مريم : اسمُّ أم عيسى عليه السلام، وهو اسم عبراني، نُقِلَ للعربية على حاله لخِفَّته، ولا معنى لمريم في العربيَّة غير العَلَميَّة، إلا أنَّ العرب المتنصِّرة عاملوه معاملة الصِّفة في معنى: المرأة المتباعدة عن مشاهدة النساء؛ لأن هذه الصِّفة اشتهرت بها مريم؛ إذ هي أول امرأة عبرانية خدمَت بيت المقدس؛ فلذلك يقولون: (امرأةٌ مريمٌ)؛ أي: مُعْرِضَة عن صفات النساء، أو تكثِر مجالسة الرِّجال، كما يقولون: رجل حاتم؛ بمعنى: جوَاد، وذلك معلوم منهم في الأعلام المشتهرة بالأوصاف.
وقيل: بل هو عربيٌّ، مشتقٌّ من (رام، يَريم).
وقيل: هو معرَّب (مارية).
وهما ضعيفان؛ والصحيح أنه عبرانيٌّ.
وينبغي أن يكون وزنها: (فَيْعَل) بفتح الفاء، وإنْ كان نادرًا، بل قيل: ليس في كلام العرب (فَيْعَل) بفتح الفاء والياء[1].
[1] انظر: الاشتقاق لابن دُرَيد ـ مع تعليق محقِّقه ـ (347) [دار الجيل، بيروت، ط1، 1411هـ]، وجمهرة اللغة له (باب: فَيْعَل، من أبواب: ما يُلحَق بالرُّباعيّ بحرفٍ من حروف الزَّوائد)، والصحاح (5/1940) [دار العلم للملايين، ط4، 1990م]، وتاج العروس (32/302) [مطبعة حكومة الكويت]، والتحرير والتنوير (1/594، 3/243) [دار سحنون، تونس، 1997م].
يجب على المسلم الإيمان بأن مريم بنت عمران هي والدة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وأن الله خصَّها بما لم يؤته أحدًا من النِّساء؛ وذلك أنَّ رُوح القُدُس كلَّمها، وظهر لها، ونفخ في دِرعها، ودنا منها للنَّفخة؛ فحملت بعيسى عليه السلام دون أن يمسها بشر، وأنها صدَّقت بكلمات ربِّها، ولم تسأل آيةً عندما بُشِّرت بعيسى عليه السلام؛ ولذلك سمَّاها الله في تنزيله صِدِّيقة فقال: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75] ، وقال: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ *} [التحريم] ؛ فشهد لها بالصِّدِّيقية، وشهد لها بالتَّصديق لكلمات البشرى، وشهد لها بالقنوت[1].
[1] انظر: تفسير القرطبي (4/83).
وقد مدحها الله عزّ وجل وأثنى عليها وذكر فضلها في مواضع عديدة من القرآن الكريم؛ منها:
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ *} [آل عمران] ، وقوله جلّ جلاله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75] ؛ فوصفها بمقام الصِّدِّيقية؛ لفرط صدقها ومبالغتها في امتثال ما يكلِّفها الله تعالى به، لا يصدها عن ذلك شيء؛ يوضحه قوله تعالى عنها: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ *} [التحريم] . إلى غير ذلك من الآيات.
وصح في فضائلها عليها السلام غير حديث؛ منها:
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون» [1]، وغير ذلك من الأحاديث.
[1] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3433)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، رقم 2431)، من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه.
قال الله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75] ، وقال سبحانه: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ *} [التحريم] .
ومن السُّنَّة : قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد؛ فيستهل صارخًا من مس الشيطان إياه، إلا مريم وابنها» [1]، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «خير نسائها: مريم ابنة عمران، وخير نسائها: خديجة»[2].
[1] أخرجه البخاري (كتاب التفسير، رقم 4548)، ومسلم (كتاب الفضائل، رقم 2366).
[2] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3432)، ومسلم (كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، رقم 2430).
المسألة الأولى: تسمية مريم عليها السلام بأخت هارون:
استشكلَ البعضُ قولَ الله تعالى عن مريم عليها السلام حكايةً عن قومِها: {يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا *} [مريم] ؛ ظنًّا منهم أنَّ هارون أخاها ـ المذكور في الآية ـ هو أخو موسى عليه السلام، وموسى كان قبل ابنها عيسى عليه السلام بأكثر من ألف وستمائة سنة؛ فلا يتصور أن تكون أختًا لهارون عليه السلام! وطعن بعض المستشرقين من نصارى العصر الحديث في القرآن الكريم لأجل هذه الآية![1].
وهذه «مجازفة! فإن النصارى لا يعرفون اسم أبي مريم أم عيسى عليه السلام! فليس في كتبهم ذكر لاسمه ولا لمولدها، ولكن قصتها تبتدئ فجأة بأن عذراء في بلد النّاصرة مخطوبة ليوسف النّجار قد حملت من غير زوج»[2].
وهذا الاستشكال قديم؛ سبقهم إليه أهل نجران في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ كما ثبت في «صحيح مسلم»، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: لمَّا قدمت نجران سألوني فقالوا: إنَّكم تقرؤون: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28] ، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟! فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألته عن ذلك؛ فقال: «إنّهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصّالحين قبلهم»[3] ؛ وفي بيانه صلّى الله عليه وسلّم هذا «تجهيل لأهل نجران أن طعنوا في القرآن، على توهم أن ليس في القوم من اسمه هارون إلا هارون الرسول أخا موسى»[4]!
فظهر بهذا الجواب عن هذا الاستشكال؛ وأنّ هارون المذكور في الآية ليس هو هارون أخا موسى ـ فمريم من نسله ـ؛ وإنّما هو أخ لها «اسمه هارون، كان صالحًا في قومه، خاطبوها بالإضافة إليه زيادة في التوبيخ؛ أي: ما كان لأخت مثله أن تفعل فعلتك!»[5].
المسألة الثانية: هل هي نبيَّة:
الصّحيح ـ وحكي إجماعًا ـ أنّها ليست نبيّة، وأنّه ليس في النساء نبيّة؛ إنّما غاية ما انتهى إليه أمرها هو الصّدّيقية؛ كما وصفها الله تعالى في كتابه الكريم في معرض بيان غاية فضلها دفعًا لغلو النصارى فيها، ولم تثبت نبوّتها بدليل صريح لا من الكتاب ولا من السُّنَّة.
المسألة الثالثة: المفاضلة بينها وبين نساء هذه الأمة:
تقدم أن مريم الصدِّيقة والدة المسيح عليه السلام لم تكن نبيّة، إنما ميزها الله تعالى بأمور فضَّلها بها على نساء العالمين، من ذلك: تبشير الله لها بعيسى على لسان الملائكة؛ كما قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ *} [آل عمران] ، وبشّرها أيضًا على لسانهم بالاصطفاء على نساء العالمين والتَّطهير، والمراد بنساء العالمين؛ أي: اللاتي كنّ وقت زمانها؛ كما قال: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ *} [آل عمران] ، وكلَّمها جبريل عليه السلام بقوله: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَِهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا *} [مريم] . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حقها: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون»[6] ؛ فالمراد: بلوغها النِّهاية في جميع الفضائل التي لنساء زمانها.
وإذا نظرنا في النصوص الواردة في تفضيل نساء هذه الأمة بعضهن على بعض، وجدنا أن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم هي أفضل نساء هذه الأمة[7]، بدليل أن اللفظ الوارد في تفضيل خديجة وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خير نسائها خديجة» [8]. إنما يتضح تمام معناه بمعرفة الضمير على أي شيء يعود، وقد ورد ما يفسِّر ذلك صريحًا فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «لقد فضلت خديجة على نساء أمتي» [9]. فهذا النص في خديجة رضي الله عنها يدل على أنها أفضل نساء هذه الأمة. وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم لعائشة ـ لما تكلمت على خديجة ـ: «ما أبدلني الله عزّ وجل خيرًا منها»[10].
فلم يبق إذًا إلا المفاضلة بين مريم الصدِّيقة وبين خديجة رضي الله عنها.
وإذا عرضنا النصوص الواردة في شأنهما رضي الله عنهما، والتي منها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة»[11].
يظهر المساواة بينهما في الفضيلة، وأن كلّ واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها، وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه. والله أعلم[12].
قال ابن حجر: «فعلى هذا: مريم خير نساء الأمم الماضية، وخديجة خيرُ نساء الأمم الكائنة»[13].
[1] التحرير والتنوير (20/72).
[2] المرجع السابق، وانظر منه: (3/243).
[3] أخرجه مسلم (كتاب الآداب، رقم 2135).
[4] التحرير والتنوير (16/96).
[5] المرجع السابق (16/95). وانظر: تفسير الفخر الرازي (21/530) [دار إحياء التراث العربي، بيروت]، وتفسير القرطبي (11/100)، وتفسير ابن كثير (5/226) [دار طيبة، ط2، 1420هـ]، والبداية والنهاية له (1/319)، وروح المعاني للآلوسي (16/88) [إدارة الطباعة المنيرية، مصر].
[6] تقدم تخريجه.
[7] انظر: عارضة الأحوذي لابن العربي (13/253). قال ابن حجر: «وزعم ابن العربي أنه لا خلاف في أن خديجة أفضل من عائشة، ورُد بأن الخلاف ثابت قديمًا وإن كان الراجح أفضلية خديجة» فتح الباري (7/139). ولمزيد اطلاع على الخلاف الوارد في تفاضل الصحابيات، انظر: كتاب مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد أبو سيف (275) [دار ابن عفان].
[8] تقدم تخريجه.
[9] أخرجه البزار في مسنده (4/255) [مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط1، 1414هـ]، والطبري في التفسير (6/399) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/223) [مكتبة القدسي]: (فيه أبو يزيد الحميري، ولم أعرفه، وبقية رجاله وثقوا)، وضعفه أحمد شاكر في تحقيقه لتفسير الطبري.
[10] أخرجه الإمام أحمد (41/356) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وقال ابن كثير في البداية والنهاية (4/320): «تفرد به أحمد أيضًا، وإسناده لا بأس به».
[11] تقدم تخريجه.
[12] انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (15/198) [دار إحياء التراث العربي، ط2]، وتفسير القرطبي (4/83، 13/250) [دار إحياء التراث العربي، 1405هـ]، والأذكار للنووي (100)، والجواب الصَّحيح (2/349) [دار العاصمة، ط1]، ومجموع الفتاوى (4/396، 11/364، 18/266)، والصَّفديَّة (1/198)، وتفسير ابن كثير (3/158، 4/422)، والبداية والنهاية (2/70) [دار إحياء التراث العربي، ط1، 1408هـ]، وفتح الباري لابن حجر (6/471، 7/135) [دار المعرفة، 1379هـ]، وتحفة الأحوذي (10/265)، وإمتاع الأسماع للمقريزي (10/270) [دار الكتب العلمية، ط1].
[13] الإصابة في تمييز الصحابة (8/102) [دار الكتب العلمية، ط1، 1415هـ].
1 ـ «إمتاع الأسماع» (ج10)، للمقريزي.
2 ـ «تاريخ دمشق» (ج70)، لابن عساكر.
3 ـ «تهذيب الأسماء واللُّغات» (ج2)، للنووي.
4 ـ «الجامع لأحكام القرآن» (ج4، 11)، للقرطبي.
5 ـ «الجواب الصحيح» (ج2)، لابن تيمية.
6 ـ «فتح الباري» (6، 7)، لابن حجر.
7 ـ «صحيح البخاري».
8 ـ «صحيح مسلم».
9 ـ «مختصر الفتاوى المصرية»، للبعلي الحنبلي.
10 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية» (ج8)، لابن تيمية.