حرف الميم / المراقبة

           

المراقبة : من الرقب. وهو: الانتصاب لمراعاة شيء. من ذلك: الرقيب. وهو: الحافظ والحارس والمنتظر[1].
قال الجوهري: «تقول: رقبت الشيء أرقبه رقوبًا، ورِقبةً، ورِقبانًا بالكسر فيهما؛ إذا رصدته. وراقب الله في أمره؛ أي: خافه. والترقب: الانتظار، وكذلك الارتقاب»[2].
فالمراقبة إذن هي: الانتصاب لمراعاة شيء ورصده وانتظاره؛ حفظًا لأمره وحراسةً له.


[1] انظر: مقاييس اللغة (2/427) [دار الجيل، 1420هـ]، وتهذيب اللغة (9/128) [الدار المصرية للتأليف والترجمة، ط1، 1384هـ]، والقاموس المحيط (90) [مؤسسة الرسالة، ط7، 1424هـ].
[2] الصحاح (1/137، 138) [دار العلم للملايين، ط4، 1407هـ].


المراد بالمراقبة : ملاحظة العبد ربَّه سبحانه وتيقنه باطلاعه على ظاهره وباطنه، واستحضار ذلك استحضارًا يثمر اجتناب المناهي وفعل الأوامر[1].


[1] انظر: إحياء علوم الدين (4/364) [دار الكتب العلمية، ط1، 1419هـ]، ومدارج السالكين (2/79، 80) [مكتبة الرشد، ط1، 1426هـ].


تضمُّن المعنى الاصطلاحي للمعنى اللغوي للمراقبة ظاهر، فإن مراقبة الله هي انتصاب القلب للنظر في أوامر الرب سبحانه وحفظه فيها ومجاهدة النفس على التزام حدودها.



يجب على العبد مراقبة الله سبحانه وتعالى في كل أحواله حتى لا يضيع أمر الله، وحتى لا يقع فيما نهى عنه الله؛ لأن هذه المراقبة هي أساس الأعمال القلبية كلها من الحياء والسكينة والمحبة والخضوع والخشوع والخوف والرجاء ونحوها[1]، وهذه الأعمال القلبية هي المحركة لأعمال الجوارح.
وتتأكد هذه المراقبة في الخلوات حيث لا يراه أحد إلا الله تعالى، وقد جاء الوعيد الشديد لمن لا يراقب الله في خلواته، كما في حديث ثوبان؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا فيجعلها الله عزّ وجل هباء منثورًا» . قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا جَلِّهم لنا؛ أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: «أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها»[2].


[1] انظر: إعلام الموقعين (4/255).
[2] أخرجه ابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4245)، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/246) [دار العربية، ط1]: «هذا إسناد صحيح رجاله ثقات»، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 2346) [مكتبة المعارف، ط5].


حقيقة المراقبة : ملاحظة الرقيب وانصراف الهمم إليه. فمن احترز من أمر من الأمور بسبب غيره يقال: إنه يراقب فلانًا ويراعى جانبه، ويعني بهذه المراقبة حالة للقلب يثمرها نوع من المعرفة، وتثمر تلك الحالة أعمالاً في الجوارح وفي القلب.
أما الحالة فهي مراعاة القلب للرقيب واشتغاله به والتفاته إليه وملاحظته إياه وانصرافه إليه.
وأما المعرفة التي تثمر هذه الحالة فهو العلم بأن الله مطلع على الضمائر، عالم بالسرائر، رقيب على أعمال العباد، قائم على كل نفس بما كسبت، وأن سر القلب في حقه مكشوف كما أن ظاهر البشرة للخلق مكشوف بل أشد من ذلك.
فهذه المعرفة إذا صارت يقينًا وخلت عن الشك ثم استولت بعد ذلك على القلب وقهرته استَجَرَّت القلب إلى مراعاة جانب الرقيب وصرفت همه إليه.
والمؤمنون في مراقبة ربهم على درجات متفاوتة كتفاوتهم في الإيمان، فمنهم الصديقون السابقون، ومنهم المقتصدون أصحاب اليمين، ومنهم المقصر الظالم لنفسه[1].
فالعبد لا يخلو؛ إما أن يكون في طاعة، أو في معصية، أو في مباح:
فمراقبته في الطاعة: بالإخلاص والإكمال ومراعاة الأدب وحراستها عن الآفات.
وإن كان في معصية: فمراقبته بالتوبة والندم والإقلاع والحياء والاشتغال بالتفكر.
وإن كان في مباح: فمراقبته بمراعاة الأدب ثم بشهود المنعم في النعمة وبالشكر عليها.
ولا يخلو العبد في جملة أحواله عن بلية لا بد له من الصبر عليها، ونعمة لا بد له من الشكر عليها، وكل ذلك من المراقبة[2].
وهذه المراقبة هي تعبُّد لله بأسمائه: الرقيب، الحفيظ، العليم، السميع، البصير، اللطيف، الخبير. فمن عقل هذه الأسماء وتعبَّد بمقتضاها: حصلت له المراقبة[3].


[1] انظر: إحياء علوم الدين (4/346).
[2] انظر: المصدر نفسه (4/350).
[3] انظر: مدارج السالكين (2/81).


منزلة المراقبة من منازل السالكين في طريقهم إلى ربهم المرسوم لهم في قوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *}، فهي منزلة جليلة، والحاجة إليها ملحة عظيمة، بل هي «أساس الأعمال القلبية كلها وعمودها الذي قيامها به، ولقد جمع النبي صلّى الله عليه وسلّم أصول أعمال القلب وفروعها كلها في كلمة واحدة وهي قوله في الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه» [1]. فتأمل كل مقام من مقامات الدين وكل عمل من أعمال القلوب كيف تجد هذا أصله ومنبعه!»[2].
والتعبد لله بهذه المنزلة (المراقبة) هو تعبد له باسم من أسمائه الحسنى، فإنه سبحانه القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على كل جارحة بما اجترحت، المطلع على ضمائر القلوب إذا هجست، الحسيب على خواطر عباده إذا اختلجت، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض تحركت أو سكنت، المحاسِب على النقير والقطمير والقليل والكثير من الأعمال وإن خفيت، وإنما يحاسبهم لتعلم كل نفس ما أحضرت، وتنظر فيما قدَّمت وأخَّرت؛ فتعلم أنه لولا لزومها للمراقبة والمحاسبة في الدنيا لشقيت في صعيد القيامة وهلكت، وبعد المجاهدة والمحاسبة والمراقبة لولا فضله بقَبول بضاعتها المزجاة لخابت وخسرت، والله قد قال في محكم كتابه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ *} [الأنبياء] ، فعرف أرباب البصائر من جملة العباد أن الله تعالى لهم بالمرصاد وأنهم سيناقشون في الحساب ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات، وتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة، ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته[3].


[1] سيأتي تخريجه في الأدلة.
[2] إعلام الموقعين (4/255).
[3] انظر: إحياء علوم الدين (4/347، 348).


من القرآن : قوله تعالى: ({وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] .
وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *} [الحشر] .
وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا *} [النساء] .
ومن السُّنَّة : ما جاء في حديث جبريل عليه السلام، أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإحسان فقال له: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»[1].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلَّق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق، أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه»[2].
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالِق الناس بخُلق حسن»[3].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 50)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 9)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم (كتاب الإيمان، رقم 8)، من حديث عمر رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري (كتاب الأذان، رقم 660)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 1031).
[3] أخرجه الترمذي (أبواب البر والصلة، رقم 1987) وقال: «حسن صحيح»، وأحمد (35/284) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والدارمي (كتاب الرقاق، رقم 2833)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 2655) [مكتبة المعارف، ط5].


قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر، يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية»[1].
وقال سفيان الثوري رحمه الله: «عليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة»[2].
وقال عبد الله بن المبارك لرجل: «راقب الله تعالى. فسأله عن تفسيرها، فقال: كن أبدًا كأنك ترى الله عزّ وجل»[3].


[1] أخرجه ابن المبارك في الزهد (103) [دار الكتب العلمية]، وابن أبي شيبة في المصنف (كتاب الزهد، رقم 34459).
[2] إحياء علوم الدين (4/346).
[3] المصدر نفسه (4/297).


مراقبة الله تثمر تحقيق مرتبة الإحسان، التي هي إتقان كل أعمال الإسلام والإيمان الظاهرة والباطنة، وبها تحصل الخصلة الجامعة لكل خير: تقوى الله عزّ وجل.
ومن أفراد تلك الثمرات ما يلي:
1 ـ تحريك القلوب بأعمالها الجليلة. فكلما اشتدت هذه المراقبة أوجبت له من الحياء والسكينة والمحبة والخضوع والخشوع والخوف والرجاء والخشية والهيبة والتعظيم ما لا يحصل بدونها، فالمراقبة أساس الأعمال القلبية كلها وعمودها الذي قيامها به[1].
2 ـ النُّصح في العبادة، وبذل الجُهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها[2].
3 ـ إيثار ما أنزل الله وتعظيم ما عظم الله وتصغير ما صغر الله[3].
4 ـ «مراقبة الله تعالى في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر؛ فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته»[4].
5 ـ دعاء الله سبحانه بأسمائه الحسنى: الرقيب، الحفيظ، العليم، السميع، البصير، اللطيف، الخبير، فمن عقل هذه الأسماء ودعا الله بها دعاء عبادة ودعاء مسألة: حصلت له المراقبة[5].
6 ـ الفرحة والنعيم واللذة التي يجدها في تلك المراقبة والمناجاة لله عزّ وجل، فإن سرور القلب مع الله وفرحه به وقرة العين به لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا ألبتة، وليس له نظير يقاس به وهو حال من أحوال أهل الجنة[6].
7 ـ محبة الله لعبده وقربه منه ومعيِّته له[7].
8 ـ الفوز برضا الله وجنته والنجاة من سخطه وناره.


[1] انظر: إعلام الموقعين (4/255)، وجامع العلوم والحكم (49).
[2] انظر: جامع العلوم والحكم (49)، وشرح النووي على مسلم (1/112) [دار المعرفة، ط10، 1425هـ].
[3] انظر: مدارج السالكين (2/80).
[4] المرجع السابق (2/81).
[5] انظر: المصدر نفسه.
[6] انظر: مدارج السالكين (2/82).
[7] انظر: صيد الخاطر (230) [اليمامة، ط2، 1423هـ].


1 ـ «إحياء علوم الدين» (ج4)، للغزالي.
2 ـ «إعلام الموقعين» (ج4)، لابن القيم.
3 ـ «إغاثة اللهفان»، لابن القيم.
4 ـ «بستان الواعظين»، لابن الجوزي.
5 ـ «جامع العلوم والحكم»، لابن رجب.
6 ـ «الزهد»، لأحمد بن حنبل.
7 ـ «صيد الخاطر»، لابن الجوزي.
8 ـ «مختصر منهاج القاصدين»، لابن قدامة.
9 ـ «مدارج السالكين» (ج2)، لابن القيم.
10 ـ «ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها»، لعبد العزيز الجليل.