المراتب : قال ابن فارس: «والرَّتب: ما أشرف من الأرض كالدَّرج، تقول: رَتبَةٌ ورَتبٌ، كقولك درجة ودَرج»[1].
فالمراتب جمع مرتبة، وهي المنزلة، ويقال: الرَّتَب، وتطلق في الأصل على الشيء العالي، فالمرتبة المرقبة، وهي أعلى الجبل، ويقال كذلك الرَّتَب بفتح الراء والتاء، وهي الصخور المتقاربة، وبعضها أرفع من بعض، وواحدتها رَتَبة[2].
والمؤمنون : هم أهل الإيمان؛ أي: المتصفون بصفات وخصال الإيمان.
[1] مقاييس اللغة (2/486) [دار الجيل، 1420هـ].
[2] انظر: لسان العرب (10/151) [دار صادر، ط1].
مراتب المؤمنين هي أقسامهم ومنازلهم في الدنيا بحسب أعمالهم وإيمانهم.
فهم ثلاثة أقسام : السابق بالخيرات، والمقتصد، والظالم لنفسه.
السابق بالخيرات هو : المقرّب المحسن، الذي يعبد الله كأنه يراه، ويتقرب إليه بالنوافل بعد الفرائض، فيفعل الواجبات والمستحبات، ويترك المحرمات والمكروهات، مع تورعه عن بعض الجائزات خوفًا من أن يكون سببًا لارتكاب المنهيات.
والمقتصد : هو فاعل الواجب وتارك المحرم، أو هو: من امتثل الأمر، واجتنب النهي، ولم يزد على ذلك، أو هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب وترك المحرم.
والظالم لنفسه : هو تارك المأمور فاعل المحظور، أو هو: المضيع للواجبات والمنتهك للمحرمات، وقيل: هو صاحب الذنوب المصر عليها[1].
[1] انظر لهذه التعاريف: تفسير الطبري (20/468)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (5/161) و(6/391) و(7/358) و(11/180 ـ 183) و(13/337، 383) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1416هـ]، وطريق الهجرتين (291 ـ 314) [دار ابن القيم، ط2، 1414هـ]، وتفسير ابن كثير (6/546) [دار طيبة، ط2، 1420هـ]، وتفسير السعدي (689) [مؤسسة الرسالة، 1421هـ]، وأضواء البيان (1/417) [دار الفكر، 1415هـ].
أصناف المؤمنين الثلاثة كلهم موعودون بالجنة على القول الراجح والصحيح من أقوال أهل المعتبرين[1]، وذلك إما ابتداء؛ أي يدخلون الجنة بدون حساب ولا عقاب؛ وهم السابقون بالخيرات في الدنيا، وهم المقربون في الآخرة أو المحسنون، وكذلك المقتصدون وإن حوسبوا حسابًا يسيرًا، وإما انتهاءً؛ أي: وإن عوقبوا أو عذبوا، وأدخلوا النار فلا يخلدون فيها؛ بل يخرجون منها ويدخلون الجنة؛ وهم الظالمون لأنفسهم، وذلك بنص آية الاصطفاء؛ كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ *جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أْسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ *} [فاطر] . رُوي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «كلهم في الجنة»[2].
وروى ابن جرير الطبري بسنده عن كعب الأحبار رضي الله عنه؛ أنه قال: «إن الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات من هذه الأمة كلهم في الجنة»[3].
وروى بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أنه قال: «هم أمة محمد، ورّثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب»[4].
وروى بسنده عن محمد ابن الحنفية رحمه الله؛ أنه قال: «إنها أمة مرحومة، الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنان عند الله، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله»[5].
قال ابن جرير: «وإذ كان ذلك كذلك: فبيِّنٌ أن المصطفين من عباده هم مؤمنو أمته، وأما الظالم لنفسه، فإنه لأن يكون من أهل الذنوب والمعاصي التي هي دون النفاق والشرك عندي أشبه بمعنى الآية من أن يكون المنافق أو الكافر؛ وذلك أن الله تعالى ذكره أتبع هذه الآية قوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}، فعمَّ بدخول الجنة جميع الأصناف الثلاثة.
فإن قال قائل: فإن قوله: {يَدْخُلُونَهَا} إنما عنى به المقتصد والسابق. قيل له: وما برهانك أن ذلك كذلك من خبر أو عقل؟ فإن قال: قيام الحجة بأن الظالم من هذه الأمة سيدخل النار، ولو لم يدخل النار من هذه الأصناف الثلاثة أحد، وجب أن لا يكون لأهل الإيمان وعيد. قيل له: إنه ليس في الآية خبر أنهم لا يدخلون النار، وإنما فيها إخبار من الله تعالى ذكره، أنهم يدخلون جنات عدن، وجائز أن يدخلها الظالم لنفسه بعد عقوبة الله إياه على ذنوبه التي أصابها، وظلمه نفسه فيها، بالنار أو بما شاء من عقابه، ثم يُدخله الجنة فيكون عمَّه خبر الله جلَّ ثناؤه بقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}»[6].
وقال الشنقيطي رحمه الله: «والواو {يَدْخُلُونَهَا} شاملة للظالم، والمقتصد، والسابق على التحقيق، ولذا قال بعض أهل العلم: حُقَّ لهذه الواو أن تكتب بماء العينين؛ فوعده الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة، وأولهم الظالم لنفسه، يدل على أن هذه الآية من أرجى آيات القرآن، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة، فالوعد الصادق بالجنة في الآية شامل لجميع المسلمين»[7].
[1] ذكر اختلاف أهل العلم في ذلك جمع من أئمة التفسير، وممن أطال في ذلك الإمام ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين (1/408 ـ 441) ورجح القول المذكور، لكن المتأمل في القول الثاني وهم من قالوا: إن الظالم لنفسه غير موعود بالجنة، فسروا الظالم بما يناسب ذلك؛ حيث قالوا فيه: إنه الكافر، وبعضهم قال: هو المنافق، وهذا قطعًا ليس من أهل الجنة، وفسروا المقتصد: بالمؤمن العاصي، وهذا عندهم موعود بالجنة، فتحقق والله أعلم أنهم متفقون على أصل المسألة، وهو أن المؤمن العاصي موعود بالجنة، وهذا مما اتفق عليه أهل السُّنَّة قاطبة.
[2] أخرجه الطيالسي في مسنده (3/681) [دار هجر، ط1]، والبيهقي في البعث والنشور (83، 84) [مركز الأبحاث والخدمات الثقافية، ط1، 1406هـ]، من طرق ضعيفة الأسانيد. قال الطبري في تفسيره (19/375) [دار هجر، ط1]: «وقد روي عن رسول الله بنحو الذي قلنا من ذلك أخبار، وإن كان في أسانيدها نظر، مع دليل الكتاب على صحته، على النحو الذي بيَّنت».
[3] تفسير الطبري (19/368)، وأخرجه البيهقي في البعث والنشور (85) رقم (64).
[4] أخرجه الطبري في تفسيره (19/368) [دار هجر، ط1].
[5] رواه ابن جرير في تفسيره (19/370).
[6] تفسير الطبري (19/374، 375).
[7] أضواء البيان (6/184) [دار عالم الفوائد، ط1، 1429هـ].
أصناف المؤمنين الثلاثة سائرون إلى الله تعالى، وإلى دار السلام، موقنون بالرجعى إليه سبحانه وتعالى، لكن هم متفاوتون في التزود، وفي نفسِ السير، وسرعته وبطئه، فحقيقة الظالم لنفسه: مقصر في الزاد، غير آخذ منه ما يبلغه المنزل، لا في قدره، ولا في صفته، ومع ذلك فهو متزود ما يتأذى به في طريقه، ويجد غبَّ أذاه إذا وصل المنزل، بحسب ما تزود من ذلك المؤذي الضار. وحقيقة المقتصد: اقتصر من الزاد على ما يبلغه، ولم يتزود ما يضره، فهو سالم غانم، لكن فاته المتاجر الرابحة. وحقيقة السابق بالخيرات: همه في تحصيل الأرباح، وشدِّ أحمال التجارات الرابحة، لعلمه بمقدار الربح الحاصل، فيرى خسرانًا أن يدخر شيئًا مما بيده، ولا يتجر فيه، فيجد ربحه يوم يغتبط التجار بأرباح تجارتهم[1].
[1] انظر: طريق الهجرتين (1/404)، وجامع العلوم والحكم (2/867) [دار السلام، ط2، 1424هـ] فقد أطال الكلام في بيان حقيقتهم.
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ *} [فاطر] .
وعن أبي الدّرداء رضي الله عنه؛ أنّه قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: « قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}. فأمّا الّذين سبقوا بالخيرات فأولئك الّذين يدخلون الجنّة بغير حساب، وأمّا الّذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابًا يسيرًا، وأمّا الّذين ظلموا أنفسهم فأولئك الّذين يحبسون في طول المحشر، ثمّ هم الّذين تلافاهم الله برحمته، فهم الّذين يقولون: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ *} إلى قوله: {لُغُوبٌ *} [فاطر] »[1].
وقد جاء ذكر السابق بالخيرات والمقتصد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «إن الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش فيها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته»[2].
[1] أخرجه أحمد (36/57) [مؤسسة الرسالة]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/95) [مكتبة القدسي]: «رواه أحمد بأسانيد، رجال أحدها رجال الصحيح»، لكنَّ في سنده انقطاعًا، كما ذكر محققو المسند.
[2] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6502). وقد أفاد بذلك ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10/7).
قال ابن تيمية رحمه الله: «القول الجامع: أن الظالم لنفسه هو المفرِّط بترك مأمور أو فعل محظور، والمقتصد: القائم بأداء الواجبات وترك المحرمات، والسابق بالخيرات: بمنزلة المُقَرَّب الذي يتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض حتى يحبه الحق»[1].
وقال الشنقيطي رحمه الله: «وأظهر الأقوال في المقتصد والسابق والظالم: أن المقتصد هو من امتثل الأمر واجتنب النهي ولم يزد على ذلك، وأن السابق بالخيرات هو من فعل ذلك، وزاد بالتقرب إلى الله بالنوافل، والتورع عن بعض الجائزات خوفًا من أن يكون سببًا لغيره، وأن الظالم هو المذكور في قوله: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] ، والعلم عند الله تعالى»[2].
[1] مجموع الفتاوى لابن تيمية (5/161). وانظر: المرجع السابق (6/391) و(11/183) و(13/337، 384)، وطريق الهجرتين(291 ـ 314) [دار ابن القيم، ط2].
[2] أضواء البيان (1/417) [دار الفكر، 1415هـ]. وانظر: المرجع السابق (5/490)، وتفسير ابن كثير (6/546) [دار طيبة، ط2، 1420هـ]، وتفسير السعدي (689) [مؤسسة الرسالة، 1421هـ].
لم يُذكر أي تقسيم للأصناف الثلاثة فيما تم الوقوف عليه إلا في السابق بالخيرات، فذكر بعض أهل العلم أنهم على قسمين في الدنيا والآخرة.
فأما في الدنيا فيقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وأهل هذه الدرجة على قسمين:
منهم من يقتصرُ من الدُّنيا على قدر ما يسدُّ الرَّمق فقط، وهو حالُ كثيرٍ من الزُّهَّادِ.
ومنهم من يفسح لنفسه أحيانًا في تناول بعض شهواتِها المباحةِ؛ لتقوى النَّفسُ بذلك، وتنشَط للعملِ، كما روي عنِ النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم؛ أنَّه قال: «حُبِّبَ إليَّ من دنياكمُ النِّساءُ والطِّيبُ، وجُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصَّلاة»[1]»[2].
وأما تقسيمهم في الآخرة فيقول ابن القيم رحمه الله: «وأما السابقون بالخيرات فهم نوعان: أبرار، ومقربون»[3].
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الأبرار هم من أصحاب اليمين، وهم المقتصدون؛ أي يكون لقب الأبرار قسيمًا للسابقين بالخيرات؛ إذ ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا *} [الإنسان] ، فهذا في حق الأبرار، وأما في حق السابقين بالخيرات فقال تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا *} [الإنسان] ، وعباد الله هم المقربون، وقال تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ *} [المطففين] ؛ ففرق بين من يشرب منها، ويشرب بها؛ فالأول قد يشرب الشارب ولا يروى، بخلاف الثاني فإنه يشرب مع الري، فالمقربون يروون بها فلا يحتاجون معها إلى ما دونها، فلهذا يشربون منها صرفًا، بخلاف أصحاب اليمين فإنها مزجت لهم مزجًا؛ كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف حيث قالوا: «يمزج لأصحاب اليمين مزجًا، ويشرب بها المقربون صرفًا»[4]، وهو كما قالوا[5].
والذي يظهر أن لقب أصحاب اليمين له إطلاقان:
أحدهما: عام، ويدخل فيه جميع أهل الجنة؛ كالسابقين بالخيرات، والمقتصدين، والظالمين لأنفسهم.
والثاني: إطلاق خاص بالمقتصدين، وهذا الذي يدل عليه كلام ابن القيم في مواضع، كقوله: «وهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أهل اليمين: وهم المقتصدون، والأبرار، والمقربون، وأما الظالم لنفسه فليس من أصحاب اليمين عند الإطلاق، وإن كان مآله إلى أصحاب اليمين، كما أنه لا يسمى مؤمنًا عند الإطلاق، وإن كان مصيره ومآله مصير المؤمنين، بعد أخذ الحق منه»[6].
وأما تخصيصهم بالمقتصدين فيقول رحمه الله: «فأما مرتبة أصحاب اليمين: فأداء الواجبات وترك المحرمات، مع ارتكاب المباحات وبعض المكروهات وترك بعض المستحبات.
وأما مرتبة المقربين فالقيام بالواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمكروهات، زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم متورعين عما يخافون ضرره، وخاصتهم قد انقلبت المباحات في حقهم طاعات وقربات بالنية»[7].
وهذا الأخير هو الذي تجد ابن تيمية كثيرًا ما يقرره؛ من ذلك قوله: «فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض، يفعلون ما أوجب الله عليهم، ويتركون ما حرم الله عليهم، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات، ولا الكف عن فضول المباحات.
وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المكروهات والمحرمات»[8].
[1] أخرجه النسائي (كتاب عشرة النساء، رقم 3939)، وأحمد (19/305) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب النكاح، رقم 2676) وصححه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (رقم 3124) [المكتب الإسلامي].
[2] جامع العلوم والحكم (2/876).
[3] انظر: طريق الهجرتين (1/407).
[4] ذكره الطبري.
[5] انظر: مجموع الفتاوى (11/176 ـ 180).
[6] انظر: طريق الهجرتين (1/407).
[7] مدارج السالكين (1/107، 108) [دار الكتاب العربي، ط2، 1393هـ].
[8] مجموع الفتاوى (11/184).
تفاوت مراتب المؤمنين في الدنيا يلزم منه تفاوتهم في الجنة، فأعلى مرتبة في الجنة هي مرتبة السابقين بالخيرات، ودونها مرتبة المقتصدون، ودونها مرتبة الظالمين لأنفسهم.
تقدم ما روي عن ابن الحنفية أنه قال: «إنها أمة مرحومة، الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنان عند الله، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله»[1].
قال السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ *أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ *} [الواقعة] : «أي: السابقون في الدنيا إلى الخيرات، هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات، أولئك الذين هذا وصفهم، المقربون عند الله في جنات النعيم، في أعلى عليين، في المنازل العاليات، التي لا منزلة فوقها»[2].
[1] رواه ابن جرير في تفسيره (19/370).
[2] تفسير السعدي [دار السلام، ط2، 1422هـ].
مراتب المؤمنين في الدنيا خاصة بأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، كما روي ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «كلهم من هذه الأمة»[1].
وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أنه قال: «هم أمة محمد، ورثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب»[2].
قال ابن تيمية رحمه الله: «لكن هذه الأصناف الثلاثة في هذه الآية هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم خاصة؛ كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ *} [فاطر] ، وأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم هم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمم المتقدمة، وليس ذلك مختصًّا بحُفاظ القرآن؛ بل كل من آمن بالقرآن فهو من هؤلاء، وقسمهم إلى: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق، بخلاف الآيات التي في الواقعة، والمطففين، والانفطار فإنه دخل فيها جميع الأمم المتقدمة، كافرهم، ومؤمنهم، وهذا التقسيم لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم»[3].
[1] أخرجه الطبراني في الكبير (1/167) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، والبيهقي في البعث والنشور (84) [مركز الخدمات والأبحاث الثقافية، ط1]، وقال الهيثمي في المجمع (7/96) [مكتبة القدسي]: فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو سيِّئ الحفظ.
[2] تقدم تخريجه.
[3] مجموع الفتاوى (11/183).
خالف أهل الأهواء والبدع أهل السُّنَّة والجماعة في مسمَّى الظالم لنفسه وحكمه، وهم صنفان:
الصنف الأول: الخوارج ومن وافقهم، كفَّروه فسلبوه اسم الإيمان بالكلية، وحكموا عليه بالخلود في نار جهنم يوم القيامة، ووافقهم المعتزلة في حكمه في الآخرة، لكن خالفوهم في اسمه في الدنيا وما يترتب عليه من أحكام دنيوية، فحكموا عليه بالمنزلة بين المنزلتين؛ أي: هو عندهم بين منزلتي الإيمان والكفر، وسموه فاسقًا، فلا هو مؤمن بحال من الأحوال ولا هو كافر.
والصنف الثاني: المرجئة الذين أعطوه اسم الإيمان الكامل، فقالوا: هو مؤمن كامل الإيمان، وحكموا عليه في الآخرة بأنه من أهل الجنة ابتداءً.
فهاتان الطائفتان كل منهما على طرفي نقيض؛ إذ إن الظالم لنفسه لا يعطى اسم الإيمان الكامل، ولا ينفى عنه اسم الإيمان بالكلية؛ إذ معه أصل الإيمان، الذي ينجيه من الخلود في نار جهنم، وهذا الذي يدل عليه الكتاب والسُّنَّة، وعليه وإجماع أهل السُّنَّة:
فمن الكتاب : آية الاصطفاء التي هي أصل المسألة؛ قال ابن تيمية: «ومعلوم أن الظالم لنفسه إن أريد به من اجتنب الكبائر، والتائب من جميع من الذنوب، فذلك مقتصد، أو سابق؛ فإنه ليس أحد من بني آدم يخلو عن ذنب، لكن من تاب كان مقتصدًا أو سابقًا، كذلك من اجتنب الكبائر كفرت عنه السيئات؛ كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] ، فلا بد أن يكون هناك ظالم لنفسه، موعود بالجنة، ولو بعد عذاب يطهر من الخطايا»[1].
وقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] ، فسمَّاهم مؤمنين مع وقوعهم في كبيرة القتل، فلم يسلبهم اسم الإيمان بالكلية.
وقد تواترت أحاديث كثيرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من أنه يخرج أقوام من النار بعدما دخلوها، وهم الظالمون لأنفسهم، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يشفع في أقوامٍ دخلوا النار، وهذا مما يبطل مذهب الخوارج الذين حكموا عليهم بالخلود في نار جهنم؛ منها:
حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلّى الله عليه وسلّم فيدخلون الجنة يسمون الجهنميين»[2].
وحديث الشفاعة الطويل وفيه: «فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة، أو خردلة من إيمان فأخرجه»[3].
وحديث: «إنِّي لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولاً»[4].
وأما مذهب المرجئة الذين وصفوا الظالم لنفسه بالمؤمن الكامل ففيه مخالفة ظاهرة للقرآن والسُّنَّة كذلك:
فمن القرآن : قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال] .
فهؤلاء الذين وصفهم الله تعالى بالمؤمنين حقًّا، هم من أتوا بتلك الأعمال الظاهرة والباطنة على وجه الكمال والتمام، فلا يدخل فيهم من أخل بالواجبات، وارتكب المحرمات، وإن كانوا يدخلون في خطاب أهل الإيمان.
قال الفضيل بن عياض: «إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل، وأن المؤمن إذا كان مؤمنًا حقًّا فهو من أهل الجنة، فمن لم يشهد أن المؤمن حقًّا من أهل الجنة فهو شاكٌّ في كتاب الله عزّ وجل، مُكذِّب به، أو جاهل لا يعلم، فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن حقًّا، مستكمل الإيمان، ولا يُستكمَل الإيمان إلا بالعمل، ولكن لا يستكمل عبد الإيمان، ولا يكون مؤمنًا حقًّا، حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه. يا سفيه ما أجهلك، لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مؤمن حقًّا مستكمل الإيمان! والله لا تكون مؤمنًا حقًّا مستكمل الإيمان، حتى تؤدِّي ما افترض الله عزّ وجل عليك، وتجتنب ما حرَّم عليك، وترضى بما قسم الله عزّ وجل لك، ثم تخاف مع هذا أن لا يقبل الله عزّ وجل منك»[5].
ويقول ابن تيمية ـ في بيان عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة ـ: «ولا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار، كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان في مثل قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}»[6].
وقال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ *} [الحجرات] . قال ابن تيمية: «فدلَّ البيان على أن الإيمان المنفي عن هؤلاء الأعراب: هو هذا الإيمان الذي نفي عن فساق أهل القبلة الذين لا يخلدون في النار، بل قد يكون معه أحدهم مثقال ذرة من إيمان، ونفي هذا الإيمان لا يقتضي ثبوت الكفر الذي يخلد صاحبه في النار، وبتحقق هذا المقام يزول الاشتباه في هذا الموضع»[7].
ومن السُّنَّة : حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ أنه قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن»[8].
فهذا الحديث أورده مسلم وعنون له النووي بقوله: «باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي، ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كمال»؛ أي: مقصوده: أنه نفى عنه الاسم المطلق، الذي هو الإيمان المطلق، فليس هو بمؤمن كامل الإيمان، بل هو ناقص الإيمان.
قال الإمام ابن عبد البر: «يريد مستكمل الإيمان، ولم يرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك»[9].
[1] مجموع الفتاوى (7/485).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6566).
[3] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7510) واللفظ له، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 193).
[4] أخرجه البخاري (كتاب الرقاق، رقم 6571)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 186).
[5] أخرجه عبد الله بن أحمد في السُّنَّة (327).
[6] مجموع الفتاوى (3/151).
[7] مجموع الفتاوى (7/478).
[8] أخرجه البخاري (كتاب المظالم والغصب، رقم 2475)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 57).
[9] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والمسانيد (9/243) [مؤسسة قرطبة، ط1، 1399هـ].
1 ـ «الإحسان في ضوء الكتاب والسُّنَّة»، لأحمد الغامدي.
2 ـ «الإحسان في ضوء القرآن الكريم والسُّنَّة المطهرة»، لرياض محمود جابر.
3 ـ «أضواء البيان»، للشنقيطي.
4 ـ «بحر العلوم»، للسمرقندي.
5 ـ «تفسير الطبري».
6 ـ «تفسير القرطبي».
7 ـ «جامع العلوم والحكم»، لابن رجب.
8 ـ «الدر المنثور»، للسيوطي.
9 ـ «طريق الهجرتين»، لابن القيم.
10 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.