حرف الميم / مشيئة الله

           

المَشِيئةُ : الإِرادةُ، وهي مصدر شاءَ يَشاءُ مَشِيئةً، وقالوا: كلُّ شيءٍ بِشِيئةِ الله ـ بكسر الشين مثل شِيعةٍ ـ؛ أَي: بمَشِيئتِه، وقد شِئتُ الشيءَ؛ أردته مَشِيئَةً وَمَشَاءَةً ومشَائِيَةً، وَقيل: المشيئة هِيَ الإِرَادَة المتعلّقة بأحد الطَّرفَيْنِ، وقيل: هي صفة مخصصة لأحد طرفَي الْمُقدر بالوقوع[1].


[1] انظر: لسان العرب (1/103)، تاج العروس للزبيدي (1/293)، والفروق اللغوية للعسكري.


مشيئة الله : هي إرادته الكونية القدرية التي هي موجبة لوقوع المراد ولا يمكن تخلفه عنها، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن[1].


[1] انظر: مجموع الفتاوى (14/16) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط2، 1425هـ]، وشفاء العليل (90) [دار الكتب العلمية، ط 3، 1413هـ].


الإرادة الكونية القدرية.



يجب الإيمان بمشيئة الله تعالى وأنها الموجبة لكل شيء؛ وإثبات عموم مشيئة الله عزّ وجل هي المرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر الذي لا يصح الإيمان بالقدر إلا بالإيمان بها. وذلك بالإيمان بأن الكون كله صغيره وكبيره ودقيقه وجليله خاضع لتلك المشيئة، فلا تسقط ورقة من شجرة إلا بعلم الله عزّ وجل ومَشيئته، ولا تكون حركة ولا سكون إلا بعلم الله عزّ وجل ومشيئته، ولا تكون طاعة ولا معصية ولا يقع خير ولا شر إلا بعلم الله عزّ وجل ومشيئته؛ إذ هو المتصرف في الكل والمدبر له[1].


[1] انظر: منهاج السُّنَّة (5/311)، وشفاء العليل (80).


إن مشيئة الله تعالى نافذة؛ فما شاءه الله تعالى كان، وما لم يشأه لم يكن، ومشيئته سبحانه شاملة لكل ما يجري في الكون، فلا يخرج شيء عن مشيئته تعالى، ولا يحدث في الكون شيء من غير مشيئته سبحانه[1].


[1] انظر: شفاء العليل (80).


قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *} [التكوير] .
وقال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ *وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ *} [المدثر] .
وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ *} [الأنعام] .
وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *} [الإنسان] .
وعن أبي قتادة رضي الله عنه حين ناموا عن الصّلاة، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء» فقضوا حوائجهم، وتوضؤوا إلى أن طلعت الشمس وابيضت، فقام فصلى[1].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكلّ نبي دعوة، فأريد إن شاء الله أن أختبي دعوتي شفاعة لأمّتي يوم القيامة»[2].
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أتاه السّائل قال: «اشفعوا فلتؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء»[3].


[1] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7471).
[2] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7474)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 198).
[3] أخرجه البخاري (كتاب التوحيد، رقم 7476)، ومسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2627).


قال ابن مسعود رضي الله عنه: «كل ما هو آت قريب إلا أن البعيد ما ليس بآت لا يعجل الله لعجلة أحد ولا يخف لأمر الناس، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الله أمرًا ويريد الناس أمرًا، ما شاء الله كان ولو كره الناس، لا مقرِّب لما باعد الله، ولا مُبعِد لما قرَّب الله، ولا يكون شيء إلا بإذن الله»[1].
وقال أحمد بن حنبل: «الاستطاعة لله والقوة. ما شاء الله كان من ذلك، وما لم يشأ لم يكن، ليس كما يقول هؤلاء؛ يعني: المعتزلة: الاستطاعة إليهم»[2].
وقال ابن بطة: «فإن أهل الإثبات من أهل السُّنَّة يجمعون على الإقرار بالتوحيد وبالرسالة: بأن الإيمان قول وعمل ونية، وبأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومجمعون على أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون»[3].
وقال ابن تيمية: «وأما الدرجة الثانية؛ فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة؛ وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلا ما يريد»[4].


[1] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (جامع معمر، رقم 20198)، ومن طريقه ابن بطة في الإبانة (4/86) [دار الراية، ط1].
[2] السُّنَّة للخلال (3/559) [دار الراية، الرياض]
[3] الإبانة لابن بطة (2/557).
[4] الواسطية (3/149) [ضمن مجموع الفتاوى].


المسألة الأولى: الاحتجاج بمشيئة الله:
قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ *قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ *} [الأنعام] ، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *} [يس] ، فهذه الآيات فيها احتجاج المشركين بالمشيئة، ولم يكذبهم الله عزّ وجل في كون شركهم واقع بمشيئته؛ بل النصوص الكثيرة تدل على أن كل ما وقع في هذا الكون إنما وقع بمشيئة الله عزّ وجل، وعليه فما الجواب عن معنى هذه الآيات التي جعلت قول المشركين ما قالوه سببًا في عذابهم كما في آية الأنعام، وعقب الله عزّ وجل بعدها بقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ *} مؤكدًا أن الهداية بيده سبحانه وتعالى.
الجواب عن ذلك : أن مقولة المشركين هي من باب (كلمة حق أريد بها باطل)؛ فهم ما قالوا ما قالوه على وجه الإقرار لله عزّ وجل بعموم المشيئة والتدبير، وإنما قالوه ردًّا للحق ودعوة الرسل عليهم السلام، ومرادهم بقولهم هذا: إما أنهم يقولون: إن مشيئته دليل على رضاه عن فعلنا وقبوله لشركنا، بدليل أنه لو كرهه لهدانا لغيره، فاستدلوا بالقدر على رضا الله عزّ وجل عن فعلهم. وإما أنهم أرادوا أن فعلهم حلال وليس محرمًا أصلاً، بدليل أنه لو كان محرمًا عليهم لصرفهم عنه؛ فإنه يفعل ما يشاء ويتحكم بعباده وفق ما يريد. وإما أنهم أرادوا معارضة الشرع بالقدر، فهم بين أنهم استدلوا بالمشيئة على رضا الله عزّ وجل عن فعلهم، أو استدلوا بالمشيئة على صحة فعلهم، أو عارضوا الشرع بالقدر.
قال شارح الطحاوية مبيّنًا وجه إنكار الله عزّ وجل لقولهم: «إنه أنكر عليهم ذلك؛ لأنهم احتجوا بمشيئته على رضاه ومحبته، وقالوا: لو كره ذلك وسخطه لما شاءه، فجعلوا مشيئته دليل رضاه، فردَّ الله عليهم ذلك، أو أنه أنكر عليهم اعتقادهم أن مشيئة الله دليل على أمره به، أو أنه أنكر عليهم معارضة شرعه وأمره الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه بقضائه وقدره، فجعلوا المشيئة العامة دافعة للأمر، فلم يذكروا المشيئة على جهة التوحيد، وإنما ذكروها معارضين بها لأمره، دافعين بها لشرعه؛ كفعل الزنادقة، والجهال إذا أمروا أو نهوا احتجوا بالقدر»[1].


[1] شرح العقيدة الطحاوية (1/105).


الفرق بين المشيئة والإرادة:
تأتي المشيئة بمعنى الإرادة، لكن استخدام الشارع حدد فرقًا واضحًا بينهما؛ فالمشيئة لم تأت كما يقول الجرجاني: «إلا لإيجاد المعدوم أو إعدام الموجود»[1]، وهي التي يسميها أهل العلم: الإرادة الكونية القدرية؛ أي: التي يكوّن الباري عندها الأشياء أو يمنع وجودها.
أما الإرادة فتأتي على معنيين: الإرادة الكونية القدرية، والإرادة الدينية الشرعية،
فالمشيئة أعم من جهة وقوعها، فتشمل ما يحب الله عزّ وجل وما لا يحب. أما الإرادة فهي أعم من جهة معناها، فهي تشمل المشيئة وتشمل الإرادة الدينية.
قال الجرجاني: «فالمشيئة أعم من وجه من الإرادة ومن تتبع مواضع استعمالات المشيئة والإرادة في القرآن يعلم ذلك، وإن كان بحسب اللغة يستعمل كل منهما مقام الآخر»[2].


[1] التعريفات للجرجاني (277) [دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ].
[2] التعريفات للجرجاني (277). وانظر: منهاج السُّنَّة النبوية (3/182).


خالف في إثبات المشيئة: المعتزلة نفاة القدر؛ فإنهم أنكروا صفات الله عزّ وجل ومنها: الإرادة وزعموا أن إرادة الله عزّ وجل مخلوقة لا في محل، وهم لا يفرقون بين الإرادة والمشيئة، ويجعلونها من باب واحد، وإنكارهم للقدر هو إنكارهم للمشيئة وخلق الأعمال، وإنكارهم للقدر مبني على قولهم بالعدل الذي هو عندهم: استيفاء الحق من الغير، وأن من القبيح عقلاً أن يأمر الله عزّ وجل بالشرع ثم يقدر على العبد خلافه[1].


[1] انظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار (132، 133، 440، 457، 458)، والمغني في العدل والتوحيد (6/218)، ومقالات الإسلاميين (1/153)، والفرق بين الفرق (133، 134، 151، 169).


إن النصوص التي سبق ذكرها في الأدلة على المشيئة، وكذلك الأدلة التي سبق ذكرها في مصطلح القدر ترد على منكري القدر، وهي أدلة صريحة واضحة، وكذلك خالفوا الإجماع في ذلك، وهذا كله دليل على بطلان مذهبهم؛ بل بطلانه وفساده معلوم بضرورة الشرع والعقل والفطرة.
قال ابن القيم رحمه الله: «وهذه المرتبة ـ يعني: المشيئة ـ قد دلَّ عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه، وأدلة العقول والعيان، وليس في الوجود موجب ومقتض إلا مشيئة الله وحده؛ فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، هذا عموم التوحيد الذي لا يقوم إلا به، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وخالفهم في ذلك من ليس منهم في هذا الموضع، وإن كان منهم في موضع آخر، فجوَّزوا أن يكون في الوجود ما لا يشاء الله، وأن يشاء ما لا يكون، وخالف الرسل كلهم وأتباعهم من نفي مشيئة الله بالكلية، ولم يثبت له سبحانه مشيئة واختيارًا أوجد بها الخلق»[1].


[1] شفاء العليل (80).


1 ـ «أقوم ما قيل في القضاء والقدر»، لابن تيمية.
2 ـ «التكليف في ضوء القضاء والقدر»، لأحمد علي عبد العال.
3 ـ «خلق أفعال العباد»، للبخاري.
4 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي.
5 ـ «شفاء العليل»، لابن القيم.
6 ـ «قدرة الله وقدرة العبد بين السلف ومخالفيهم»، لأحمد بن صالح بن حسن الزهراني.
7 ـ «القضاء والقدر»، لأبي الوفا درويش.
8 ـ «القضاء والقدر في الإسلام»، لفاروق أحمد الدسوقي.
9 ـ «القضاء والقدر»، لعبد الرحمن المحمود.
10 ـ «القضاء والقدر»، لعمر سليمان الأشقر.