مُثْنٍ أعظم من ثناء الرب على نفسه، ولا ثناء إلا بحب، ولا حب من محبوب لمحبوب أعظم من محبة الرب لنفسه، وكل ما يحبه من عباده فهو تابع لحبه لنفسه...»[3].
المسألة الثانية: المدح في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم:
محبة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومدحه والثناء عليه، وتعظيمه وتوقيره بما هو أهله، واجب على كل مسلم، قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين»[4].
وقد أخبرنا صلّى الله عليه وسلّم بعظيم قدره عند ربه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم» [5]، وهذا فيه مدح له صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن أبي العز الحنفي: «وإنما أخبر صلّى الله عليه وسلّم أنه سيّد ولد آدم؛ لأنا لا يمكننا أن نعلم ذلك إلا بخبره، إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله، ولهذا أتبعه بقوله: «ولا فخر»[6]»[7].
وقد امتدح النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم شعراء الصحابة رضي الله عنهم؛ كحسان بن ثابت وغيره، بما وصفه الله به من الفضائل العظيمة، وسمعها النبي صلّى الله عليه وسلّم وأقرها، لخلوها من الغلو والإطراء[8].
وأما المدائح والقصائد المشتملة على الغلو والإطراء في حقه صلّى الله عليه وسلّم، كالتي تقال في المولد النبوي ونحوه، من أمثال (البردة) للبوصيري، وما قيل على نسجها من القصائد، فقد اشتملت على غلو أفضى بأصحابه إلى الكفر والشرك، بل بلغ ببعضهم الغلو في مقامه صلّى الله عليه وسلّم إلى وصفه بملك كل شيء، من الدنيا والآخرة واللوح والقلم، فلم يتركوا لله شيئًا[9].
المسألة الثالثة: مدح العصاة والمبتدعة:
مدح العصاة والمبتدعة والثناء عليهم على وجه التزكية لهم والرضا بما هم عليه من معصية وانحراف، ومعاملتهم كأتقياء المؤمنين لا يجوز؛ لأنهم ليسوا بمنزلة المؤمنين الأتقياء؛ لذا وجب إنزال الناس منازلهم وعدم التسوية بين المؤمنين والفجار، فلا يساوى العبد الصالح التقي بالعبد الفاجر الفاسق. فعدم المساواة بينهما من العدل الذي يحبه الله عزّ وجل، أما المساواة بينهما فهو من الظلم الذي نفاه الله تعالى عن نفسه، قال : {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ *} [الجاثية] .
وإنما يمنع من مدحهم والثناء عليهم حتى لا يظن في أنفسهم أنهم على خير فيتمادوا في غيّهم وضلالهم، ولئلا يغتر الناس بهم، وهذا له دور كبير في تنبيه العصاة والمبتدعة وتخويفهم لعلهم يقلعوا عن ذنبهم ويثوبوا إلى رشدهم ويستقيموا على أمر ربهم[10].
المسألة الرابعة: مدح الكفار والمنافقين:
ذكر ما عند الكفار من أخلاق محمودة على وجه الإعجاب بهم وتعظيم شأنهم والمدح لهم بلا موجب شرعي حرام؛ لأن ذلك مناقض لحكم الله فيهم والله قد ذمهم وتوعدهم وشبههم بالأنعام، كما قال تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ *} [محمد] ، وهذا شأن جميع أصناف الكفار.
وأما إن كان الثناء عليهم ومدحهم بسبب وموجب شرعي أو على الأقل يكون على وجه لا يدعو للفتنة بهم ولا موالاتهم فلا بأس بذلك، ومنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه لما اشتد أذى قريش لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه»[11][12].
[1] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4634)، ومسلم (كتاب التوبة، رقم 2760).
[2] أخرجه مسلم (كتاب الصلاة، رقم 486).
[3] منهاج السُّنَّة النبوية (5/2827). وانظر: مجموع الفتاوى (17/111) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف]، والصواعق المرسلة (4/1456)، وشرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان (1/208).
[4] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 15)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 44).
[5] أخرجه مسلم (كتاب الفضائل، رقم 2278).
[6] وردت هذه اللفظة في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أخرجه الترمذي (أبواب التفسير، رقم 3148) وحسنه، وابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4308)، وأحمد (17/10) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 3543) [مكتبة المعارف، ط5].
[7] شرح العقيدة الطحاوية (1/163) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1408هـ].
[8] انظر: فتح الباري (10/477).
[9] انظر: إعانة المستفيد (2/312) [مؤسسة الرسالة، ط1، 1412هـ]، وتيسير العزيز الحميد (221) [المكتب الإسلامي، ط6، 1405هـ]، والقول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل للأنصاري (297) [الرئاسة العامة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية، 1405هـ].
[10] انظر: أصول مسائل العقيدة عند السلف وعند المبتدعة لسعود الخلف (51) [طبعة: 1420هـ 1421هـ].
[11] أخرجه ابن إسحاق في السيرة (213) [دار الفكر، ط1]، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (كتاب السير، رقم 17734)، وجوَّد إسناده العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (690) [دار ابن حزم، ط1]، والألباني في السلسلة الصحيحة (4/578).
[12] الولاء والبراء والعداء في الإسلام للبدراني (63، 64). وانظر: السيف البتار على من يوالي الكفار للأهدل (10).
ـ الفرق بين الإطراء والمدح:
المدح أعم من الإطراء، والإطراء أخص، بحيث يقال: كل إطراء مدح، ولا عكس، وذلك أن الإطراء: هو المبالغة في المدح، ومجاوزة الحدّ فيه حتى يصل إلى الكذب، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده؛ فقولوا: عبد الله ورسوله» [1]. قال ابن الأثير: «الإطراء: مجاوزة الحدّ في المدح، والكذب فيه»[2].
ـ الفرق بين المدح والحمد:
الفرق بين المدح والحمد من وجوه:
1 ـ أن المدح يكون للحي ولغير الحي؛ كاللؤلؤ واليواقيت الثمينة ونحوهما، والحمد لا يكون إلا للحي فقط.
2 ـ أن المدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده، والحمد إنما يكون بعد الإحسان.
3 ـ أن المدح قد يكون منهيًّا عنه، كما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «احثوا في وجه المداحين التراب» [3]، والحمد مأمور به مطلقًا[4].
[1] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3445).
[2] النهاية في الغريب (3/133) [دار الكتب العلمية].
[3] تقدم تخريجه.
[4] انظر: تفسير الرازي (1/131).
آفات المدح:
والمدح منهي عنه لأن فيه ست آفات؛ أربع في المادح، واثنتان في الممدوح.
أما آفات المادح فهي:
الأولى: أنه قد يفرط في المدح فينتهي به إلى الكذب.
الثانية: أنه قد يدخله الرياء؛ فإنه بالمدح مظهر للحب، وقد يكون مُظهرًا له لا معتقدًا لجميع ما يقوله، فيصير به مرائيًّا منافقًا.
الثالثة: أنه قد يقول ما لا يتحققه ولا سبيل إلى الاطلاع عليه.
الرابعة: أنه قد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق، وذلك غير جائز، بل الظالم الفاسق ينبغي أن يذم ليغتم ولا يمدح ليفرح.
أما آفتا الممدوح فهما:
أحداهما: أنه يحدث فيه كبرًا وإعجابًا، وهما مهلكان.
الأخرى: أنه إذا أثنى عليه بالخير فرح به، وفتر ورضي عن نفسه، وقلَّ تشمره، وإنما يتشمر للعمل من يرى نفسه مقصرًا، فأما إذا انطلقت الألسن بالثناء عليه ظن أنه قد أدرك[1].
[1] انظر: إحياء علوم الدين للغزالي (9/1627) [دار الشعب]، وفتح الباري لابن حجر (10/477).
1 ـ «إحياء علوم الدين»، للغزالي.
2 ـ «الآداب الشرعية والمنح المرعية»، لابن مفلح.
3 ـ «إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد»، للفوزان.
4 ـ «بدائع الفوائد»، لابن القيم.
5 ـ «تيسير العزيز الحميد»، لسليمان بن عبد الله.
6 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز.
7 ـ «شرح صحيح مسلم»، للنووي.
8 ـ «شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري»، للغنيمان.
9 ـ «فتح الباري» لابن حجر.
10 ـ «القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل»، للأنصاري.
11 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.