حرف الميم / مشيئة العبد

           

المشيئة : مصدر من شاء، يقال: شاء يشاء مشيئة، جاء في لسان العرب: «المشيئة: الإرادة، شئت الشيء أشاؤه شيئًا ومشيئة ومشاءة ومشاية»[1]. وقال الفارابي: «شاءَ مَشيئةً، وهي أخص من الإرادة»[2].


[1] لسان العرب (1/103) [دار صادر]. وانظر: تهذيب اللغة (11/306) [دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 2001م]، والصحاح (1/58) [دار العلم للملايين، ط4].
[2] ديوان الأدب (4/218) [دار الشعب، القاهرة، ط1].


مشيئة العبد : هي إرادته التي بها يفعل أفعاله الاختيارية[1].


[1] مفردات القرآن للراغب (271).


يجب الإقرار بأن العبد له مشيئة وإرادة، وبناءً عليها كان التكليف، وهذه الإرادة والمشيئة تابعة لمشيئة الله عزّ وجل[1].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (16/81).


للعبد مشيئة وهي إرادته واختياره في الفعل، لكن مشيئته موقوفة على مشيئة الرب تعالى، ولا يقع الفعل منه حتى يشاءه الله سبحانه وتعالى، ومع هذا فلا بدَّ من إرادة الفعل منه، حتى يريد من نفسه إعانته وتوفيقه[1].


[1] انظر: شفاء العليل (96).


قال الله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152] ، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ *} [الشورى] .
وقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *} [الإنسان] . وقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ *وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *} [التكوير] .
وعن حذيفة رضي الله عنه؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان»[1].
فهذه النصوص ظاهرة الدلالة في إثبات مشيئة العبد وإرادته، وأنه تابع في مشيئته لمشيئة الله عزّ وجل.


[1] أخرجه أبو داود (كتاب الأدب، رقم 4980)، وابن ماجه (كتاب الكفارات، رقم 2118)، وأحمد (38/299) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/137) [دار العربية، ط2]: (رجاله ثقات على شرط البخاري، لكنه منقطع)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (رقم 137).


قال الإمام الشافعي رحمه الله: «قال الله عزّ وجل في كتابه العزيز: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فأعلم الله عزّ وجل خلقه أن المشيئة له دون خلقه وأن لا مشيئة لهم إلا أن يشاء الله عزّ وجل»[1].
وقال الشافعي أيضًا:
«فما شئتَ كان وإن لم أشأ
وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
خلقتَ العباد على ما علمتَ
وفي العلم يجري الفتى والمُسِن»
قال ابن عبد البر رحمه الله بعد أن ذكر هذه وأبيات بعدها: «كل ما في هذه الأبيات معتقد أهل السُّنَّة ومذهبهم في القدر لا يختلفون فيه»[2].
وقال السمعاني رحمه الله: «رد مشيئتهم إلى مشيئته، والمعنى: لا يريدون إلا بإرادة الله، وهو موافق لعقائد أهل السُّنَّة، أنه لا يفعل أحد شيئًا ولا يختاره ولا يشاؤه إلا بمشيئة الله»[3].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «فمن قال: إن العبد لا مشيئة له ولا اختيار، أو قال: إنه لا قدرة له، أو: أنه لم يفعل ذلك الفعل، أو: لا أثر لقدرته فيه، ولم يحدث تصرفاته؛ فقد أنكر موجب الضرورة»[4].
وقال السعدي رحمه الله عن مشيئة الله عزّ وجل: «فإن مشيئته نافذة عامة، لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثير، ففيها ردٌّ على القدرية، الذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة الله، والجبرية الذين يزعمون أنه ليس للعبد مشيئة، ولا فعل حقيقة، وإنما هو مجبور على أفعاله، فأثبت تعالى للعباد مشيئة حقيقة وفعلاً، وجعل ذلك تابعًا لمشيئته»[5].


[1] الاستذكار لابن عبد البر (8/259) [دار الكتب العلمية، ط1، 1421هـ].
[2] الاستذكار لابن عبد البر (8/265).
[3] تفسير السمعاني (6/124) [دار الوطن، ط1].
[4] المصدر السابق (3/237 ـ 238). وانظر: درء تعارض العقل والنقل (1/326 ـ 329).
[5] تفسير السعدي (898) [مؤسسة الرسالة، ط1].


خالف في مشيئة العبد فرقتان؛ بناء على قولهم في خلق أفعال العباد:
الفرقة الأولى: الجبرية ، حيث نفوا مشيئة العبد بناء عل نفي فعل العبد وإضافته إلى الرب تعالى[1]، ومنهم الجهم بن صفوان حكى عنه الأشعري أنه يقول: إنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا الله وحده وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز كما يقال: تحركت الشجرة ودار الفلك وزالت الشمس، وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله سبحانه وتعالى، إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل، وخلق له إرادة للفعل واختيارًا له منفردًا له بذلك كما خلق له طولاً كان به طويلاً ولونًا كان به متلونًا[2].
الفرقة الثانية: المعتزلة القدرية ، وهؤلاء أثبتوا مشيئة العبد وغلو في ذلك، فنفوا أن تكون مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله عزّ وجل، وأنكروا ذلك مدَّعين أن ذلك جبر يتنافى مع التكليف[3].
وفي بيان بطلان هذه المذاهب يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: «وأرباب هذه المذاهب مع كل طائفة منهم خطأ وصواب، وبعضهم أقرب إلى الخطأ، وأدلة كل منهم وحججه إنما تنهض على بطلان خطأ الطائفة الأخرى، لا على إبطال ما أصابوا فيه، فكل دليل صحيح للجبرية إنما يدل على إثبات قدرة الرب تعالى ومشيئته، وأنه لا خالق غيره، وأنه على كل شيء قدير، لا يستثنى من هذا العموم فردٌ واحد من أفراد الممكنات، وهذا حق ولكن ليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون العبد قادرًا مريدًا فاعلاً بمشيئته وقدرته، وأنه هو الفاعل حقيقة، وأفعاله قائمة به، وأنها قائمة به لا بالله، وكل دليل صحيح يقيمه القدرية، فإنما يدل على أفعال العباد فعل لهم قائم بهم، واقع بقدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم، وأنهم مختارون غير مضطرين ولا مجبورين، وليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون الله سبحانه قادرًا على أفعالهم، وهو الذي جعلهم فاعلين»[4].


[1] الملل والنحل للشهرستاني (1/85) [مؤسسة الحلبي].
[2] مقالات الإسلاميين للأشعري (1/219) [المكتبة العصرية، ط1، 1426هـ].
[3] الانتصار في الرد على القدرية الأشرار ليحيى العمراني (1/294) [أضواء السلف، الرياض، ط1، 1419هـ]، وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار (88).
[4] شفاء العليل (94).


1 ـ «منهاج السُّنَّة النبوية».
2 ـ «أقوم ما قيل في القضاء والقدر»، لابن تيمية.
3 ـ «التكليف في ضوء القضاء والقدر»، لأحمد علي عبد العال.
4 ـ «خلق أفعال العباد»، للبخاري.
5 ـ «شفاء العليل»، لابن القيم.
6 ـ «قدرة الله وقدرة العبد بين السلف ومخالفيهم»، لأحمد بن صالح الزهراني.
7 ـ «القضاء والقدر»، لأبي الوفا درويش.
8 ـ «القضاء والقدر في الإسلام»، لفاروق أحمد الدسوقي.
9 ـ «القضاء والقدر»، لعبد الرحمن المحمود.
10 ـ «القضاء والقدر»، لعمر سليمان الأشقر.