المشيئة : مصدر من شاء، يقال: شاء يشاء مشيئة، جاء في لسان العرب: «المشيئة: الإرادة، شئت الشيء أشاؤه شيئًا ومشيئة ومشاءة ومشاية»[1]، وقال الفارابي: «شاءَ مَشيئةً، وهي أخص من الإرادة»[2].
[1] لسان العرب (1/103) [دار صادر]. وانظر: تهذيب اللغة (11/306) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 2001م]، والصحاح (1/58) [دار العلم للملايين، ط4].
[2] ديوان الأدب (4/218) [مؤسسة دار الشعب، القاهرة، ط1، 1424هـ].
إن الله عزّ وجل موصوف بالمشيئة، وهي صفة من صفات الله الذاتية من حيث النوع، وصفة من صفات الله الفعلية من حيث الأفراد، وهي ثابتة لله بنصوص الكتاب والسُّنَّة، كما يليق بجلاله وعظمته[1].
[1] انظر: صفات الله عزّ وجل للسقاف (57) [دار الهجرة، ط3، 1426هـ]، وكتاب صفات الله عزّ وجل لصالح المسند (129، 130) [دار المدني، جدة، ط2، 1412هـ]، ومعجم ألفاظ العقيدة (392) [مكتبة العبيكان، ط2، 1420هـ].
قال الله تعالى: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 ـ 24] ، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] ، وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [آل عمران] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احتجَّت النار والجنة، فقالت هذه: يدخلني الجبارون والمتكبرون. وقالت هذه: يدخلني الضعفاء والمساكين. فقال الله عزّ وجل لهذه: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، وقال لهذه: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها»[1].
وعن قتيلة ـ امرأة من جهينة ـ أن يهوديًّا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنكم تنددون، وإنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: «ورب الكعبة» . ويقولون: «ما شاء الله، ثم شئت»[2].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن رجلاً أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فكلمه في بعض الأمر، فقال: ما شاء الله وشئت. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أجعلتني لله عدلاً! قل: ما شاء الله وحده»[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4850)، ومسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2846)، واللفظ له.
[2] أخرجه النسائي (كتاب الأيمان والنذور، رقم 3773)، وأحمد (45/43) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب الأيمان والنذور، رقم 7815) وصححه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 136).
[3] أخرجه ابن ماجه (كتاب الكفارات، رقم 2117)، وأحمد (3/339) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والبخاري في الأدب المفرد (274) [دار البشائر الإسلامية، ط3]، والنسائي في عمل اليوم والليلة (545) [مؤسسة الرسالة، ط2] واللفظ له، وحسنه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1056) [دار ابن حزم، ط1]، والألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 139).
قال أبو الحسن الأشعري: «جملة ما عليه أهل الحديث والسُّنَّة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله لا يردون من ذلك شيئًا، وأن الله سبحانه إله واحد فرد صمد، وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله كما قال عزّ وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] ، وكما قال المسلمون: ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون»[1].
وقال أيضًا: «وأجمعوا على إثبات حياة الله عزّ وجل، لم يزل بها حيًّا وإرادة لم يزل بها مريدًا»[2].
وقال أبو بكر الإسماعيلي: «ويقولون ما يقوله المسلمون بأسرهم: ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}، ويقولون: لا سبيل لأحد أن يخرج عن علم الله ولا أن يغلب فعلُه وإرادتُه مشيئةَ الله، ولا أن يبدل علم الله، فإنه العالم لا يجهل ولا يسهو، والقادر لا يغلب عليه»[3].
وقال ابن تيمية: «وكذلك وصف نفسه بالمشيئة، ووصف عبده بالمشيئة، وكذلك وصف نفسه بالإرادة، ووصف عبده بالإرادة، ومعلوم أنَّ مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد، ولا إرادته مثل إرادته»[4].
[1] مقالات الإسلاميين (291) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3].
[2] رسالة إلى أهل الثغر (223) [الجامعة الإسلامية، ط2، 1427هـ].
[3] اعتقاد أئمة أهل الحديث (51) [دار العاصمة، ط1، 1412هـ].
[4] مجموع الفتاوى (3/13).
المسألة الأولى: المشيئة من مراتب القدر:
الإيمان بالقدر خيره وشره ركن من أركان الإيمان، والقدر له مراتب ودرجات، والمشيئة، هي المرتبة الثالثة من مراتب القدر، قال ابن القيم: «المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة المشيئة، وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه، وأدلة العقول والعيان. وليس في الوجود موجب ومقتض إلا مشيئة الله وحده، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهذا عموم التوحيد الذي لا يقوم إلا به، والمسلمون من أوَّلِهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن»[1].
فنحن معشر المسلمين نؤمن بأن الله قد شاء كل ما في السماوات والأرض، ولا يكون شيء فيهما إلا بمشيئته تعالى، ومن الأدلة الكثيرة على ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48] فلو شاء الله لجعلكم تبعًا لشريعة واحدة، وكتاب واحد، ورسول واحد ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك، ابتلاء واختبارًا لكم، فكنتم على الحالة التي أنتم عليها، فمشيئة الله مطلقة، والنافذ هو ما يشاؤه سبحانه، فهذا دليل واحد من الأدلة الكثيرة الدالة على مرتبة المشيئة من مراتب القضاء والقدر[2].
المسألة الثانية: حكم قول: ما شاء الله وشاء فلان:
الواجب على العبد أن يعظِّم الله تعالى حق التعظيم، وأن ينزهه تعالى عن جميع شوائب الشرك حتى في الكلمات والألفاظ، فلا يجوز أن يقول قائل لأحد من المخلوقين: ما شاء الله وشئتَ، أو: ما شاء الله وشاء فلان، ونحو ذلك من العبارات، فإنها من التنديد والتشريك في مشيئة الله تعالى، وقد نهى عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم بألفاظ واضحة صريحة، وعده أهل العلم من الشرك الأصغر، فالحذر الحذر من ذلك، وإن كان قائلاً ولا بد فليقل: ما شاء الله ثم شئت، وما شاء الله ثم شاء فلان، كما أرشد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ذلك[3].
المسألة الثالثة: المشيئة لا تستلزم المحبة:
ما يحصل في هذا الكون من صلاح وفساد وخير وشر لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى، فلا يقع في ملكه إلا ما شاء، ولكن الله لا يحب الشر والفساد، وإنما يحب البر والصلاح والخير الذي أمر به وشرعه على ألسنة رسله عليهم السلام، فمحبته تعالى ورضاه متعلقة بالإرادة الدينية الشرعية، وليس بالإرادة الكونية القدرية التي هي بمعنى المشيئة[4].
المسألة الرابعة: متى تجتمع المشيئة والقدرة؟
إن مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة يجتمعان فيما كان وما سيكون، ويفترقان فيما لم يكن ولا هو كائن، فما شاء الله كونه فهو كائن بقدرته لا محالة، وما لم يشأ الله تعالى إياه لا يكون، ليس لعدم قدرته عليه؛ فإن الله على كل شيء قدير، وإنما ذلك لعدم مشيئته سبحانه[5]؛ فسبحان الله العظيم الرب الكريم، الذي ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
[1] شفاء العليل (80) [دار الكتب العلمية، ط2].
[2] انظر: شرح العقيدة الطحاوية (1/133 ـ 138) [مؤسسة الرسالة، ط13، 1419هـ].
[3] انظر: كتاب التوحيد لابن عبد الوهاب مع شروحه (باب قول: ما شاء الله وشئت).
[4] انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (8/187، 188)، وشفاء العليل (88، 89)، والقول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين (3/165) [دار ابن الجوزي، الدمام، ط1].
[5] انظر: شفاء العليل (88، 89)، والقضاء والقدر للأشقر (32، 33) [دار النفائس، عمان، ط13، 1425هـ].
الفرق بين المشيئة والإرادة:
المشيئة : لم ترد في كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم إلا كونية، فتكون المشيئة من هذا الوجه أخص من الإرادة، وقال إسحاق بن إبراهيم الفارابي: «شاءَ مَشيئةً، وهي أخص من الإرادة»[1]، وتكون الإرادة أعم من المشيئة؛ لأنها وردت في كتاب الله تعالى وفي سُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم على قسمين:
القسم الأول: الإرادة القدرية الكونية التي هي مرادفة للمشيئة، ولا تتعلق بها محبة الله ورضاه.
القسم الثاني: الإرادة الدينية الشرعية، وهذه الإرادة الشرعية مختصة بما يحبه الله ويرضاه من أمور الشرع[2].
[1] ديوان الأدب (4/218).
[2] انظر: شفاء العليل (88، 89).
المشيئة : صفة من صفات الله الذاتية من حيث النوع وصفة من صفات الله الفعلية من حيث الآحاد، فهي من جملة الصفات التي أنكرتها الفلاسفة والجهمية والمعتزلة الذين ينكرون الصفات بالكلية، ومن جملة الصفات التي أنكرتها الكُلابية ومن وافقهم الذين ينكرون صفات الأفعال الاختيارية[1].
والحق الذي لا ريب فيه أنها صفة ثابتة لله تعالى، فما شاء كان وما شاء لم يكن، وهذا الذي دلت عليه أدلة الكتاب والسُّنَّة، وهو الذي يقتضيه العقل السليم والفطرة المستقيمة، فلا عبرة ولا التفات إلى ما خالف ذلك.
هذا وقد زعمت المعتزلة القدرية أن الشرك والكفر والمعاصي إنما هي تحصل باختيار العباد وإرادتهم وحدهم من غير مشيئة الله تعالى وإرادته، ولا شك أنه قول باطل وزعم فاسد مخالف لأدلة الكتاب والسُّنَّة؛ بل هو مخالف لأدلة العقل السليم والفطرة المستقيمة[2]، فزعمت المعتزلة القدرية أن المعاصي تحصل من غير إرادة الله ومشيئته.
والذي أوقعهم في هذا المأزق الخطير أنهم لم يفرقوا بين الأمر الكوني والأمر الشرعي، ولا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، وقد نبَّه على ذلك العلامة ابن القيم فقال: «وههنا أمر يجب التنبيه عليه والتنبه له، وبمعرفته تزول إشكالات كثيرة تعرض لمن لم يحط به علمًا، وهو أن الله سبحانه له الخلق والأمر، وأمره سبحانه نوعان: أمر كوني قدري، وأمر ديني شرعي. فمشيئته سبحانه متعلقة بخلقه وأمره الكوني، وكذلك تتعلق بما يحب وبما يكرهه، كله داخل تحت مشيئته، كما خلق إبليس وهو يبغضه، وخلق الشياطين والكفار والأعيان والأفعال المسخوطة له وهو يبغضها، فمشيئته سبحانه شاملة لذلك كله، وأما محبته ورضاه فمتعلقة بأمره الديني وشرعه الذي شرعه على ألسنة رسله، فما وُجِدَ منه تعلقت به المحبة والمشيئة جميعًا، فهو محبوب للرب واقع بمشيئته؛ كطاعات الملائكة والأنبياء والمؤمنين، وما لم يوجد منه تعلقت به محبته وأمره الديني، ولم تتعلق به مشيئته، وما وجد من الكفر والفسوق والمعاصي تعلقت به مشيئته، ولم تتعلق به محبته ولا رضاه ولا أمره الديني، وما لم يوجد منها لم تتعلق به مشيئته ولا محبته، فلفظ المشيئة كوني، ولفظ المحبة ديني شرعي، ولفظ الإرادة ينقسم إلى إرادة كونية، فتكون هي المشيئة، وإرادة دينية فتكون هي المحبة. إذا عرفت هذا فقوله تعالى: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] ، وقوله: {لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ *} [البقرة] ، وقوله: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] لا يناقض نصوص القدر والمشيئة العامة الدالة على وقوع ذلك بمشيئته وقضائه وقدره، فإن المحبة غير المشيئة، والأمر غير الخلق»[3]. وبذلك يعلم بطلان ما ذهب إليه المعتزلة القدرية في هذا الباب، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
[1] انظر من كتب المعتزلة: الكشاف للزمخشري (4/676) و(4/713، 714) [مكتبة العبيكان، ط1، 1418هـ].
[2] انظر: شرح أصول الاعتقاد (4/816، 817) [دار طيبة، الرياض، ط8، 1423هـ].
[3] شفاء العليل (88، 89).
1 ـ «اعتقاد أئمة أهل الحديث»، لأبي بكر الإسماعيلي.
2 ـ «رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب»، للأشعري.
3 ـ «شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة» (ج4)، لأبي القاسم اللألكائي.
4 ـ «شرح العقيدة الطحاوية» (ج1)، لابن أبي العز.
5 ـ «شفاء العليل»، لابن القيم.
6 ـ «صفات الله عزّ وجل الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي بن عبد القادر السقاف.
7 ـ «القضاء والقدر»، لعمر سليمان الأشقر.
8 ـ «مجموع الفتاوى» (ج3)، لابن تيمية.
9 ـ «معجم ألفاظ العقيدة»، لعالم عبد الله فالح.
10 ـ «مقالات الإسلاميين»، للأشعري.